الفصل الرابع

وأثناء شرودي فى ذلك العالم الهادئ لدرجة
الشعور بالرهبة والخوف سمعت الى تلك الاصوات،
اصوات
أحتكاك بالارض لم ادري ما هو مصدرها، تلك
الخطوات الخافتة التي تأتي من وسط المقابر،
شعرت بالقشعريرة تسري فى جسدى، وقلبي ارتجف بشكل مخيف، حاولت ان اتعرف على مصدر ذلك
الصوت مما جعلني اتحرك بهدوء فى اتجاه مصدر
الصوت، لأجده- نعم ذلك الرجل الملثم مختفي بين
أزقة المقابر الضيقة لا يظهر منه شيء سوى اللثم
الملتف حول وجهه، فملامحه بالكامل مختفية
اسفل القناع الأسود، يجوب وسط المقابر بقلق
وارتباك، وهو مستمر فى الالتفان حول نفسه وكأنه
يراقب المكان بقلق يظهر جليا على تحركاته.

حاولت أن اختبئ خلف المقابر وانا مستمر فى مراقبته فى صمت وهدوء تام رغم ارتجافة قلبي التي لا تنوى الصمت، تسارعت انفاسي للدرجة التي جعلتني اشعر
بأنه سيستمع الى صوتها بل وصوت نبضات قلبي ايضا ولكنني حاولت ان احافظ على ثباتي وتماسكي.

ظللت مستمر فى اللحاق به دون ان يشعر بي ويعيرني الشعور بالحيرة من امره، فهو لم يكُف عن الالتفات
حوله لمراقبة الوضع والقلق مازال يظهر على
تصرفاته جليا، حتى جاء امام احد المقابر ليقف امامه وهو يلتفت مرة اخرى ليرى ان كان هناك من يتبعه
ام لا؟

عندها اخفيت نفسي عنه وانا اراقب من خلف اقرب
قبر اليه ما يفعله لأجده يجثوا على ركبتيه ويبدأ فى
الحفر بجوار ذلك القبر الذي كان يقف أمامه منذ
لحظات، ليضع بداخل تلك الحفرة التي قام بحفرها
للتو تلك اللفافة الصغيرة التي لم استطع التعرف
عن شكلها بالضبط، فى ذلك الوقت فكرت فى ان
اهجم عليه واوسعه ضربا لكي استطيع ان اعلم ما
الذي يفعله فى هذا المكان وفي ذلك الوقت من
الليل ولما هو يتلفت حوله خائفا الى هذه الدرجة؟
ولكن ما منعني من ذلك التصرف هو عندما تذكرت
ما قاله لي وحذرني منه صديق والدي رب عملي"
عم يوسف"، مما جعلني تراجع وانا اشعر ايضا
بالخوف من ان يكون ذلك الملثم يحمل فى جعبته
احدى الاسلحة الذي طالما حملها قاطع الطريق
للدفاع بها عن نفسه او لتهديد فريسته بها، فشعرت بالخوف من فكرة الهجوم عليه لذلك السبب ايضا.

قرر الخروج من المقابر وظللت اراقبه حتى وصل الى
البوابة الكبرى فخرج وهو يركض هاربا من ذلك
المكان الموحش، لأعود انا الى تلك الغرفة القابع
بداخلها"عم يوسف" الذي مازال نائما، كان عقلي
رافض ان يصدق ما رأه مما جعلني اضطر لأن احاول
ان اوقظ عم يوسف لأقول له ما رأيته.

وعندما استيقظ حاولت ان اهدئ من روعي وسردت ما رأيته عليه بكل هدوء، ولكن ما رأيته منه جعلني اشعر بالريبة أكثر، فجأة غضب بدرجة كبيرة وتحولت عيناه للسواد القاتم بأكملها وقال بقوة وغضب وهو يزفر ويشهق بعنف ملحوظ وكأنه ينفث النار التي بداخله وهو يردد:
-ألم أقل لك الا تتحدث ابدا فيما تراه فى ذلك المكان؟

عندها رددت وانا تغمرني الدهشة:
-وهل اقول لك بأنني رأيت شبحا او شيطانا فى ذلك المكان؟! بل انا اقول لك أنني رأيت شخصا يقوم بدفن شيء بجوار احدى المقابر.

عندها بادرني بسرعة الرد بنفس الغضب وهو يقول:
-أنت كاذب، لا شيء مما تقوله صحيح، وانصحك الا تتفوه بما تقوله مرة اخرى مهما حدث ولأي شخص مهما كان.


فى تلك اللحظة شعرت بأهانة من اتهامه لي:
-أنا لا اكذب.

ليبادرني قائلا:
-ما تقوله لم يحدث فأنا متأكد من ذلك، وغن حدث وتفوهت به مرة اخرى فتأكد بأنك ستكون مطرود من العمل فى ذات اللحظة بلا رجعة.

انصرفت من أمامه خارجا من تلك الغرفة وانا اشعر بغضب تملكني من ذلك الرجل المختل بالتأكيد، فهو يتحدث بثقة وكأنه كان معي، تلك الثقة التي تحدث بها جعلتني أشعر وكأنني غير مدرك لما يحدث حولي، جعل الشك يساورني تجاه ما رأيت، هل انا مجنون وكنت اتوهم ماحدث؟


شعرت بأهانة فأكثر ما يحزنني حقا فى حياتي هو ان يتهمني أحد بأنني كاذب، ولذلك قررت ان اثبت له انني على حق ولذلك قررت الذهاب الى تلك الحفرة مرة اخرى، نعم سأصل اليها وأعيد الحفر مرة ثانية وأخرج ما تم دفنه لأريه الى عمي يوسف، نعم لابد من ان افعل ذلك، فأنا ليس كاذب ولا مجنون لأتوهم موقف كامل من اول يوم لي فى العمل، ليست هي طبيعتي وسأثبت له بأنني بكامل قواي العقلية ووعيي.

ودون تفكير او تردد توغلت مرة اخرى بين المقابر، كنت اجول بينها وانا يغمرني الغضب والشعور بالظلم والاهانة، مختنق بسبب رد الفعل الغير مبرر لذلك الرجل المجذوب رئيس عملي للأسف، حاولت ان اتذكر تلك المقبرة التي تم الدفن بجوارها فالمقابر متشابهة جميعا وايضا الليل يجعل الموضوع اكثر صعوبة ولكن لم يأخذ مني وقتا كبيرا حيث انني وبعد مروري بثلاث ازقة بين المقابر رأيت تلك الزهرة، زهرة الصبار التي كانت علامة امام ذلك القبر مما جعلني اهرول اليه وكأننى وجدت المياه التي ستعمل على سد رمقي بعد ضياع فى الصحراء، ركضت نحوها بسرعة وحماس لأعيد حفرها مرة اخرى، وفى النهاية وجدته، نعم وجدت ما ابحث عنه، تلك اللفافة السوداء، نعم هي مجرد لفافة سوداء بلاستيكية تم ربطها بأحكام، لم اشعر بنفسي الا وانا اقوم بفكها وقطع تلك اللفافة لأجد ما جعلني اشعر بأنقباضة قلبي قليلا.

قطعة قماش تم التفاف عدد كبير من الحبال حولها، أخذت وقت حتى استطعت فك كل تلك الحبال وأنا اشعر بالتوتر والارتباك، لأجد لفافة اخرى سوداء تشبه فى تكوينها الكرة الصغيرة ولكن ملمسها حريري ناعم كالشعر المنسدل، ولكنها كانت ساخنة بشكل كبير ولدرجة غريبة، ولكن قبل ان اتركها من بين يداي شعرت بها وهي تنبض، نعم تنبض بطريقة غريبة للغاية وكأنه قلب بشري.


في تلك اللحظة شعرت بالرعب مما جعلني أتركها من يدي بفزع واتراجع بضعة خطوات للخلف وانا مذهول ومصدوم بنفس الوقت، مازلت اشعر بنبضها بين يداي رغم انني تركتها، ولكنني هرولت وركضت سريعا من المكان والفزع يتملكني، فى تلك اللحظات استمعت الى اصوات خطوات غريبة تلاحقني وهى تركض خلفي مباشرة.

وكأن هناك فرس جامح يركض خلفي بمنتهى السرعة مما جعلني اسرع من خطواتي فى الركض وأنا الهث من الفزع والتعب، يتملكني الرعب ولكن كان الصوت مستمر فى القرب مني، نعم قريبا جدا، اشعر بأهتزاز الارض اسفل قدماي، أشعر بأقترابه مني وفى لحظة واحدة مر من جواري دون ان يلمسني، رغم انني لم استطيع رؤيته ولكنني كنت استمع الى خطواته وصوت وقعها على الارض بدقة، مما جعلني اقف بمكاني وانا الهث وجسدي يرتجف وأحاول ان التقط انفاسي المنقطعة.


توجهت مسرعا من بعدما هدأت قليلا الى غرفة"عم يوسف" لأرى ذلك المشهد الذي لا يمكن لي يوما ان انساه، ذلك المشهد الذي ظل يراودني يوميا اثناء صحوي ونومي، رأيته أمامي، رأيت"عم يوسف" يقف أنام الغرفة وأمامه ذلك الكيان المخيف البشع، يشبه فى هيئته الشيطان الذي يظهر على شاشات التلفاز من خلال الافلام المخيفة، كيان ضخم مخيف له قرون طويلة وأعين حمراء يرتدى زي اسود مخيف، والحوافر تخرج من قدميه وكأنها ايادي طويلة وليست مجرد اظافر.

كان عم يوسف فى تلك اللحظات يرتجف، وجهه تحول لونه الى الأزرق وفمه مفتوح على اخره، وكان هذا الشيطان المخيف غارسا اظفاره بأعماق قلب عم يوسف، هنا وقفت فى مكاني كالتمثال، مصدوم ومفزوع وكأنني احد الاموات الراقدة، وعقلي قد فقد قدرته على التفكير وكأنه عاجز تماما كجسدي.

في تلك اللحظة اشار عم يوسف ناحيتي وكأنه يستغيث بي وهو ينظر تلك النظرة الرهيبة التي تدل على مدى فزعه ورهبته والمه فى ان واحد، لم استطع تحديد اذا كانت تلك النظرة استغاثة ام هو يحاول لفت انتباه ذلك الشيطان لي!

ومن بعد تلك النظرة سقط ارضا جثة هامدة لا حراك ولا نفس اخر، واختفى ذلك الشيطان فى ذات اللحظة وكأنه قد ادى مهمته على اكمل وجه لأسقط مغشيا علي لأدخل فى غيبوبة رهيبة لم استطع ان افوق منها بسهولة.

عندما استيقظت من غيبوبتي وجدتني بداخل منزلي ومجتمع حولي جميع اهل القرية، فكانت زوجة عم يوسف تملأ الدنيا صراخا وعويلا، وفى ذلك الحين علمت من اهل القرية بأنهم فى الصباح وجدوا جثة عم يوسف على بوابة المقابر وانا ملقى بجواره، يقال أنهم وجدوه وجهه شاحب أزرق ومخيف، عندما افاقت من غيبوبتي ظللت فاقدا للنطق لمدة تجاوزت الاسبوع، لا انطق، سبع ايام مروا دون ان انطق بكلمة واحدة، حتى بعدما تم دفن"عم يوسف" استمريت فى الذهاب الى الاطباء النفسيين واطباء بجميع التخصصات الاخرى لكي اصل الى حل فيما وصلت اليه من فقدان للنطق.

ولكن بالنهاية تحدثت، نعم تحدثت ولكن ليس من خلال الاطباء بل تحدثت بمفردي لأحد الشيوخ فى احدى المحافظات البعدية عن محافظتنا، وبعد التعمق فى التفكير من قبل الشيخ قال لي تفسيره الذى جعلني اخيرا اعيي ما رأيته:

-يابُني ما رأيته فى تلك الليلة ليس له سوى تفسير واحد فقط، وهو ان الرجل الذي رأيته انت ليس الا ساحر دجال، بيستغل المقابر فى دفن الاعمال والاسحار الحية.

- يدفن تلك الاعمال الخبيثة وكان ذلك يتم بمعرفة صديق والدك يوسف، هو من كان يسهل له الوصول الى داخل المقابر واستغلالها بذلك الشكل الخطير وذلك بالتأكيد مقابل استفادة مادية يحصل عمك عليها.

-وعندما قمت أنت بأخراج العمل من باطن الارض ذلك جعل الجن الموّكل بالاعمال يشعر بالغضب، وفى ذلك الوقت من يحصل على الانتقام هو الشخص الذي لم يستطع تأمين الحماية على تلك الاعمال الخبيثة، وبالتأكيد هو يوسف بالطبع، وخاصة أن العمل الحي يقوم على حمايته الجن المّكل وهو جن قوي وشرس للغاية وله القدرة على القتل، وهو من كان سببا فى قتل عمك، وفى اللحظة التي اشار بها يوسف اليك يا خالد كان قاصدا ان يلفت انتباه الجن اليك ليقوم بأخباره، بأنك انت سبب ما حدث وليس هو.


لا اعلم ما الذى جعلني اتذكر تلك الجملة التي قالها عمي لي عندما قام بالتأكيد علي في ان لن ينبغي علي التحدث فيما اراه يحدث فى ذلك المكان.
"لا ينبغي عليك ان تتحدث فيما تراه بعينك يحدث بين الاموات وان حدث ذلك فأنت من الاموات"

ولكن وللأسف لقد تحدثت يا عمي، نعم تحدثت ولكن لم امُت انا بل انت من مات، انت من وضع تلك القاعدة، ولكنك كنت تتمتع بغباء بالغ لأنك عندما قولت ذلك قمت بأستثناء نفسك، ولكنني ليس بحزين فأنت حقا تستحق ما حدث لك، نعم تستحق ذلك فمن يعمل على اذى الغير جزائه من جنس عمله، انت من اختارت تلك النهاية لطالما كنت سبب فى اذى الكثير ممن لم يكُن لهم ذنب فى اي شيء بل من الممكن انهم لم يعلموا يوما بأن هناك من تسبب فى اذاهم، ولذلك يجب ان يظل سبب نهايتك مجهولا للجميع يكفى فزعك والرعب الذى عانيته فى نهايتك.

من اعان الظلم يا استاذة ولاء يستحق ان يخسر عمره مقابل ما فعله بمن ليس لهم يد فيما حدث، فانا واثق من انه يستحق ذلك، رغم أنني اشعر بأنني سببا في موته ولكنني واثق من انه سواء كنت سببا ام لا فكانت حساته ستنتهى بطريقة بشعة.

كنت استمع اليه غير مصدقة بأن هذا يحدث حقا من البشر، نعم اعلم بأن عالم الجن مليء بالخبايا والشر، ولكن كيف لبشر ان يسمح بأن هذا الشر ينتشر ليضر شخص اخر من بني جنسه؟

خالد:
-استاذة ولاء، هل حضرتك معي؟

ولاء بذهول:
-نعم معك، معك للدرجة التي شكرت فيها الله أنه جعلني اقوم بتسجيل ما تقوله بدلا عن تدوينه كتابة، لأنني فى لحظة ما شردت مع ما تقوله فنسيت امر الكتابة.

خالد:
-للأسف رغم ان عالم الجن بوابته هي بوابة الجحيم، ولكن ذلك لا يمنع ان هناك من البشر من يساعد على فتح تلك البوابة.

ولاء:
-نعم ما تعرفت عليه من خلال كتابتي عن ذلك
العالم، جعلني استمع الى ما يجعلني في كل مرة
اندهش وكأنني اصل الى الجديد فى كل مرة، بالفعل فالأحداث رغم تشابهها احيانا الا أنه لابد من وجود
عامل جديد لن اعرفه من قبل من خلال الجن، فأنا لم اعلم يوما بأن هناك جن يعمل على الأسحار التي
يقوم بعملها البشر، فذلك كان بالنسبة إلي مجرد
تخارف لا يصدقها عقل.

خالد:
-أتقصدين الجن الموكّل بالأعمال؟ نعم فحتى
الأسحار لها القائمين على الاهتمام بها، فالشر
مفتاحه تلك الاسحار، ومن خلاله يجدوا الطريق الى
عالمنا، طالما هناك من السحرة والدجالين من يقوم
بأستدعائهم.

ولاء:
-أعدك يا استاذ خالد بأن موضوعك سيكون له صدى واسع للغاية، انا على ثقة من ذلك.

خالد:
-اشكرك أستاذة ولاء، ولكن لي عندك رجاء.

ولاء:
-تفضل، تحت امرك.

خالد:
-إن امكن ان يكون الموضوع خالي من تفاصيل
الاسماء والعناوين، ارغب فى ان يظل عم يوسف
بالنسبة الى عائلته بعيدا عن الشبهات، يكفي عذابه فى اخر لحظات حياته، ويكفي ما سيقابله من عذاب
فى الاخرة.

ولاء:
-رغم ان التفاصيل كانت سوف تجعل الموضوع اكثر
تشويقا و اثارة بالنسبة الي البعض لكنني لا امانع
فى ذلك، بعيد عن الاسماء الموضوع حقا يستحق
النشر.

خالد:
-اشكرك، واتمنى الا اكون تسببت فى ازعاجك، علي
الرحيل الأن، لقد جئت لك رغبة مني فى التحدث عما
بداخلي فهو كان يسبب لي الضيق بسبب كتمانه،
وكنت لا استطيع ان اسرده على اى شخص اخر.

ولاء بأبتسامة:
-سعيدة بالتعرف عليك، بل ممتنة الى تلك المهنة
التي جعلتني اقابل الكثير الذين يعملون على اسعادي دون ان يعلموا، فدائما ما اكون سعيدة بأستماعي الى تلك الحكايات الحصرية، فأنها تكون فقط لي
ولقلمي فتلك بالنسبة لي سعادة عارمة.


خالد بأمتنان:
-اسعدني حديثي معك، واتمنى ان نلتقي مرة اخرى
فى مناسبة افضل.

ولاء بأبتسامة:
-افضل مناساباتي تلك التي استمع فيها الى
حكاياتكم، اتمنى لك التوفيق يا استاذ خالد.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي