الفصل الثالث

نادى "عبد الجبار" بصوت جهور: "قاسم"_صمت للحظات حتى يلتفت له اخيه_ لا تنسى وعدي لك فهو أقرب مما تتخيل يا أبن أم.

ألتفت له "قاسم" رافعا رأسه بشموخ: على جثماني يا "عبد الجبار"، وقتها فقط سوف تكون أبنتي لأبنك، ووقتها ستأخذ أنت أملاكي، لكن فالتعلم أني لست بخائف من الموت، لا ورب الكعبة إذا ظننت هذا فأنت أحمق؛ لأن ربك يستطيع أن يمحوك عن الوجود بلحظه وكأنك لم تكن.

صمت لبرهة وأكمل قائلا: لو كان شخص أخر غيرك، لأتخذ مما حدث لحمدان كبير البلدة عبرة وعظه؛ لكن قلبك صار أقسى من الحجارة، وأسفي عليك أبن أم، قبل أن أغادر دعني أذكرك أنه يوجد من هو أشد منك قوة، وأكثر منك جبروتا، وهو من وهبك ما لديك الآن، أراك في وقت آخر يا أخي.

غادر "قاسم" المنظرة وهموم الدنيا والآخرة سقطت على كاهله.

عاد بصحبه زوجته للمنزل.

وجدت أختها "هدى" ووالدتها تستعدان للرحيل، فقد أتيتا للعزاء مع أخيها لتأدية الواجب، وعندها طلبت منهم أن يصطحبا "أمل" معهم للمنزل، وأن يبقيا معها حتى تعود.

"أسماء": إلى أين؟ فلتمكثوا هنا الليلة؛ فقد أنتصف الليل ولن تجدوا من يقلكم.

"هدى" بابتسامة لطيفه: لا تقلقي فخطيبي "عمر" ينتظرنا بالسيارة على بداية الطريق، أسمعي لقد كتبت "أمل" واجباتها، وقد أكلت لكن بصعوبة لقد أصبحت أكثر عندا من دلالك لها.

كادت ترحل لكنها توقفت لتردف: لقد كدت أنسى كانت أبنتك تبكي بشده، وتشتكي أن صبيا يدعى "عاصم" من أبناء عمومتها قد ضايقها، سوف أدع لك أمر الاستفسار عن الأمر، والآن أستودعك الله.

ما أن وقع أسم "عاصم" على مسمع "أسماء" اصابتها غصه لتبتلعها، لتسري بجسدها رعشه خفيفة، لكنها أفاقت بسرعة واحتضنت "هدى" لتودعها وأغلقت خلفهم باب المنزل، وإذا بصوت شيء زجاجي يتحطم في غرفة نومها، فركضت مسرعة باتجاه الصوت.

وما أن وصلت حتى وضعت يدها على قلبها لرؤيتها "قاسم" أمام خزانة الملابس، وقبضته أخترقت اللوح الزجاجي الذي تناثر بكل مكان حوله، ويده اليسرى تنزف بشده، ووجهه يكاد ينفجر من شده حمرته من الغضب.

كان ثابتا كأنه غير واعي بمحيطه، ولا يشعر بتلك الجراح التي ملأت يده.

أسرعت "أسماء" وسحبته بعيدا، كان كالدمية بيدها، ساعدته بالجلوس على السرير، وأسرعت بجلب أدوات المعالجة، وجلست على الأرض أمامه.

أمسكت يده اليسرى بأيدي مرتجفة، كانت الدموع تتساقط من مقلتيها بصمت، فتمسحها بظهر كفها الأيمن تارة، والأيسر تارة أخرى، وكان قلبها يتألم لألم زوجها وحبيبيها وضياء حياتها.

بدأت تخرج قطع الزجاج العالقة بيده، بينما كانت هي من تتألم لما أصاب حبيب روحها، وضعت المطهر _وجدته في أحد الأدراج_ على الجروح، بينما تخرج شهقاتها بشكل عفوي من فاهها.

قامت بتغطية يده بقطعة قماش نظيفة، ثم قربت يده لفمها وقبلتها بلطف مخلوط بالألم، فمسح "قاسم" على رأسها بيده اليمنى، ثم ورفعت عينيها لتقابل عيونه شديدة الحمرة.

لكنها نهضت لتنظف الزجاج الذي تناثر، وعادت له فنزعت حذاءه، وغيرت له ثيابه ثم همت ذاهبة.

ألقت نظرة على "أمل" لتتأكد أنها لم تبعد الغطاء عن جسدها؛ فهي كثيرة الحركة.

ثم ذهبت للمطبخ، لتشعر بأحدهم يقف خلفها ...

ذهبت "أسماء" للمطبخ لتجلب بعض الماء، وتحضر شيئا دافئا لزوجها؛ لعله يهدئ ويعود لصوابه.

لتشعر بأحدهم يقف خلفها، كانت تعلم أنه "قاسم"، فالتفتت لتجده يقف متكئا برأسه على الحائط بصمت، بينما ينظر لوجهها بهدوء.

"أسماء" بقلق: "قاسم" ماذا بك مجددا؟... لا تقف ساكنا هكذا، أرجوك تحدث فأنت تخيفني، أستحلفك بالله أن تتحدث.

انهمرت دموعها على وجنتيها، واقتربت منه واضعتا يدها اليمنى على وجهه، نظرت بعينه بمشاعر مختلطة بين قلق وخوف وحب.

"أسماء" بلطف: أرجوك تكلم.

أمسكت يده بخفة وقبلتها، فأمسك "قاسم" بيدها اليمنى وأبعدها عن وجهه بلطف، ليقبلها، ووضعها بين كفيه بينما يلعب بأصابعها تارة ويربت على يدها تارة.

"قاسم" بجديه: لابد لنا أن نغادر القرية يا "أسماء".

"أسماء": لما يا "قاسم"؟ هل هو بسبب أمر زواج "أمل" و"عاصم"؟ لقد مات والدك الآن، وبإمكانك أن تحدث أخاك فالأمر، وتخبره أنك رافض لهذا الزواج لا تيأس وتوكل على الله.

نظر لها "قاسم" بحزن: "أبي" لم يكن ليتخذ قرارا كهذا إلا إذا أراد "عبد الجبار" ذلك، والآن أصبح كل شيء بين يدي أخي، وباستطاعته أن يفعل كل ما يريد، أنتي لا تعرفينه مثلنا.

تنهد مغمضا عينيه ليتابع: لكنه قد يفعل أي شيء للحصول على الأراضي التي لدي، حتى لو كانت أبنتي هي مفتاح هذا الأمر، لو أنك سمعتي اليوم كلماته لقلتي أنه سوف يقتلني بدماء باردة.

أحتضن "قاسم" زوجته فبادلته الأحتضان، وكانت هذه الليلة من أكحل الليالي التي مرت على "قاسم" و"أسماء".

كانت "أسماء" تجمع الثياب التي يستطيعون حملها بسهوله و"قاسم" كان يجمع الأوراق المهمة وعقود البيع والشراء.

بعد _صلاة الفجر_ ذهب "قاسم" لغرفه "أمل" وفتح المصباح ليجلس بجوارها على السرير، أبتسم بهدوء بينما يتأمل وجهها البريء، والحجاب يزيدها جمالا وبرائه، فكما العادة تنهي "أمل" الصلاة و تتكاسل عن نزع حجابها، فتنام تلك الكسولة دون نزعه.

مد يده ونزعه بحرص حتى لا يوقظها، فانسدل شعرها الأسود على بشرتها القمحية ليزيدها جمالا مع شفاه كحبات الكرز الحمراء.

كان "قاسم" يتأملها كما لو كان لأول مرة يراها، تمزق قلبه على مستقبل طفلته المجهول، مد يده لشعرها يربت عليه، بينما هربت عبره من عينه، فقهر الرجال أمر تتزلزل له الجبال، حتى أن الرسول الكريم استعاذ منه.

مسح قاسم على شعرها ثم أنزل يده لجبينها، لكن بمجرد أن وضع يده على وجهها المشتعل من السخونة، أنتفض من مكانه وبدأ ينادي "أسماء" بهلع، أتت إليه مذعورة من صراخه.

كانت "أمل" تأخذ أنفاسها بصعوبة بالغة، وتتلوى من ارتفاع حرارتها.

ارتدى"قاسم" ثيابه وذهب مسرعا يبحث عن عربة تأخذه للمدينة، فالشمس بالكاد نشرت ضوئها بربوع المعمورة.

فوجد رجلا يركب عربة محملة بالبرسيم يجرها حمار، كان متجها للمدينة ليبيع بضاعته بالسوق، فركب معه ليحضر دواءً من الصيدلية.

وزوجته مع "أمل" تحاول خفيض حرارتها، فبللت قطعة قماش بالمياه الباردة ووضعتها على جبينها، وأخذت تمسح أطرافها بالمياه الباردة، وكل ما يدور في عقل "أسماء" هو لما كل المصائب تأتي دفعه واحده، وتدعوا الله أن يشفي أبنتها،

في الظهيرة كانت حرارة "أمل" قد انخفضت وها هي تلعب مع "والدها" بعرائسها القماشية فوق السرير، فبالرغم من ملامحها وجسدها البالغ، إلا أن عقلها وتصرفاتها كالأطفال حقا.

نفذت طاقة "أسماء" وهي تحاول جعل "أمل" تأكل فأخذ "قاسم" الطعام وما أن مد "لأمل" الملعقة حتى ألتهمتها بنهم، فتبسمت أمها على تصرفات صغيرتها التي تتذمر إذا لم يكن والدها من يطعمها، انتهت المدللة من طعامها، وتشبثت بزراع أبيها .

نظر "قاسم" ل"أسماء" بابتسامه لطيفه: فالتأتي بجوارها؛ لأني سوف أذهب لأرى إلى أين وصل الإنشاء في المنزل الجديد، وبعدها سوف أذهب للمأتم قليلا وبعدها سوف أعود لنهم بالرحيل.

أماءت له "أسماء" بالموافقة، ثم نظر "قاسم" ل"أمل" ليجدها عبست وترقرقت الدموع بمحجريها، فوضع يده على رأسها بحنان، وقال بصوت هادئ ولطيف: لما قمري الصغير عابس هكذا؟

"أمل" بحزن: لا تخرج أبي، أتوسل إليك أبقى بجواري اليوم فقط.

أبتسم "قاسم": أنا لن أتأخر صغيرتي، ما رأيك أن أجلب لكي بسكويتا بالزبد وحبيبات السكر الذي تحبينه؟

نظرت له "أمل" بحزن: لا أريد أي شيئاً، فقط أريدك أن تبقى بجواري اليوم أبي.

هز رأسه بيأس بينما ابتسم وخرج، فهو برأسه ما يكفيه من مشاغل وهموم، أما "أمل" بدأت بالبكاء بشده، ولم تستطع "أسماء" أن تهدئها إلا بعد ما يقارب الساعة من النحيب المتصل، لكنها من شدة تعبها ذهبت في النوم فجأة؛ كأنه كان هناك شيء يخيفها أو يؤلمها وقد اختفى.

غادرت "أسماء" الغرفة وهي في حيره مما أصاب طفلتها اليوم، وما أن وصلت للمطبخ حتى سمعت طرق شديد جدا على باب المنزل لينقبض قلبها بقوة: اللهم أجعله خيرا.

وضعت حجابها، وأسرعت لتفتح الباب، وإذا بـ"عبد الجبار" يقف أمامها بوجهه المخيف وعلى يده شيء مغطى بعباءته البنية لتسري رجفة قويه بجسدها...

"عبد الجبار" بصوته الأجش والعنيف الذي يبعث الرعب: أذهبي لغرفتك، وأغلقي الباب فمعي رجالٌ كثر، هيا يا امرأة أسرعي.

لم تجد "أسماء" مجالاً لتسأله عن ماهية الشيء الذي على يده، وما تلك الدماء، صعدت أسماء للطابق الثاني وهي تستدير بين الفنية والاخرى؛ تحاول أن تشبع فضولها لكي تكذب ظنها.

وقفت على الدرج واسترقت النظر لما يحدث بالأسفل لم تشعر "أسماء" بنفسها إلا وهي تركض نحو "عبد الجبار"...

بالعودة نصف ساعة أو أكثر للوراء، ذهب "قاسم" للمنزل الموجود بالعزبة، فلم يجد أي من العُمال ولا رئيس العُمال، ولا توجد أي حياة فالبناء، لم يكمل بحثه وقرر النزول والذهاب للعزاء، وعندما ألتفت بهدف الرحيل سمعه يناديه من الأعلى بصوته الأجش.

"عبد الجبار": أصعد لهنا يا أخي فلدي شيء مهم يجب حسمه هنا والآن.

أبتلع "قاسم" غصته وقال: فلتؤجلها لوقت آخر؛ فابنتي مريضة وأريد العودة لأطمأن عليها.

صرخ "عبد الجبار" مهدداً: قلت لك أن تصعد، وهذا أفضل لك من نزولي إليك.

أغمض "قاسم" عينيه وأخذ نفسا عميقا ثم زفرة بقوة؛ فهو يعلم أن لا خير في صعوده، فهو على يقين أن "عبد الجبار" هو من أخلى البناء من العُمال، لكن ما بيده حيلة وصعد على مضض، فوجده يجلس في الزاوية على مجموعة من قوالب الطوب الأحمر.

"قاسم": السلام عليكم.

لم ينظر له "عبد الجبار": أجلس.

أشار له على مجموعة القوالب الأخرى، فأخذ "قاسم" نفسه بقوة وتقدم جالسا حيث أشار أخاه.

"قاسم": لعله خير أخي، ما السبب الذي جعلك تترك مقامك لتأتي لهذا المكان الرث.

نظر له "عبد الجبار" بطرف عينه، ثم عدل جهة رأسه لتتقابل أعينهم بشكل مباشر، وكانت نظراته الحادة تخترق الروح، تقتل بصمت وهدوء، وهنا تأكد "قاسم" من خطورة موقفه، وأن صعوده كان قرارا خاطئاً،لكنه أراد أن يعلم إلى أين سوف ينتهي هذا فقد يكون ظنه خاطئ.

وضع "عبد الجبار" يده في جيب عباءته، فذعر "قاسم" عندها هم واقفا.

فنظر له "عبد الجبار" وأبتسم بسخرية: عد لمكانك لا تقلق لن أقتلك الآن.

ليخرج "عبد الجبار" ورقة مطوية، لتسري رعشه مؤلمه من رقبة "قاسم" إلى أطرافه، فتنهد وعاد لمجلسه.

فتح "عبد الجبار" الورقة وأمسك بها أمام وجه "قاسم".

"عبد الجبار" بابتسامة جانبيه شيطانية: أتعلم ما هذه؟

دقق "قاسم" في تفاصيل الورقة ليصرخ: قلت لك سابقا لن أتنازل عن أنش واحد من أملاكي سواءً كان لك أو لأبنك.

هز "عبد الجبار" رأسه بأسف ممزوج باستهزاء: ومن قال أني هنا لأحصل على موافقتك، فقد حصلت عليها مسبقا، ألا تملك عينا لترى توقيعك بأسفل الورقة.

أنهى حديثه رافعا حاجبه الأيمن وأبتسم بشكل جانبي.

أخرج "قاسم" نظارته ونظر بأسفل الورقة التي بيدي أخيه.

"قاسم" بصدمه: هذا_صمت وهو ينظر بعيني اخيه بزهول_ هذا توقيعي هل وصلت بك الجرأة لتزوير توقيعي.

حاول "قاسم" انتشال الورقة من أخيه فدفعه "عبد الجبار" أرضا، ثم نهض من مجلسه وضغط بحذاءه على صدر "قاسم" بقوة وقال: بالرغم من أني استطعت تزوير توقيعك، إلا أني لم أستطع الحصول على بصمة إصبعك بدونك.

دفعه "قاسم" عن صدره وحاول الفرار عن طريق الدرج، لكن أصابه "عبد الجبار" بقالب من الطوب في مؤخرة رأسه، لتنفتح ويسقط أرضا بالقرب من حافة المنزل.

فأقترب منه "عبد الجبار" ومال ضاغطاً بركبته على صدر "قاسم" الذي تتدفق الدماء من رأسه، وبدأ يفقد وعيه معلناً احتضاره.

لكن "عبد الجبار" الذي أعمته الأموال، أخرج علبة حبر البصمات وأخذ إبهام "قاسم"، وضغطه بقوة فالحبر؛ وطبع بصمته بجوار التوقيع المزور، ثم رفع العقد فالهواء أخذ ينفخ به حتى يجف الحبر، مبتسما بفخر ونصر.

ثم نظر لـ "قاسم" ليجده لا يحرك ساكنا، هنا أدرك فعلته.

وضع أصبعه أمام أنف "قاسم" فلم يشعر بتنفسه،فوضع أذنه على موضع قلبه فلم يسمع نبضاته.

جلس "عبد الجبار" بجوار جسد أخيه، ووضع يده فوق رأسه، ثم أنزلها ماسحاً عن وجهه العرق الوهمي محاولاً تمالك أعصابه.

هو يعلم أنه يستطيع إسكات أفواه أهل القرية بسوطه، لكن إذا خرج الأمر للسلطات فسوف يتم تشريح الجثة، والضربة في مؤخرة رأسه دليل قاطع على مقتله بيد فاعل، بدأ يفكر كيف يخفي اثرها.

لحظات حتى تذكر كلمات والده: إذا أردت أن تتخلص من أحدهم، فجل ما عليك فعله، إما جعلُ الأمر يبدوا كحادث، وإما أن تجعل غيرك يتحمل المسؤولية سواءً قمت بالدفع له، لكي يعترف عوضا عنك أو تجد دليلا يدين هذا الشخص.

فنهض "عبد الجبار": لقد قتلت أسرع مما تخيلت، تبا لك.

قلب "قاسم" على ظهره وجمع بعضا من دمائه _التي تماسكت_ وألصقها برأسه المتهشم وظهره وحرص ألا تتسخ ثيابه، ثم غسل يديه في برمل كان مليئا بالماء العكر.

بعدها أفرغ كل المياه على الأرض باتجاه الجثة، وعاد دافعاً "قاسم" عن الحافة فسقط من الطابق الثالث، ليسمع الحي بأكمله صوت انفجار رأسه المصطدم بقوالب الطوب الموجودة أسفل المنزل.

كان أغلب سكان العزبة كانوا في المأتم بالقرية، مما جعل المحيط شبه خاوي من السكان.

هرب "عبد الجبار" مهرولاً من المنزل وعبر الحقول، ليذهب ويجلس في مجلسه الموجود على حافة الترعة بعد أن غسل يديه من آثار الدماء العالقة بأظافره في المياه الجارية، غير مدرك للشخص الذي تبعه طوال الطريق.

لم تمر سوى دقائق، وكان هناك من يركض بحثا عنه يخبره أن أخاه قد سقط عن البناء ميتا.

فنهض من مجلسه مصدوما، وهرع مع المنادي لموقع أخيه، فسقط على ركبتيه صارخا: قاسم _صرخت "أسماء" بأسمه_.

بكى "عبد الجبار" دموع التماسيح بجوار أخيه الذي لم تتبقى معالم لرأسه المتهشم، نهض ومسح دموعه عن وجهه.

ونزع عباءة خفيفة كان يضعها على أكتافه، ثم فردها على الأرض، وحمل جثمان أخيه ووضعه بها، وبدأ الفلاحون يجمعون أجزاء الجمجمة المتناثرة، ثم أغلق العباءة عليه وحمله لمنزله، وهو يزرف الدموع عليه.

هنا ينطبق القول الشهير أن القاتل يقتل القتيل ثم يسير بجنازته باكيا تبا لكيد الرجال.

بأساً لكي أيتها الحياة الدنيا، يقتل فيكِ القوي الضعيف، ويسفك الآباء دماء أبنائهم بدماء باردة، وينهي الأبناء حيوات آبائهم، ويستل الأخوة أسلحتهم في وجوه بعضهم البعض.

لما كل هذا يا أبناء آدم أهو سعي لكسب المال أم هو لتزداد سلطتك، هل أنت جاهل بأنك ملاقي ربك عن قريب؟

فلن تفلت من القصاص؛ فمصير القاتل في الدنيا هو القتل، وفالآخره سوف يأخذ المقتول حقه بين يدي الحكم العدل.

ثم يلقى القاتل فالدرك الأسفل من النار .
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي