الخوف

تم الوثاق، تقيدت به وتقيد بها، أصبحت مِلكهُ وأصبح دُنيتها، لا اعتراض على النظرات بعد الأن، لا مشكلة مع الكلام المعسول بعد الأن، لا داعي للاختباء مجدداً، لم يعد للعقاب مكان، ذهب عنهم التفكير في الأخر كما السابق، وتبدل مكانه الفرح والسعادة، سينظر لها كما يشاء، سيحبها كيفما شاء، أمنوا مكر الأرض وغضب ربها حينما الله شاء، الجميع فرح والأجواء سعيدة ومليئة بالزغاريد والعروض المضحكة، ولكنهم ليسوا هنا هم في مكان أخر.
أنتهت الاحتفالات فطلب الحكيم من مالك أن يخرج إلى أهل أجارثا ومعه زوجته فتعجب مالك بينما قال له الحكيم:
-  هذا تقليد أرضنا، الجميع يأتي قبل عقد القران وبعده يذهب الزوج وزوجته إليهم ليحيوه.
فأعجبه مالك الأمر، وقام ومد يده إلى زوجته وسار بها، خرجوا لأول مره ممسكين بأيدي بعضهم البعض، الجميع يهنئ ويبارك ويتمني دوام السعادة والفرح، ساروا وسط الحشود يشكروهم على مشاركتهم فرحتهم حتى أنتهي بهم الطريق إلى النهر الذي شرب منه مالك أول مرة.
طَلب منها مرافقته فامتثلت وساروا مبتعدين عن الجميع ومقتربين من النهر، جلس مالك كجلسته الأولي حين أتى هنا في البداية، وأغترف الماء بيده وأقترب من أروررا وأسقاها ثم شرب هو الأخر ومسح بيده على وجهه وقال والهواء يداعب وجهه:
-  هذا المكان له مكانه خاصة بقلبي يا أروررا، أردت أن أشركك معي فيه، كنت أأتي إلى هنا في زيارتي الأولي لأشتكي منك إلى النهر وإلي سوار.
تعجبت أروررا من حديثه وقالت:
-  تشتكي مني أنا!! لماذا؟
أبتسم مالك وقال:
-  أشتكي له من جمالك الذي أسرني وضيق الحياة بعيني وملأها وسعاً بقلبي، وأشتكي له عينيك التي أسكرتني وأنا الذي لم أقترب لأي شيء يسكر عقلي، ومن قلبي الذي أخذتيه مني أخذ عزيز مقتدر.
نظرت له مضيقة عينها وقالت:
-  أنا فعلت كل هذا؟
أومأ مالك برأسه وقال:
وأثر ولولا أن كلماتي لا تسعفني لقلت أكثر من هذا.
نظرت أوررا بالأرض خجلاً وقال وكأنها تهمس:
تتحدث وكأنك كالملاك البريء، وكأنك لم تأسرني بطباعك وقصتك، وكأنك ولم تأسرني بإخلاص لذويك، وكأنك ولم تأسرني برجولتك وشجاعتك، صدقني يا مالك إن كنت تعتقد بأنني كثيرة عليك فأنت أكثر مني إلي.
أبتسم فرحاً ثم شرد بعينيه إلى الماء فسألته أروررا قائلة:
-  ماذا بك يا مالك؟ لما أخترت هذه الساعة للضيق.
نظر لها وقال:
-  أنا لست متضايق، ولكني اعتدت الفرح لساعات والحزن لسنين، كل ما في الأمر إنني خائف.
نظرت له بتعجب ثم قالت:
-  خائف من ماذا؟
تنهد قليلاً ثم قال:
-  خائف من الغد، من المستقبل الغامض، خائف من أعدائي.
قالت له أروررا:
-  من هم أعدائك؟ أتقصد الغيلان؟
أبتسم في وجهها وقال:
-  أعدائي ليسوا أنس أو جان، عدوى الأول هو وحدتي وأنا بين بنى الإنس والجان، أن أفقد من أحب مرة أخرى، أن أعاني من وجع الفراق مرة أخرى.
وعدوي الأخر هو القلق، أنا لا أفعل شيء سوي القلق، عليك وعلى أمي وعلى أولادي وأخواتي، مجرد التفكير في هذا كله انكسار وهزيمة.
وضعت يدها على وجهه وجعلته ينظر إليها وقالت:
-  من الأن لن يكون هناك غير الفرح والحب، أنا أثق في ذلك.
أبتسمت له فأضاءت عتمته وأزاحت حزنه جانباً، وكأنها تذكره بأنها من اليوم زوجته، فبادلها الابتسامة ووقفا سوياً ينظران إلى النهر وإلى الشمس التي لأول مرة تغرب عليهم وهم في رباطهم المقدس.
أمسك يدها عائداً إلى المنزل وهو يحيي ويرفع يده لكل من يقابله ويبارك له، حتى وصلا الى منزل الحكيم ودلفا إلى الداخل ليجد الحكيم وزوجته وإينور ورئيس الحكماء في انتظارهم فجلسا معهم يتسامرا، بينما قامت إينور وأروررا لإعداد طعام العشاء وما أن انتهوا جلس الحكيمان ورئيس الحكماء وتناولوا الطعام حتى شبعا وانشغلا قليلاً بالحديث قبل أن يستأذن رئيس الحكماء بالمغادرة علي وعد بالعودة مرة أخري يوم الزفاف المقرر له بعد عشرة أيام من الأن.
أنصرف الرئيس وجلس الجميع سوياً يباركون لمالك وزوجته بينما التساؤلات المُحرجة تتقافز على وجه إينور ولكنها تشجعت وقالت موجهه حديثها إلي مالك علي استحياء:
-  كيف هو حال يوسف أيها الحكيم؟
حل الصمت على الجميع من السائل والمسئول عنه، فتبسم مالك قائلاً:
-  بخير يا إينور، ويرسل تحياته وسلامة للجميع.
تورد وجهها خجلاً فنكست رأسها ونظراتها إلى قدميها والجميع ينظر إليها مشفقاً على حالها بينما قال مالك موجهاً حديثه للحكيم:
-  هل تحدثت مع الرئيس يا أبي بشأن يوسف وأهلي؟
رد الحكيم بأسي:
-  تحدثت يا بني ولكنه رفض، كما رفض فكرة حضور والدتك وأولادك الزفاف، إنه متقيد بقوانين أجارثا.
أحتد مالك بالحديث قائلاً:
-  إنها قوانين وضعها البشر ومن الممكن أن تتغير، كيف أقيم زفافي بدون أخي وبدون أمي وأولادي، لم أطلب منه إلا ساعات قليلة.
ثم شرد قليلاً وقال بصوت حزين:
-  كيف لي أن أفرح بدون أمي وأخي يا أبي.
حل الصمت وكأنه ينصت هو الأخر منتظراً أن يتحدث أحد ليعيد البهجة مرة أخري، بينما الجميع منكسين رؤوسهم من الحزن، فقال الحكيم:
-  لا تقلق يا بني، سوف أصل معه إلى حل قريباً، سيعقد المجلس بعد أسبوع من الأن لمناقشة بعض القرارات الهامة، وكان من المقرر أن تكون حاضراً ولكني اعتذرت لك نيابة عنك لترتيبات عًرسك.
أومأ مالك برأسه بأسي بينما قالت فيوري وهي تهون عليه:
-  ألا نكفي نحن أيها الحكيم، ألست أمُك أيضاً.
أبتسم مالك متناسياً حزنه وقال:
-  يعلم الله أنكِ في مكانتها بالعقل والقلب، ولكن.
قاطعته قائلة:
-  لا تكمل يا بني أنا أعلم ما يدور بخلدك ولا تقلق فبرخيا لن يصمت وسيحضر موافقة المجلس بالإجماع، وستري.
أبتسم مالك وعادوا جميعاً إلى ما كانوا عليه من الضحك والبهجة حتى تأخر الوقت فقال مالك:
-  سوف أرحل الأن إن شاء الله لأكمل ترتيبات مركز الأبحاث.
أكتست ملامح الحزن على وجه أروررا فأكمل مالك قائلاً:
-  وسأعود بعد أسبوع وأقيم معكم إلى أجل غير مسمي.
تغيرت ملامح الحزن بالفرح والأمل على وجه أروررا فقام مالك من مجلسه وهو ينظر إلي الحكيم قائلاً:
-  وأتمني أن أتي ومعي أهلي وأخي يا أبي، أستودعكم الله.
أحتضن الحكيم مودعاً إياه وبادل الجميع الابتسامات والوداع من بعيد حتى أتي دور أروررا فتفرق الجميع من حولهم مبتعدين فاقترب منها مالك ووقف أمامها قائلاً:
-  حتى الأن لا أصدق ما أنا فيه، حتى الأن أشعر وكأنني بداخل حُلم لا أريد مفارقته، لم أعتد أن تبتسم لي الدنيا هكذا، ولأول مرة لا أقوى على الانتظار، إنها عشرة أيام وكأنها عشرة سنين، عديني أن تكوني بأمان وتحرصي على سلامتك حتى أكون بجوارك، فلن أطمئن على سلامتك إلا وأنتي أمام عيني.
أبتسمت أروررا وقالت:
-  لا تقلق يا زوجي العزيز، سأكون بخير، أعدك بهذا.
نظر لها طويلاً دون حديث وكأنه يُشبع عينيه منها حتى يراها مرة أخري فتملكها الخجل وباعدت وجهها من أمام عينيه اللامعتين فاكتفي باقتسام الشهادة معها واستودعها الله وانصرف متجهاً إلى غرفته ومقر حضوره وانصرافه، وأمسك حقيبته ونظر إلى غرفته يودعها ثم نظر إلى تميمته وضغط على البلورة الحمراء فأختفي كأنه لم يكن..
*****
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي