الفصل الثاني

يدور حول نفسه في شوارع متفرقة وصورتها لا تبرح مخيلته وكأنما حفرت بفعل الزمن
ان اعطوه ورقة بيضاء لرسم ملامحها مغمض العينين وتخيلها امامه
متى ينتهى عذاب شوقه، استغفر الله ولكن هل الامر بيده.. انه قلبه العليل وكله امل ان يشفى مع الوقت
نظر لبنصره الذي يزينه خاتم ندى واحساس بالدنو اجتاحه فهو يخونها بقلبه
ولكنه يثق بإختيار عقله، سقطت اول زخات المطر على زجاج السيارة الامامي وقارب البنزين على النفاذ فأسرع لملأه من محطة البنزين القريبة قبل اخذها للمنزل فهو ليس في مزاج لصراخ سامر
دخل للمقهى ريثما ينتهي العامل من سيارته
طلب قهوته ليصدح الصوت الاثير في المكان حوله ألا وهو صوت فيروز اللذان يشتركان في حبه


انفجرت دقات قلبه وهو يتذكر صاحبة الاسم التي تعشق فيروز الاصلية والذي لحظها سميت على اسمها
ان كل ما يخصها شاعري وحالم ويبهج القلب، هل لنا من لقاء قريب.. اخذ قهوته وخرج لينقد العامل المال ويركب سيارته منطلقا بها على نغمات صوت فيروز التي صدحت من المذياع

حمام دافئ بعد تنظيف شاق، وجبة ساخنة عبارة عن شطائر جبن وكوب قهوة طالب به جسدها
دثرت نفسها جيدا ببيجامة ثقيلة واخذت سماعات اذنها والقهوة وخرجت للشرفة
تحب الشتاء، تحب القهوة وفيروز التي تصدح من سماعتها الان
تسلقت سور الشرفة برشاقة، نعم فقدت بعض الوزن ويعجبها هذا، ضحكت بإستخفاف على الاقل فقدت شيئا ارادته
المطر يشتد وهي تجلس رافعه وجهها للزخات القليلة الساقطة
نظرت للشارع الخالي ولحسن الحظ حديقتهم او التي كانت حديقة قبل الاهمال الذي تراه امامها يحجب عن المار رؤيتها، او هكذا اعتقدت
تؤرجح ساقيها في الهواء وكأنما تسمع صوت والدها قائلا من خلفها كعادته عندما تفعل هذا " سأصاب بنوبة قلبية بسببك، لا تجلسي هكذا مره اخرى "
ارتعش الفنجان في يدها وهي تتذكره طابقا على ظهرها وهو يسحبها كي تجلس على ساقه
نظرت خلفها باحثة عنه ولكنها لم تجد سوى الفراغ والظلام
رعشة سرت بجميع بدنها فلم تدري هل هذه بفعل البرد ام الذكريات التي تلتهمها بلا رحمة
رفعت وجهها ثانية للسماء وقد اوقفت مشغل الموسيقى وبدأت في الحديث مع والديها بخفوت

اوقف سيارته امام المنزل وكما اعتاد دائما، كان ينظر لشرفتها ولكن مهلا.. هناك خيال جالس كخيالها، جحظت عيناه بعدم تصديق وهو يستمع لاخر كلمات الاغنية

لا يصدق انه يراها حقيقةً الان
عيناه تجري على تفاصيل وجهها بنهم وكأنها وجبته المفضلة
قصت شعرها الغجري الذي يحبه وتركته قصيرا منسدلا بنعومة حول وجهها النحيل، انفها يرتفع بشموخ رغم شحوب وجهها، وبيچامتها الطفولية تعيده لذكريات الماضي، تؤرجح قدميها وهي تجلس على حافة سور شرفتهم العريض والمطر يغزل مع صورتها "حلم" يتمناه
فيسأل نفسه بغير تصديق هل هذا ايضا حلم؟
يترجل من سيارته ولا يأبه بالمطر الذي يغرقه، فقط يود الاقتراب من هذه الصورة وان استطاع الطيران وملامستها لفعل
يقترب هو في شارعهم الصامت الساكن من القضبان التي تحيط بمنزلها وتمنعه من الاقتراب اكثر
نعم.. انها حقيقة، امسك بحجر صغير ورماه بأقصى سرعته عليها فأجفلت صارخه وهي تفتح عيناها ناظره له مبتسمه بهدوء ومن ثم تحولت ابتسامتها لضحكة عريضة وهي تقول
- يونس
بينما كان هو يتمتم بخفوت
- روز.. انتِ هنا حقا


لوح لها بكفه دون حديث فالخلاء حولهما سيظهر صوته ففعلت هي المثل متطلعه إليه بإبتسامة انسته المكان والزمان لدقيقة محدقا في وجهها
شعرت بالحرج من جلستها وتدقيقه بها فإستدارت للجهه الاخرى واولته ظهرها كي تهبط على ارض الشرفة، اشارت له على المطر فلوح لها مره اخرى وتصنع السير حتى تدخل دون حرج ونظر ثانية كي يتأكد من دخولها واغلاق باب الشرفة
توجع قلبه بشدة وهو يتخيل دخولها لزوجها، فهي لن تبيت دونه، اطبق جفنيه بشدة وكانت هناك عينان تنظران من خلف النافذة تبكيان بدلا منه
والدته، ومن دونها يشعر بقلبه المسكين الذي يقف وحيدا في منتصف الشارع
كانت في انتظار هذه اللحظة حينما رأته واتصلت به عالمه بقدومه فوقفت في إنتظاره
ماذا سيحدث ان علم انها باتت حره
وما مصير علاقته مع ندى بعدها
رأت خطواته التي تقترب فدخلت إلى الحمام سريعا كي تغسل وجهها اثر الدموع
فتح باب المنزل بخطوات متخاذلة، مبلل من رأسه حتى اخمص قدميه، خلع حذائه اولا ومعطفه واضعا اياهما على جنب ودخل غرفته
خرجت من الحمام عندما خرج من غرفته وبين يديه ملابس جافة
تصنعت الدهشة وهي ترى البلل الذي اصابه قائلة
- ماذا حدث لك؟
لم يستطع التصنع حتى، كان مستنذفا وهو يقول
- عدت لزمن الطفولة
اقتربت منه وهي تربت على وجنته بحنان وسرعان ما احتضنت رأسه على كتفها بيد واليد الاخرى تشد على ذراعه قائلة
- خذ حماما دافئا حتى احضر لك العشاء
اومأ لها دون رد فراقبته حتى دخل واغلق الباب خلفه وتطلعت للمطر الساقط خارجا وهي تدعوا الله ان يرشد ولدها للصواب

_________

- صباح الخير يا خالتي
إلتفتت هدى للصوت خلفها فقالت بدهشة وهي تحتضن فيروز
- ما هذه المفاجأة
ردت الاخرى بينما تسير بجوارها
- في الحقيقة ينقصني الكثير من الاشياء في البيت لذلك حضرت للسوق كي اتم كل شيء
عاتبتها هدى قائلة
- لماذا لم تخبريني كي احضر معكِ
خجلت الاخرى فنكست رأسها ناظرة للحقيبة التي تحملها قائلة
- علىّ الاعتماد على نفسي قليلا، وقلقت ان اوقظك فلم اقرر هذا سوى صباحا
ربتت هدى على ظهرها وهما تقفان عند احدى الباعة قائلة وقد بدأت في وضع حبات الطماطم الناضجة في كفة الميزان
- اولا انا في مقام والدتك، لا تنظري للوقت.. ثانيا لقد نسيتِ عادتي تقريبا، فأنا استيقظ بعد الفجر واخذ قيلولتي عند الظهر الا البارحة فقد سهرت ليلتها عندما كنت انتظر يونس لانها سهر ليلتها عند خطيبته
ونظرت سريعا لتعبيرات وجهها التي ظلت على الحياد فلم تعلم بماذا تشعر، هل الحزن ام السعادة لولدها
ردت فيروز وهي تنتقي بعض الجزر
- مبارك له يا خالتي، فليسعده الله
- ‏ستحبينها هي ومرام، واجمل البنات ريم
ارتفع حاجباها بدهشة عند ذكر اسم الاخيرة فبررت هدى بقولها
- لقد سماها سامر دون اخذ رأي احد
اومأت برأسها دون رد فما دخلها بهم
- فليبارك الله فيها.. سنتعرف بالطبع فأنا سأخلد في هذا الحي
وضحكت كي تخفي ما يعتمل بصدرها فأجابتها هدى بحمائية
- ماذا تقولين، ستخلدين ان تزوجتي بمحظوظ من احد ابنائه ولكن غير ذلك سأوافق على اول من يتقدم لكِ
هزت فيروز رأسها بالنفي رافضة بشدة وهي تجر حقيبة السوق خلفها
- بالطبع لاا، لن افكر في هذا الامر مطلقا
تنهدت هدى قائلة
- حينما يحين وقتها سنفكر، الان علينا انتقاء بعض الباذنجان وورق العنب
- اعشق ورق العنب
شعرت هدى بالوجع في قلبها اثر شعور تلك المسكينة التي اخذت في وضعه معها في احد الاكياس وقد تذكرت حديث والدتها في عدم اتقانها لف المحشي فإلتفتت لها هدى قائلة بلهجة قاطعة
- العشاء لدي الليلة
شعرت فيروز بالحرج هامسه
- لم....
لم تترك لها هدى مجالا للحديث وهي تتحدث
- لا نقاش
- ‏ولكن....
- ‏قلت لا نقاش

كان الحرج يحاوطها وهي ترى اهتمام هدى بها في كل شيء فساعدتها في اقتناء ما تحتاج وحتى اهدتها بعض حاجيات المطبخ من مالها الخاص وكأنه هدية افتتاح البيت
عادت معها من ذاك السوق بوسيلة المواصلات ذات الثلاث عجلات المسماة " بالتوكتوك " وانقدت السائق ثمن المواصلة بعد ان وضع الحاجيات امام بيت فيروز
شكرتها فيروز بحرارة وهي تفتح البوابة الحديدية عارضه عليها الدخول ولكن الاخرى ابت ذلك فإن دخلت ذاك البيت ستتدفق الذكريات عليها ولن تحتمل لذلك تملصت قائلة
- لدينا الكثير من الايام، ولكن الان فأنا في طريقي لخلطة المحشو
ردت الاخرى ببشاشة
- كنت ارغب في عرض المساعدة ولكن كما تعلمين
ضحكت هدى وهي تربت على رأسها قائلة
- لا استغني عنك ابدا حبيبتي، ولكن كان الله في عونك ادخلي هيا لترتبي امورك وانتظرك على الساعة السادسة
احتضنتها فيروز هامسة
- لا حرمني الله منكِ يا خالتي
- ‏ولا منكِ حبيبتي
ودعتها بقبلة وهي تحمل حقيبة السوق خاصتها متجهة لمنزلها وحينما دخلت وتأكدت من رحيل يونس تنفست الصعداء، فلم تعد من عادتها الذهاب للسوق ولكنها خرجت باكرا حتى لا تصطدم به صباحا فالبارحة كان شديد الارهاق فعندما خرج من الحمام منتظرا اياها على الاريكة غفلت عيناه وكأنما برؤيتها ارتاح باله المشغول فأيقظته واسندته حتى يدخل إلى سريره ودثرته جيدا وهي تحمد الله انه نام ولم يسألها عنها ولكن لا يوجد مفر فهي فقط تؤجل المحتوم الذي ستضعه امامه الليلة حتى يقرر هو لذلك اسرعت إلى هاتفها كي تتصل به

__________

زفر بسخط وهو يغلق الحاسوب المحمول امامه بقوة
عقله بعيد عنه كما قلبه
لقد استيقظ مبكرا حتى يجلس مع والدته على انفراد قبل نزول زوجة اخيه وابنتها ولكن لحظة كانت في السوق
زفره مشتعلة خرجت منه وهو يتذكر وقفته امام منزلها كالمتسول الذي ينتظر نظرة حنان، استغفر الله بعد دقيقة ومضى من امام منزلها ذاهبا إلى المحطة القريبة
ظل يستغفر طوال الطريق ولكن ما حيلته مع قلبه الخائن، بصره يصطدم مع خاتم ندى الذي يزين اصبعه فيشعر بأنه خائن وما اصعب جلد الذات
رن هاته فطالعه بلهفة وهو يجيب والدته سريعا
- السلام عليكم.. اين كنتِ وتركت هاتفك هكذا
- كنت في السوق
فرك جبهته بإجهاد ورق صوته وهو يقول
- انتظريني الليلة يا امي اريد الحديث معكِ
ردت بحشرجة
- هل رأيت فيروز
ووقع اسمها على اذنه كالموسيقى، رباه ماذا يفعل في نفسه
اجابها بإقتضاب
- نعم
- لقد دعوتها الليلة على العشاء، اخبرتك حتى تقرر بنفسك
تهدج صوته بإنفعال وكاد ان يصرخ من فرط شعور القهر الذي يكتنفه
- ‏لماذا يا امي؟
ردت بشفقة
- انها يتيمة
- ‏لم اقصد.. بل لماذا كتب على قلبي الشقاء
اجابته بحسم وهي تسمع المرارة في صوته
- لقد تطلقت
وكلمتين سمعهما فعادت الحياة لخلاياه وتفتح الكون المظلم مشرقا بنور لا يدري مصدره
ارتجف قلبه بشدة وتحول جسده إلى هلام وهو يحاول التماسك فسألت والدته بقلق
- هل انت بخير يا يونس؟
خرج صوته ضعيفا وهو يسألها مره اخرى
- ‏ماذا قلتِ؟
زفرت براحه مجيبه
- ‏لقد تطلقت، ودون السؤال عن تفاصيل فأنا لا اعلم شيء حتى الان
سمعت صوته السعيد الذي اشتاقته وهو يقول
- جهزي لي الطعام الذي احبه، ولدك سعيد يا هدهد
- ‏وندى؟
كان فوق سحابه وردية وقذفته والدته من فوقها للواقع فجأة لتردف
- لا نريد ظلم بنات الناس معنا يا يونس
وصلها زفرته وهو يرد بتيه
- لا ادري يا امي، لا اعلم ماذا افعل، استمع لعقلي ام لقلبي
- يمكنك جمعهما
سألها بلهفة
- ‏كيف؟
- احضر ندى معك للعشاء، وبدوري سأتصل بها واخبرها
- هل تظنين ان هذا سيفيد في شيء
اجابته بيقين
- ستجد الاجابة بالمواجهة
تهدج صوته متأثرا وهو يقول
- شكرا لكِ يا امي
ردت بشفاه مرتجفة
- فليسعد الله قلبك يا بني

" نهاية الفصل الثاني "
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي