الفصل الرابع

في أحد المرات الغريبة كغربة ذلك الموقف حضر رجل مختل لربما يتظاهر بالجنون فقط مرة إلى مجلسي حينها كان درسي والحضور عن العقيدة كالعادة فقد  أصبحت تلك شغلي ومجال تدريسي مذ أن جئت لهذه المدينة  المهم لن أخوض بتفاصيل كثيرة فلقد كتبت لك تفاصيل الحكاية من قبل وعندما تكبرين ستقرأينها كما ستقرأين هذه القصة القصيرة

المهم يا قرة عين أبيك انه قد دخل لمجلسي وكان عندي مجموعة طلبة وقد كنا في شهر رمضان المبارك وكان ذلك قبل المغرب بقليل فقمت وقدمت لهم بتمر للإفطار, ولكن يا ابنتي تحدث ذلك الرجل المجنون العاقل حقيقة وقال: أيمكنني أن أقسم أنا التمر بين الطلاب

فقلت:لك ذلك 

تحرك من موضعه وحمل التمر لكن قبل أن يشرع في تقسيمه على الطلاب تحدث وقال: أأقسمه كقسمةِ الناسِ أم كقسمةِ الله ؟!

فقلت مستفهما : اقسمه كقسمةِ الناسِ.

وفعلا أخذ صحن التمر ذاك وأعطى كل واحدٍ من الحضور ثلاث تمرات فقط  ثم وضع الصحن وما تبقى منه أمامي وجلس صامتا والكل أخذ عدد تمرات بالتساوي

نظرت اليه مذبهلا قليلا لم أفهم ما مقصده ظننته مجرد وكلام ولكنه قسمه بالتساوي ولم يخطئ فانتابني الفضول من ذلك المجنون وعندها قلت له : أقسمه كقسمة الله إذا

تحرك ثانية من مكانن وجمع التمر مجددا من أيدي طلابي وأعاد توزيعه مرة أخرى والغريب في هذا أنه عطى للأول تمرة واحدة والثاني حفنة والثالث لم يعطه شئ اما الرابع فلقد ملأ حجره بالتمر

فنظر إليه الحاظرون وانفجروا ضاحكين طويلا.

ولكنني لم أضحك بالعكس خلته عاقلا حقا يعي الجنون وقد أدركت قصده فلقد أراد  أن يقول لهم إن لله حكمة في كل شئ وإن أجمل مافي الحياة التفاوت  لو أُعطي الناس كلهم المال لم يعد له قيمة

ولو أُعطي كلهم الصحة ما كان للصحة قيمة 

ولو أعطي كلهم العلم ما كان للعلم قيمة.

نعم إنه كذلك سرّ الحياة أن يُكمل الناس بعضهم، وأن لله حكمة لا ندركها بعقلنا القاصر ، فحين يعطي الله المال له حكمة ،وحين يمسكه له حكمة، وأنه ليس علينا أن نشتكي الله كما نشتكي موزع التمر إذا حرمنا !! لأن الله سبحانه وتعالى إذا أعطانا فقد أعطانا ماهو له ، وإذا حرمنا فقد حرمنا مما ليس لنا أساساً !

ولو نظرنا إلى الحياة بمنظورنا  لوجدناها غير متساوية وهي ليست كذبك، لهذا نعتقد أن فيها إجحافاً ،ولكن هنالك مبدأ في الحياة  أسمى وأعلى وأرقى بكثير  من المساواة بل فيه راحة للبشر بأن رب العزة لا يظلم أحدا، هو العدل والله والعدل الذي لا يظلم ،  لهذا قسم سبحانه وتعالى بالعدل خصلته الخالصة لا بالمساواة، لأن المساواة تحمل في داخلها بعضا من الإجحاف أحياناً وحاشى أن يكون رب العزة جاحفا ثم يا ابنتي لنفترض أن أحدهم أعطى مالا من يعرف ماذا أخذ في المقابل؟

المغزى من كل هذا الحديث تأكدي وأيفني  أن الله لو كشف لنا حُجب الغيب التي يخفيها عنا وترك لنا اختيار أقدارنا  ما اخترنا لأنفسنا إلا ما اختاره لنا سبحانه وتعالى ولكن هذا هو حال البشر وحال العبد رغم أنه يدرك أن الدنيا فانية وزائلة والبقاء لله وحده إلا أنه ينظر إليها وكأنها كل شئ ، وأنها المحطة الأخيرة لنيل النصيب والرزق لكن  هناك آخرة ستأتي لامحالة مهما بالغت الدنيا في ابتسامها لك ومنحها لك الكثير والكثير لكن لابد أن نغادر وحينها عند العدل سنرى كيف تتحقق العدالة المطلقة، وأن العطاء الحقيقي هناك، والحرمان الحقيقي هناك والبقاء للحي الذي لا يموت..


المال لم يكن يوماً معياراً لحب الله للعبد, فقد أعطى المال والملك لمن أبغضهم وأحبهم، ولكنه لم يعطِ الهداية إلا لمن أحبّ، ولو كان المال دليلاً على محبة الله للناس لما ملك النمرود الأرض من مشارقها إلى مغاربها , ولما مضت الأشهر ولا يوقد في بيت النبيّ ( صل الله عليه واله وسلم ) نار لطعام !!

الأشياء التي لا تصلك وأنت تحتاجها بشدة ، هي أشياء قدر الله عز وجل لها التأجيل ؛ لتأتيك في وقتها المُناسب ..

لذا فنصيحتي لك يا قرة عين أبيكي هي: ألا تحزني يوما لأن الله حرمك شيئا، وجودك هنا ليس لأنك قليلة بل لأنك مختلفة ومتفردة


وبهذه الكلمات ختم الشيخ حسن خطابه اليومي لابنته جنة، فلقد مرت أربعة أشهر قضاها الشيخ حسن بروتينه المعتاد يوميا يقضي الصباح مع جنة بعد أن يفطر مع خديجته 

هكذا يجلس معها يلاعبها ويدللها ويحملها علي كتفه ويصورها ويتصور معها ثم يطبع هذه الصور ويرفقها مع كل حكاية ونصيحة يخطها لها فعلي مدار الاشهر الماضية كتب لها يوميا نصائح تكفي لثباتها عمرها بأكمله، يريد أن يكون معها بروحه ووجدانه مستقبلا كما هو معه محاوطها الآن 

كانت تحبو امامه تلعب بعرائسها التي أعدتها خديجة وتمثل انها تحادثها ويحاول أن يفهم ما تقول ولكنه لا يستطيع إلا أن يضحك علي لغتها - لغة الأطفال - التي علي الرغم من عدم فهمه لها إلا أنها بالنسبة له حياة للحياة وعمرا جديدا أضيف لعمره فأضاءه 



في المساء عاد الشيخ لبيته قبيل العشاء فوجد زوجته كالعادة تخيط الثياب الجديدة وترسم لوحات صغيرة عن يوميات الشيخ مع جنة كما طلب منها 

عندما دلف الي البيت قاده قلبه لمكانها حيث غرفة جنة ترسم وتلون وحولها الخيوط والألوان 

ابتسم واقترب مقبلا جبينها قائلا: السلام عليك يا أم جنة 

خديجة مبتسمة: وعليك السلام يا أبا جنة 

نظر للوحتها متأملها ولكن استوقفه فراغ بأسفلها فأمسك بالفرشاة الصغيرة ليكتب: إلي ابنتي الكامنة في ايسري من ابيك حسن وامك خديجة 


نهضت خديجة من مكانها قائلة: ليعطك ربي طول العمر حتي تكبرها علي يديك وتفرح بها 

ثم توجهت الي المطبخ لتحضر له عشائه وتركته وحيدا مع مقتنيات جنته فالتقطها بيديه وقبلها قائلا: كوني سعيدة يا جنة ابيكي فهذا يكفيني 


تناولا عشائهما ثم توجه للمسجد ليلحق بصلاة العشاء ويأم الناس 

وبعد الصلاة اتجه مع جاره الي احدي القهاوي والتي يحب الجلوس بها رفقة جيرانه واصدقائه 



كانت ليلة صيفية ممتازة ، الهواء العليل والنجوم والأضواء العالية وحركة الناس في الطرقات ، شيئ ما دفعه للتوجه الي القهوة ،  لعله الفضول او شغفي في خوض مغامرة جديدة يكتشف فيها الإنسان عن قرب ، ذهب إلى تلك القهوة القريبة وتوقف عند صديقه الشاي الذي يعمل بالقهوة ألقي التحية المعتادة عليه وأخذ كأسا كبيرا من القهوة ولحق به جاره وجلسا معا يتسامران ليسأله جاره عن الصغيرة 

الجار علي : اخبرني يا شيخ حسن ماذا فعلت بأمر الصغيرة التي وجدناها في تلك الليلة 

الشيخ حسن: يا رجل لقد مرت أشهر ظننتك نسيت أمرها 

الجار علي: لا والله لم انسي بل هي مشاغل الحياة كما تعرف، هيا اخبرني 

ابتسم متألما ثم اردف: حاولنا انا وزوجتي كفالتها ولكن لم نتحمل أكثر من شهرين فالصحة لا تساعد ولا العمر يسمح فاضطررنا لوضعها بالملجأ وكل يوم أذهب لزيارتها

الجار علي: خيرا فعلت فالعيش بالملجأ خي لها من البقاء بهذه بالحارة، فوالله ان حفيدي الصغير صحته ليست علي ما يرام بسبب الجو والرطوبة هنا، العيش بالعشوائيات صعب جدا

الشيخ حسن: وانا أدرك هذا لذا ارسلتها والحمد لله مديرة الدار متفهمة وضعنا وتسمح لي بزيارتها بأي وقت 


 في تلك الأثناء اقترب منهم شابا في مقتبل العمر ، وجلس علي طاولة قريبة منهم 

لفت نظر الشيخ فسأله: ما بك مهموما ايها الشاب؟ 

الشاب: السلام عليكم ياشيخنا 

الشيخ: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، شاركنا همومك فيبدو انك جئت هنا لتبحث عن شريكا لضيقك

الشاب: معك حق فكلما حكيت ضيقي لأحد ينتقدني ولا احد يواسيني في مصيبتي

الشيخ: مصيبة!! اهدأ يارجل وارمي حملك على ربك 

الشاب: لقد أنجبت زوجتي فتاة 

الشيخ: مبارك عليك، الله ينبتها نباتا حسنا ان شاء الله، هنيئا لك 

الشاب بسخرية: علي ماذا تبارك لي؟

الشيخ: تعال هنا بجانبي تعالي 

واشار اليه بيده فذهب بكرسيه وجلس بجانبه وتحدث مباشرة: يا شيخ أريد ولدا وحسب علي بهذا مشكلة؟

الشيخ: ليست مشكلة ولكن ما سبب رغبتك في الاولاد عن البنات؟

الشاب: الحال هنا يضيق بنا وأريد ولدا يسندني ويحمل همي عندما اكبر

الشيخ: ذكرتني بأبو الليل الأسود 

الشاب بتعجب: من ؟ 

الشيخ: في قديم الزمان كان هناك رجل من البادية يقولون انه تزوج ابنة عمه فأنجبت له تسعة أولاد ذكور ولكن في الحمل العاشر أنجبت له أنثى وﻋﻨﺪﻣﺎ تلقي البشارة أنها القادم فتاة ﺣﺰﻥ حزنا شديدا وشعر بالإهانة لجهله بقيمة أن يكون للرجل ابنة من صلبه 


المهم أن ردة فعل هذا الرجل كانت أشبه بحالك الآن حيث قال صارخا : ﻳﺎ ﻟﻴﻠﻲ ﺍﻷﺳﻮد .. يا ليلي الأسود 


ثم  قاطع بيته وزوجته وأصبح ينظر إليها نظرة تشاؤم وجحود وكأنها هي السبب أو هي التي خلقتها 


قاطعه الشاب: ولكني لم ألم زوجتي أو أؤذها بكلمة بل لملمت همومي وابتعدت في صمت وسأعود 


الشيخ: ستعود ولكن لن تكون سعيدا 

صمت الشاب ولم يكمل فأردف الشيخ: ﻣﺮﺕ ﺍﻷﻳﺎﻡ والسنين ﻭﻛﺒﺮ هذا ﺍﻷﺏ وضعفت قدرته واصبحت بنيته هشة وصحته تزول وبين يوم وليلة فقد بصره ﻭﺃﺻﻴﺐ ﺑﺎﻟﻌﻤﻰ ﻭﺗﺰﻭﺝ ﺍﻷﺑﻨﺎﺀ وإﻧﺸﻐﻠﻮﺍ ﺑﺤﻴﺎﺗﻬﻢ ﻭﻧﺴﻮﺍ ﺃباهم الضرير


كما أن إﺑﻨﺘﻪ تزوجت أيضا ، ولكنها عندما علمت بما حدث لأبيها هرولت ذاهبة اليه وعندما دخلت عليه بدأت تغسل له جسده وتنظف له خيمته وقامت بطهي الطعام له .. فأحس براحة لم يشعر بهاا من قبل، منذ أن جحد علي اهل بيته وأراد أن يسألها من هي ولكنه شعر إنه يعرفها ، فلما إقتربت منه ﻟﺘﻌﻄﻴﻪ ﺍﻟﺪﻭﺍﺀ ،أمسكها من يدها وﺴﺄﻟﻬﺎ : ﻣﻦ ﺃنت يابنت الكرام؟؟

ﻓﻘﺎﻟﺖ والدموع تنهمر من عينها وغصة بقلبها تمزقه: ﺃﻧﺎ ليلك ﺍﻷﺳﻮﺩ ﻳﺎ ﺃبي !!

فعرف أنها إبنته وانفجر باكيا ورد ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻧﺎﺩﻣﺎً ﻭﻣﺘﺄﺳﻔﺎً : سامحيني يابنيتي ﻟﻴﺖ_ﺍﻟﻠﻴﺎﻟﻲ_ﻛﻠﻬﺎاا_ﺳﻮﺩ


وأنشد قصيدته الشهيرة يقول:

ﻟﻴﺖ ﺍﻟﻠﻴﺎﻟﻲ ﻛﻠﻬﺎ ﺳﻮﺩ

ﺩﺍﻡ ﺍﻟﻬﻨﺎ ﺑﺴﻮﺩ ﺍﻟﻠﻴﺎﻟﻲ


ﻟﻮ ﺍﻟﺰﻣﺎﻥ ﺑﻌﻤﺮﻱ ﻳﻌﻮﺩ

لأﺣﺒﻬﺎ ﺃﻭﻝ وتالي


ﻣﺎﻏﻴﺮﻫﺎ ﻳﺒﺮﻧﻲ ﻭﻳﻌﻮﺩ

ﻳﻨﺸﺪ ﻋﻦ ﺳﻮﺍﺗﻲ ﻭﺣﺎﻟﻲ


تسعة ﺭﺟﺎﻝٍ كِلهم جحود

تباعدوا عن سؤالي


ﻣﺎﻏﻴﺮ ﺭﻳﺢ ﺍﻟﻤﺴﻚ ﻭﺍﻟﻌﻮﺩ

إبنتي ﺑﻜﻞ ﻳﻮﻡٍ ﻗﺒﺎﻟﻲ..


 الشاب: دام الهنا بسود الليالي، دام الهنا بسود الليالي

الشيخ: البنات كالنجوم ينزلن بالبيوت يزينّها كما تزين النجوم السماء فوالله انهن للحياة الحياة اذا تلاطمت المشاكل والهموم ولا تنسي أن نبينا وحبيبنا محمد اوصانا: قال ﷺ " لا تَكْرَهُوا الْبَنَاتِ فَإِنَّهُنَّ الْمُؤْنِسَاتُ الْغَاليات

يا بني ان الأنبياء وهم خير خلق الله كانوا آباء بنات وكما قال إمامنا احمد بن حنبل عندما بلغه  أنّ أحد أصحابه رُزِق ببنت: أخبروه أن الأنبياءَ آباءُ بنات ولا يزالُ الرَّجل عقيمًا من الذّرارِي؛حتىٰ يُوهب البنَات، 

وإنْ كانَ لهُ مِئة منَ الأبنَاءِ إنَّ البناتَ ذخائرٌ من رحْمةٍ 

وكنوزُ حبٍّ صادقٍ و وَفاء 

 

انتهي حديثهم وانتهت ليلتهم فاتجه الشاب لبيته ليأخذ ابنته بين احضانه نادما علي كل ما بدر منه بحقها 

وذهب الشيخ حسن لبيته لينام وهو يبتسم يتذكر تفاصيل اليوم مع جنته 


وفي الصباح تجهز هو وزوجته  ليذهبا لجنة كما وعدها منذ ايام أن يأخذها إليها نهاية الأسبوع

ذهبا للملجأ وقد كانت جنة متجهزة مع الممرضة وفي انتظارهم فوجودهم ووجود الشيخ حسن خصيصا أصبح جزءا من هذا الملجأ، جميع الأطفال يحبونهم فهم يعطفون عليهم ويحضرون لهم الهدايا كل حين، كما أن الأطفال بقلوبهم النقية يميلون كل الميل لكل قلب عفيف لطيف برئ نقي 


اسرعت خديجة وحملت جنة بين يديها واخذت تضمها وتغرقها بالقبلات والصغيرة تضحك بصوت عالي سعيدة بوجود امها خديجة تضحك تلك الضحكة التي تساوي الدنيا بما فيها، تسعد القلب وتبهج الروح، استمرت هكذا وهي تلاعب يدها وارجلها وخديجة تضمها بقوة وتحاوطها بيدها ثم اجلستها بحضنها 

وذهب الشيخ ليوزع الهدايا التي احضرها لبقية الأطفال ليركضو نحوه فرحين مناديين اسمه: عمو حسن لقد جاء عمو حسن 


دمعت عين خديجة من منظر الأطفال حولهم وفرحتهم به فابتسمت قائلة بخفوت: صدق أبيكي عندما اخبرني أن العوض يأتي فجأة حين يصل اليأس ذروته، وهل بعد هذا المشهد من عوض ؟ وهل من بعده سعادة؟ 


انضم إليهم الشيخ حسن بعد قليل وجلس جوارهم ثم دنى قليلا مقبلا رأس الصغيرة كعادته ثم انتقل الى يديها القطنيتين  الصغيرتين فابتسمت باشراق يبعث الربيع من وسط الشتاء فرفرف قلبه حبا لتضيف على تلك الابتسانة ضحكتها الطفولية فقبل كفها القطني مجددا ومجددا لا يمله وسرح في برائتها وظل يتأملها طويلا وهي تلعب وتعبت في الألعاب وتتحدث بلغتها الغير مفهومة وفجأة عم الصمت وهدأ محيطهم دون سبب فقط هكذا صمت مريح ولم يخطفهم سوي كلمة هزت كيانهم، كلمة حلت فجأة فأشبعت ظمأ أبوتهم وحلم السنين لقد قالت: ب ا ب ا، با بابا

نعم لقد أصبح عمرها ثماني أشهر تقريبا وأصبحت في الوقت المناسب للنطق وقد كانت اول كلمة نطقتها هي بابا 

الشيخ: ماذا ؟، ماذا قلتي؟ 

هل سمعتيها يا خديجة؟ 

لقد قالت بابا… آه والله لقد قالتها 

حبا بالله اعيديها، كرريها يا جنة ابيكي 

وسالت دمعها وهو يتوسلها أن تعيدها فرأفت به طفلته واعادتها من جديد: بابا 

فحملها الشيخ ودار بها بالمكان سعيدا فرحا مجبور الخاطر وزوجته تراقب سعادته التي لم ترها لهذا الحد من قبل طوال السنوات الماضية.


ظل يرفع طائر السنونو خاصته للاعلي فرحا بها واصوات ضحكاتها تبهج القلوب وتفرح الأنفس وتدمع الأعين، ظل هكذا دقائق ثم احتضنها بقوة وضمها اليه قائلا لخديجة: انها ملاك مُنزل من السماء لجبر خاطرنا، بضحكتها دافئة رغم سخونة الأيام، جاءت كالنور لظُلمتنا، لقد أصبحت سعادتنا الدائمة وكل سعادة أخرى غيرها مؤقتة 

ردت عليه وهي تبكي فرحا لفرحته: والله إنها لحياة أخرى لحياتنا.

وظل الشيخ يضم الصغيرة ويتردد بأذنيه آية كريمة "يُؤتِكُم خيرًا مما أُخذَ منكُم"

فظل يبتسم ويضحك دون وعي فلقد جاء العوض من ربه بطريقة لم ينخيلها أبدا وظل يقبلها بقوة وهو يردد:الحمد لله الحمد لله، اللهم لك الحمد والشكر 


لطالما جاء عوَض الله كريمًا مُضاعفًا يُنسينا  كل مرارة تذوّقنها، في أكثر الاوقات يأسا وأحلكها ظلاما يأتي عوض الله وجبره  كمكافأة على تسليمنا وصبرنا، ربما تناسي الشيخ حسن امنيته ولكن في هذه اللحظة أدرك أن ربه لم ولن ينسي امنياة عبده التي استقرّت في فؤاده وقلبت كيانه في يوم من الأيام، ربما يؤجّلها قليلاً لتنمو بصورة أجمَل وأكمَل، حتى إذا أقبلت عليه أقبلت مُبهرة، تغمره بالهناء والرِضا والسرور والفرحة والجبر كما أقبلت عليه جنة..
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي