الرٍباط المقدس

تزينت أجارثا بأبهي الزينة، اللون الأخضر في كل مكان خلاباً سراقاً للعين، وتعطرت بأفضل العطور بالمسك والعنبر والريحان، وأرسلت الشمس رداء ذهبياً بأشعتها فجعلت الأجواء كأنها العيد، وتجمع الأطفال أمام بيت الحكيم يتراقصون ويمرحون وكأن السعادة لم تخلق إلا هنا.
تري الجميع سعيداً وكأنهم مشتاقون للفرح من بعد أن توفي من خيرتهم ثلاث من الجنود الأشداء، فتري النسوة المتزوجات يرتدين الزي الأبيض مع أزواجهم والغير متزوجات يرتدين اللون الذهبي الذي يزداد زهواً مع أشعة الشمس الذهبية.
أطل الحكيم من بيته يلوح للجميع ويرحب بهم، فالبيت الذي يدخله الضيوف يزدحم بالملائكة، فجلس الجميع يشاهدون العروض المذهلة التي يقوم بها العمالقة من رقص بالحيوانات ومبارزة بالسيف ويحاوطهم الأطفال من جميع الجهات فرحين، بينما تكتفي النسوة بالتصفيق من بعيد.
أقترب الحكيم يرحب بالجموع الغفيرة حتى أقترب من بعيد رئيس الحكماء فتوجه إليه مرحباً وقال:
-  مرحباً بالأخ الصالح، لماذا أجهدت نفسك وأتيت كل هذه المسافة يا أخي.
فقال رئيس الحكماء مبتسماً:
-  كيف لي ألا أحضر عقد قران أبنة أخي أيها الحكيم، والأن أخبرني هل وصل مالك.
نظر الحكيم إلي الشمس ثم قال:
-  سيصل بين فينة وأخري، سيصل إلى غرفته وأنا أعددت له كل ما يريد، تفضل إلى الداخل يا أخي.
***
أنتهي مالك من متابعه مركزة العلمي الذي يشيده وخرج من مكتبة يحمل حقيبة يده، ثم أبلغ سكرتيرته بأنه سينصرف الأن وطلب منها متابعة العمل أول بأول، ثم أخرج هاتفة وهاتف والدته وأخبرها أنه سيتأخر في العمل وأنه سيغلق هاتفة حتى لا تقلق عليه، وأوصاها بالمحافظة على نفسها والأطفال وما أن أنتهي من المحادثة حتي سار مغادراً مركزة وما أن تأكد من عدم رؤية أحد له، أخرج التميمة من حقيبته وارتداها بيده وضغط على البلورة المليئة بالدماء الزرقاء فأحاطته هالة كبيرة وارتفعت به في الهواء وحجم مالك يزداد مع مرور الوقت ثم اختفت به وكأنها لم تكن.
ظهرت الهالة في الحجرة الخاصة به بمنزل الحكيم، يقف مالك العملاق بداخلها وأسفل قدميه ملابسة الممزقة التي أصبحت لا تناسب حجمه العملاق.
أطمئن بأن كل شيء موجود بالغرفة من ماء وسائل يغتسل به والأهم من ذلك ملابسه فوضع حقيبته الصغيرة جانباً بعد أن أخفى ملابسه الممزقة بها وتوجه إلى الماء للاغتسال.
أنتهي من الاستحمام وتوجه إلى ملابسه التي هي عبارة عن قميص ذهبي بأكمام عكس السابقة التي كانت أكمامها منزوعة منها، وتنتهي تلك الأكمام بأساور زرقاء لامعة، ويلتصق بالقميص بنطال ذهبي يزينه حزام أزرق اللون، ويرقد بجوار تلك الملابس حذاء ذهبي اللون هو الأخر.
نظر لملابسه التي صنعت خصيصاً لهذا اليوم بأعجاب شديد، وبداخله فرحة عارمة بهذا اليوم، اليوم الذي سيملك به أروررا كما ملكته الي الأبد، اليوم الذي تمناه منذ أن خَطت قدمه جوف الأرض، اليوم الذي ظن كثيراً أنه لن يأتي حتى خيب الله ظنه.
أرتدي ملابسه ووقف ينظر لنفسه وإلى هيئته وتذكر أول مرة وطأة قدمه هذه الأرض الطاهرة، تذكر تفاخره بنفسه وبهيئته العملاقة، تذكر كل ما تعلمه هنا وما أكتسبه من هذه الأرض وأنساه ألمه وحزنه.
تذكر هدية جوف الأرض له التي هي أروررا، أبتسم عندما تذكر قصتها معه وشعر بسعادة تغمره لأنه سيراها وسيملكها إلى الأبد، ثم شرد قليلاً وهو يتذكر يوم عقد قرانه منذ سنوات على زوجته، أكتشف أن الفرحة واحدة ولكن مع شخصين مختلفين تماماً، سيدة سطح الأرض وأميرة جوف الأرض..
أغمض عينيه كأنه يعتذر للنائمة طويلاً على إدخال أحد أخر معها إلى قلبه، ثم نكس رأسه وهو يفكر بها ويدعوا لها، وأستفاق علي صوت الحكيم ورئيس الحكماء يضحكون بالخارج، فعزم على الخروج.
أرتدي حذائه وهندم شعره وألقي نظرة أخيرة على هيئته ثم أتجه إلى الباب الذي فتح من تلقاء نفسه ليعلن عن وصول الحكيم الثاني لأجارثا.
*****
ما أجمل اللقاء بعد غياب مع أناس تحبهم ويحبوك، ما أجمل أحضان الاشتياق، ما أجمل إغماض العيون وقت العناق، وما يوازي فرحه عودة الغائب بعد الفراق.
أحتضنه الحكيم بشدة وبعنف، تشعر للحظات أنه يدخله إلي داخل قلبه ليطمئنه ويفرحه بعودة وَلده، أرتبكت العيون بين أبتسام ودموع، ففي الحزن دموع وفي الفرح دموع، ترك الأبن نفسه يرتوي من أحضان أبية الظمئانة هي الأخرى، وكل منهما يحسد الأخر علي دفئ أحضانه، متلاصقين لقتل الشوق في قلوبهم ولكن الشوق لا يُقتل لمحبوب.
الجميع حولهم يهللون بعودة الحكيم، فأفاقهم التهليل من الترحيب ليكمل مالك ترحيبه برئيس الحكماء وبزوجة الحكيم فيوري والبقيه الباقية الموجودة حوله.
لم تتوقف عيناه عن التحديق في وجوه الجميع، يبحث عن التي أحيت نبض قلبه، عن التي رسمت له إشارات رجوعه من طريق الألم وهي ممسكه بيده ولم تفارقه أبداً، يبحث عن ذلك الكوكب الدُري الذي سَلب لُبه وأطار عقله وأسر قلبه، فلم يجدها.
فنظر إلي الحكيم وقبل أن يتفوه بكلمة واحدة قال له الحكيم:
-  أمسك عليك نفسك يا بني، إنها بالداخل مع إينور.
أبتسم مالك وشعر بالإحراج وباعد وجهه عن وجه الحكيم ثم قال:
-  هل هناك أي شيء جديد حدث؟
هنا نظر له الحكيم متعجباً وقال:
-  الأن، هذا ليس وقته يا بني.
أبتسم مالك وقال:
-  أريد أن أطمئن يا أبي بأنهم لا ينوون فعل شيء أخر يفسد علينا فرحتنا.
ضحك الحكيم وقال:
-  لا تقلق يا بني، منذ ما حدث وأنا لا أترك حدودي بدون حراسه، ولكن الغريب أنهم لم يحدث منهم أي رد فعل.
نظر مالك حوله وقال:
-  وهذا أكثر ما يقلقني يا أبي، من المؤكد أنهم رأوا سحب موتاهم وموتانا، أشعر أنهم يخططون لشيء كبير لا أدري ما هو، فصمتهم حتى الأن يقلقني.
هنا شرد الحكيم وقال:
-  تفكر مثلي تماماً يا مالك، لقد مر أكثر من عشرون يوماً ولم يحدث لهم أي رد فعل، من الممكن أنهم سئموا القتال، أو أنهم شعروا بالخسارة إن فعلوا شيء.
نظر له مالك وقال:
-  لا أعرف يا أبي ولكني متأكد من أنهم لن يصمتوا وصمتهم هذا يدل على أنهم يخططون لشيء.
هنا نهره الحكيم وهو ينظر إلى غرفة أبنته التي فُتح بابها على مصراعيه لتظهر أروررا فقال الحكيم:
-  دعنا منهم الأن، أنظر من يأتي من بعيد.
نظر لها فطار قلبه فرحاً، أبتسمت عينيه لجمال ما تري، أتت متزينة باللون الأزرق الباهي، بحجاب سماوي زاهي، تحفها الكثير ممن هم في مثل عمرها، وبجوارها إينور ولكنه لم يري غيرها، وكأنه أرغم الجميع على المغادرة من هذا المشهد.
شعر بأن قدمه التصقت بالأرض، فوقف حيث هو يذكُر أسم الله ليحفظها من عين كل حاسد، ويستعيذ به من كل حاقد، ويخبره بأنه معها أصبح زاهد، لم يعد يبغي شيئاً أخر، شعر بأنه ملك الأرض وجوف الأرض وما عليهم بالتي تقف أمامه.
دعاها أبيها إلى الاقتراب فامتثلت بدلال يليق بها، أذن لها بالجلوس بجانب حبيبها لأول مرة فأطاعت راضية، جلس هو الأخر بجانبها ينظر إلى الوجه الذي لم تفارق الفرحة ملامحه ولم ترتفع عينيها من الأرض، استفاق علي صوت الحكيم بأن الشيخ الذي سيعقد قرانهم قد حضر.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي