الفصل الثاني

«الفصل الثاني»

فى مكان ما، حيث الجنة على الأرض، اللون الأخضر هو السائد والمسيطر، والهواء طبيعي غير مختلط بالأدخنة، تتدلي الأشجار فى رفق، وتترقص الغصون بفعل حركة الهواء المفاجئة، ويخرج من وسط المزرعة صوت سليم الهواري وهو برفقة أبناءها علي و خالد.

تردد الصوت وكأنه يزمجر ويتنافس مع الريح فقال سليم الهواري بحكمة وحنقة:
-ماذا تقصد بأنك ستعود مرة أخري، ألم يكفيك كل هذا البعد، ألم تتجرع الغربة، هل لهذا الحد لم تشتاق لأهلك وعائلتك؟
يكفي يا علي، فأولادك بحاجة ان يعرفوا أهلم وقريتهم، من الموسف أن تكون معرفتهم متوقفة على لقب يذكر آخر أسمهم، لا يفقهون عنه شيء.

ليخرج صوت علي وهو يحاول السيطرة على الموقف، حيث يتفشي الندم منه، ويذقه الهوان وقال:
-وكيف لا يشتاق الأنسان لموطنه وأهله، ولكن يا أبي إن كان هنا موطني، هناك روحي، وإن كنت أنت هنا، هناك جسدي وعقلي، لم أستطع العيش هنا من قبل، ولن أستطيع، لدي عملي وأشغالي، لدي الكثير لأفعله، لكن هنا تموت الأحلام وتدفن بين جدران هذه القرية، هنا سأفشل، هل تريد أن أدفن موهبتي وخبرتي، هل تريدني أن اتخل عن كل شيء، أولادي لن يتسطيعوا التعامل مع هذه القرية، كل شيء بات مختلف، عمرو عمله يلزمه بالبقاء وروان لن تستطيع التأقلم، أبي لا أخبرك أن سأغادر الآن ولكن لن ابقي للأبد، أرجوك فلتفهم هذا.

سليم الهواري بحكمة:
-دعنا من الحديث عن المغادرة، فلنتركه ليوم آخر، الآن عليك ان تفهم ان إبنك كبير بما يكفي، فلا يجوز لك نهره وزجره وسط العائلة، أعلم ان ردت فعل عائشة لم تكن جيدة ولكن ايضا هذا لا يبرر لك فعلتك بالتعامل مع عمرو بتلك الطريقة، فترة قصيرة وستتعايش عائشة مع الأمر، فلا زالت أنت وابناءك غرباء بالنسبة لها، تريد وقت لتتفهم الأمر.


لفظت الشمس أشاعتها، ليأتي الليل مسرعًا حامل فى جوفه أسرار وغموض، ولكن تفاءل فالمشاكل هي بهارات الحياة.
هأجمه الأرق، ولم يعرف للنوم طريق، فربما؛ لأنه لم يعتاد المكان بعد، قرر ان ينزل لحديقة المنزل، هناك مكان جيد للأسترخاء، هنهية وكان قد وصل لسور الحديقة، لكن ما فاجأه أنه ليس وحده فى هذا المكان، نظر للساعة التي تلتف حول معصمه ليجدها الثالثة فجرًا، هل يعقل تظل هنا فى هذه الظلمة بمفردها دون خوف من هسيس الليل، دون ان يحدث صوت يشعرها بوجوده، قرى ان يراقبها فى صمت، ربما هو لا يعلم لما يفعل ذلك، ولكن بطريقة ما تسلل له هذا الشعور، ليقرر أن يراقب ذات النقاب بهدؤ تام، ساد الصمت طويلا، فهى لا تفعل شي منذ أثتنا عشر دقيقة سوى بالنظر للسماء، ولكن بعد دقيقة آخري صدح صوتها فى جوف الليل يتلو القرآن فى عذب، وكأن صوتها فيه سحرا يتماشي مع عظمة القرآن، الحق يقال، أنه لم يعلم أي سورة تتلو، وعن ماذا تتحدث ولكن كان هناك رغبة جامحة بداخله ليعرف ما هذه السورة وكيف تتقنها وكأنها حديث عابر على طرف لسانها، لم تمل ولم تتوقف عن الترتيل ظلت مستمرّة فى نهم، وهو يستمع لصوتها، وإن كان كل ما يعرفه عنها اسم فقط لكن يبدو أنه أسم بداخله الكثير، ربما هى تشبه البحر كثيراً، ولكن تظل علامة إستفهام بالنسبة له، ربما فضول الأنسان فى أكتشاف من أمامه كان كافي بالنسبة له ليتقدم خطوات يقطع بها سكون الليل، ففضول السؤال ومعرفتها كان قد جاء على نهايته.

بصوت متوسط به نبرة الإستفسار قال مناديا آياها:
-هل تفضلين الجلوس وحدك كثيرا؟ منذ زمن وانا هنا، صوتك رائع، ربما يفأجك ردة فعلي الغير متوقعة وحديث معك، بعد أن قررت ألا يجعمعني معكِ حديث، ولكن أريد أن ابدأ صفحة بيضاء خالية من أي تمرد، فأنا لست سيء، عليكِ ان تقللي من حدة عصيانك الغيرر مبرر، فكل ما يظهر منكِ هو عينيك ولكنها كفيلة لتخبرني الكثير سواء الرفض او السخط وعدم القبول، عائشة أنا أبن عمك، ربما سنلتقي كثيرا فى هذا البيت وتجمعنا طاولة الطعام لأكثر من مرة، يجب علينا تقبل الوضع.


لتردف معقبة على حديثه:
-بشرط، أن تنزع عنك رداء العجرفة، فأنا لست أنثي تقبل بالغرور، وإن كانا مصيرنا الحديث واللقاء، فيجب عليك احترام القدر وتنفض عنك لسانك السليط الذي يقترب من سم الثعبان.

صمت ألتهم الاجواء، سرح في دهاليز عفله قليلا، يري فيها ما لم يراءه فى إنثي، وربما لم تهمه أنثى ويدقق فى تفاصيلها كما يفعل الآن، براء ممتزجة بغرور وكبرياء لا يليق سوى بها، وقبول يرسم نفسه تحت أقدامها، كلوحة هى، صعب ان ترسم وصعب ان تصف، مذهلة، تعجب من نفسه ومن قدرته على شرحها وتعريفها وهو من ألتقي بها منذ قليل، لم يمر الكثير، متمردة، مشاكسة، بريئة، متصنعة بالقسوة، ولنقل ربما هى الأولى التي تمردت أمام حصوني.

لا يزال الحب يزرع نفسه فى شوارع القلوب الطيبة، مثل زراعة الزهور فى بساتين الحدائق، فكل ما يحدث ليس غباء أو مشاعر اردت الانطلق لتعبر عن كبت، ليس شفقة او تعاطف، وليس إنجذاب هرب من سجون العشق، ما يحدث قدر يكتب نفسه.


في آحدي مقابر القلوب، دفن الأحبة، وفى آحدي مدافن الحياة قتلت القلوب، ما الخيار ألافضل والأقل وجعا، أن تحب أحدا لن يكون معك أو ان تحب أحدا لن تراءه مجددا، هكذا كان يصارع معتز ما بين الحياة والحب، وكيف أختلط مفهوم البقاء وتشبث بميسون.

صدح صوته فى الأرجاء، فهو من لم يملك علة نفسه صبرا، وهل فى دروب الحب صبراً

معتز بغضب:
-أذن تطلبين الأن ألأ أكون جزء من حياتك، ماذا عن الخطوات الاولي للإقتراب، لما لم تردعيني، هل جئتِ الآن بعد أن غرقت، وأصبحت حياتي وحبي متوقف عليك تطلبين مني الرحيل، هل جننتِ؟ أم أنك تتلذذين بجموح قلبي.

توترت، تألمت، إجتاحها البكاء من كل جزء بجسدها ولكن عينها تجمدت، تسلحت بقوة واهية وأردفت قائلة:
-إن كنت اعلم يوما سيحدث هذا، لكنت منعت أن يهمس أسمك في الارجاء، أو ان تقودني الطرق لنفس الطريق المسلوك إليك، ولكن ليس باليد حيلة.

ليضحك بصوت مهتز قائلا:
-وما قلة حيلتك؟ كالآخريات أنتِ، عندما ضمنتِ حبي، وجودي فررت هاربة، هل يقيدك العشق، هل لهذا الحد هيامي رخيص؟ وهل ما كان بيننا قليل لينهي فى لحظة عابرة، واخبرك ان أقبل، لا والله، لا ورب إبراهيم ومحمد، فأنا احببت ولن اترك من احب ولو كان عنوة وغصبا عن المحبوب، وهل فى العشق قانون، عليكِ ان تفهم ما قلت، فكلما كان الفهم أسرع كانت النتيجة متقبلة وسهلة الأرضاء.

ثبتت على موقفه وتمردت وقالت بقسوة أحرقت قلبه:
-أفعل ما تريد، فليس على المجنون الحرج، وايضا اعلم أتا مغادرة لأرض مصر للأبد، لن تلمح وجهي ثانية، سررت بلقائك.

غصة أجتاحت فلبه وتمكنت من اوصاله واكمل قائلا:
وان كنت حقا لمجنون فأنا مجنون ميسون، لن ادعك ترحلين، هل يستغني أنسان عاقل عن ترياق حياته؟ ما حدث حدث، ومابداء لن ينتهي سوى بعقد قرآنى عليكِ، شئتِ أم أبيتِ، فانت لستِ مخيرة، أنت مجبرة على الإنصياع وليس هناك بديل.

أجتاح المكان وأمتلاء بالغضب والجموح وتحول لنقاش حاد، لا يقبل كلا الطرفين ان يستمع للآخر، لتبادر هى وتبداء بحديث حاد لن يلتقي بلين الحروف فلعله يدرك انه فراق كتبه القدر، وقالت بصبر:
-معتز، انصت لي، إنك لشاب جيد، محترم جدا، تقبل بك أي فتاة، بل انك لفوز عظيم وزوج مصون وفرصة لا اى فتاة، عليك ان تفهم بان ما كان بيننا من حديث عذب قد وصل لنهايته، ككل الاشياء التي تنتهي.

ماذا يقول وماذا يفعل؟ هل يتركها تغادر ويلوح يده مودعا إياءها في هدؤ، أم عليه أن يحارب من اجل ذلك القلب النابض بالعشق لها، ولكن هو متهم فى حبها، فها هى تطلب منه ان يغادر وتخبره بان الرحيل أمرا مؤكد، مؤمن ان الله هو الذي زرع حبها فى قلبي، وهو من قادر على التعامل معه وانتزاع من انياط عضدي، تخبرني أنها لم تكن تعلم بحبي وانا من تلمع عيني لرويتها، يرجف قلب عن اشتمام رائحة قربها، ماذا عن نيران غيرتها التي حرقت الجميع، هل لم تلاحظ دخانها أم رمادها المتناثر فى جسدي، صنعت من حجر بل اشد قسوة منه، يكفي لهنا يكفي صراع من اجل ارض خالية، لن احدثه مرة آخري فكرامتي فوق الجميع، نعم تحب الرجال بكل ما فيها، ولكن كبرياءهم عزيز.


هى الآخري التزمت الصمت، فماذا تخبره؟ هل تخبره ان ايامها قليلة على ارض الحياة، فلو علم لمات كل يوم ببطء، إنها المرة الأولي التي تصرخ فيها الدمعات وتستنجد لتهبط على أرض الحياة، فهول الوجع مؤلم حد النخاع، هنيئا لكل قلب نابض لم يذق الحب، ففى العشق رجفة ينهار لها الف جبل، وفيه شوق يحرق الف بلد، ووجع الفراق لا يصف.

رجعت البيت بهدؤ تام، ألتزمت غرفتها وأغلقت كل الاضواء وجلست على الأرض وتكورت على ذاتها، لتندم حظها وقدرها المحتوم، فلا مفر ولا نهاية غير الفقدان، ظلت تتذكر أول مرة حين سمعت بالخبر، وكيف ألقاء الطبيب الخبر فوقع كالصاعقة على قلبها، تتذكر تلك الدمعة القاسية، وذلك البرود، الجمدان الذي اصاب أنياط قلبها، تتذكر كل شيء كأنه كان أمس، يسرد كل شيء فى عقلي كفيلم مرعب أفقدني قدرة النهوض، أتقوقع فى غرفة مخيفة، وينفض جسدي من ماضي ذكرها تحاربني لليوم، وشبحه القائم فوق رأسي يصاحبني حتى قبري، بت ملبدة المشاعر.




جاء اليوم التالي في دلال وخفة، فقد حدث ما يكفي لينتهي صراع البعض في ليلة مدمية بالدموع، وبداية جديدة للبعض


أجتمع سليم الهواري مع حفيدته روان، فى حديث لا يخلو من النكات والمزاح الممتزج بالسعادة...

نظرت روان لعيون جدها التي تلتمع بحنين ودفء خاص وقالت ببسمة:
-اشعر لاول مرة إني قد عدت طفلة، عادت ذكرياتي معك يا جدي، هنا اشعر أنها ااجنة، ارض خضراء، ومسك فاح، وخيل وجمال من صنع الخالق، اصوات العصافير وكل جزء هنا له كيان يسحر.

سليم الهواري بهدؤ:
-ستظل هنا لايام كثيرة، ربما هذا إنبهار البدايات عزيزتي.
روان بحكمة:
-اذن هل يعني هذا انك لازالت عالق فى ثنايا البدايات، فها انت ايضا توافقتي الحديث والشعور، اري فى عينك الطبيعة تقطن وتعكس حبا أبدي.

سليم الهواري ببسمة:
-معكِ حق يا صغيرتي، فنحن لو اردنا لجددنا اللحظات، وجعلنا الحياة بدايات متكررة، فلو البداية تحمل حبا سنصنع ألف بداية، ولو كان في النهاية سعادة، سنصنع ألف نهاية، نحن من نملك السعادة بإيدين، هنا انا واقف فى ارضي، وبلدتي، وسط اهلي وعزوتي، أتنفس من الطبيعة وكأني أبن مخلص لها، انا لازالت أسير البدايات الجميلة الخاطفة، لذا انا سعيد، رغم مرور أكثر من ستين عام على وجودي، إلا ان محتفظ بجمال البدايات المبهرة.


حديث إيجابي يسكن فى جوفه حياة، هكذا هى السعادة، عجوز هاربة

روان:
-حدثني يا جدي عنك، كيف اصبحت، هل نال منك الزمن كما نال الشيب من راسك، ولكن هيكلك للزال قوي متين، ربما لازال كل شيء كما كان فى عهده السابق، ولكن قد حدث امرا جديد، وزادت العاىلة فردا اصبح لا يعرفنا ولا نعرفه، ربما يختبأ خلسة من البشر.

سليم الهواري:
-كل شيء على عهده، لم يطرا امرا جديد سواء قدوم الصغيرة عائشة، نعم فهى مختلفة كإختلاف الجن والأنس لها معتقدات خاصة، وتفكير منفرد، رغم اني من علمتها المبادي والقيم وتقيم معي فى نفس المكان لا يفصل بيننا سوى حائط إلا اني لم استطع معرفة ما يجول في داخلها، عائشة واضحة بطريقة يصعب فهمها، جاءت فلم تجد احد يشاركها اللعب والحديث، ومنذ صغرها غمست نفسها فى الفقه والالتزام، ليس لها صديق؛ لذا من الصعب جعلها تتأقلم مع شخص جديد، رويدا رويدا ستعتاد الامر.

روان:
-هي تملك اشياء ليست لدي، وانا عشت تجارب لم تعرف عنها شيء، فالنهاية ستقبل وجودي، وساخرجها لارض الحياة، فهي لازالت جاهلة وان حصدت علوم العالم، العلم هي دراسة فى ارض الحياة، مخالطة البشر، وفعل امور عدة اولها كيف تتعامل مع البشر، وتترك ذلك العصيان الملجم بالرفض، والارض المغلمة بقنابل الجمود.

سليم الهواري:
-لا عليك، كل شيء سيحل، لا تحمل منها نفورا، فهى حقا اطيب مما تبدو عليه، وغير ان ملابس حقا منافية للقيم والمبادى، انا لا أحاول تغيرك، فأنت ناضجة بما يكفي، ولكن عليك ان تعاودي النظر للمرآة مرة آخري، هل تلك القكعة من القماش التي تظهر نصف شعرك ولا تخبأ شيء من ملامح جسدك هي زي محتشم فضفاض، أم بنطالك الذي يصف ويشف ولا يستر، وتلك البلوزة الضيقة، كل ذلك يحتاج مراجعة يا ابنتي، اعلم ان العيش هناك كان منفتح حتى انكم لم تطلعو على دينكم، ولكن ربما هى محقة، ولكن اختارت الوقت الخطأ والكريقة الغير مناسبة، نحن نحكم على بعضنا من الظاهر وممايبدو عليه الشخص، لذا من البديهي ان يحكم علينا بناءا على ملابسنا، من يخاف الله يحترمه الجميع، فلا كلام يعلو على كلام الجبار الحكيم، هل فهمتِ؟

روان بتوتر:
-سأفعل ذلك عندما أقتنع من داخلي، فهذا لا بد ان يكون نابع من أعماقي، لذا فهمت ما تود توصيله واحترمك جدا، ولكن اترك لي وقتي لأراجع ذاتي، وأترك لي حريتي ومساحتي الخاصة، لأفهم ما قلته وما يجب عليا فعله؟ حقا أريد ان اكون الافضل وان اسلك درب الله لا محالة، ولكن كوني اتخلي عن كل هذا لمجرد حديث لم يصل لعقلي بعد هذا ضد مبادي، لا شك ان كلامك لمس قلبي، ولكن قلبي ليس القاضي، عقلي من يحكم ومن يتبع عقله لا يضّل يا جدي.

سليم الهواري بثبات:
-أفعلِ ما تجدينه صحيح، لك حرية الاختيار، وأنا بجانبك فى كل الحالات والاوقات، فلن أجبرك، ولن أقف ضدك يا صغيرتي.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي