الفصل الثاني

( الفصل الثاني )


يحرك انامله بهدوء مميت على شاكلة دائرة بقلمه الرصاصي اثناء جلوسه في غرفة مكتبه ليلاً، خافضاً الاضاءة بطريقة تهدئ الاعصاب؛ لكي يستطيع التفكير جيداً فيما حدث، يرسم حول اسم المجني عليه الطبيب رامي العامر والمجني عليه الاخر الطبيب عمر السعودي، وضع دائرتين حول كلمة الطبيب في كلا الجهتين ثم اوصلهما بسهم محاولاً ربط ما يراه على الورقة امامه لترسوه عقليته الى همزة واصلة بين الجريمتين ألا وهي ان كلا الضحيتين اطباء، وضع علامتين آخرتين على كلمة الشاب فكلاً منهما لازال في باكر العمر.

دلف صديقه كريم الى المكتب المتواجد في مبنى المقر؛ فوجده سارحاً كعادته حينما يعمل ليجلس على المقعد متسائلاً :
_ألا تزال الجريمة التي حدثت منذ اسبوع مضى تشغل عقلك يا عزيز؟ اتعجبك فهناك ضحايا آخرين وقضايا مختلفة لديك فلما هذه؟

ترك عزيز القلم على الورقة امامه مردفاً :
_لا اعلم يا كريم لكن عقلي يصور لي ان جريمة الطبيب الشاب رامي العامر مرتبطة بجريمة الطبيب الشاب عمر السعودي فكلاهما شباب في نفس سن الزهور وايضاً اطباء بشريين كما ان الجريمتين حدثا بطريقة متشابهة ألا وهي البتر

انكمش حاجبي رفيقه بأشمئزاز :
_لا تذكرني فما رأته عيناي ذلك اليوم يعلق في فكري، بشع ما رأيناه يا شريك لكن ما ترويه لي عن مسألة الربط بين الجريمتين ليس دليل قاطع ان القاتل واحد كما تظن انت، القضاء لا يعترف بمثل هذه الشكوك

هز رأسه يخبره :
_اعلم، انا على يقين بذلك بينما شعوري يحدثني بعكس ما اراه
ضيق كريم عيناه محاولاً استنباط ما يدور في عقل عزيز ليقاطعه الأخير :
_ على أية حالة، دعك من هذا هيا نتناول بعض الطعام قبل الذهاب الى المنزل

ابتسم كريم مرحباً بالفكرة ثم نهض قائلاً :
_اتعلم يا حضرة الضابط هذا الوقت من اجمل اللحظات التي امضيها في يومي
ربت على كتفه ساخراً :
أتقصد لأننا نتجمع!

ضحك كريم فبادله الاخر بمرح :
_لا من اجل الطعام



جالسة على فراشها تدرس ما أملته عليهم المعلمة في الفصل لكن حاد حبرها ووجدت نفسها ترسم عين رجل، جفون سمراء تركت بصمة فريدة مميزة داخلها، ذهلت مما فعلت اناملها لكنها ابتسمت برقة متذكرة عزيز الضابط عزيز مهران، هذا الشجاع الباسل الذي دافع عنها امام الحاقد زميلها فجعله يبتعد عنها مذعوراً، تتساءل داخلها هل حقاً تفتقده ام ماذا؟ هل تلك الايام الماضية تناساها واستمر بحياته كأنه موقف عابر ام يتذكرها ويتذكر وعده لها بالمساعدة.
اخرجت الورقة المدون بها رقمه ثم ألتقطت هاتفها بتردد؛ حتى تدق له اتصال إنما تخشى ان يحرجها لكنها حسمت امرها مغمضة عيناها بخوف منتظرة صوته على الجانب الاخر


وفي مكان تتلاحم به روائح الطعام الشهي آتى رنين هاتفه فرفعه بين كفوفه مبتسماً بمكر :
_مرحباً

ارتج قلبها من خشونة نبرته قائلة :
_مرحباً اهذا انت سيد عزيز؟
تصنع عدم المعرفة هادراً :
_أجل انا، ومن انتِ سيدتي؟

صمتت ثانيتين ثم هدرت بصوت متحشرج :
_انا سيران هل تتذكرني؟
ابتسم براحة :
_بالطبع، اذكرك سيران كيف حالك يا فتاة؟

وضعت يدها على قلبها المتوتر بارتياح :
_انا بخير وأنت كيف حالك؟
نهض من الطاولة يبتعد عن صديقه كريم حتى لا يسمعه :
_جيد، هل هناك احد يزعجك مرة آخرى؟

علقت الحروف في حنجرتها بسبب الخجل تخبره :
_لا، لا احد يجرؤ بعد ذلك اليوم من التقرب لي و لهذا احببت ان اشكرك كثيراً

فطنته تجيبه ان هناك شيء آخر وراء اتصالها فقال :
_ ماذا بكِ سيران اشعر ان هناك خطب ما ؟

اغمضت عينيها مستسلمة فهي كانت تنتظر هذا السؤال :
_يوجد ولا يوجد، انا اردت استمد الامان من صوتك فمساعدتك لي لها قيمة كبيرة لديّ منذ وفاة والديّ لم اشعر بهذا ابداً، اسفة لو حديثي كان غير مهم بالنسبة إليك

فرك لحيته بتأني هادراً :
_صغيرتي انا من قلت لكِ في ان احتاجتي لي في اي وقت فأنا معك وبالطبع لم اقصد فقط الصراعات بل و اي لحظة شعرتي فيها كما الآن فأنا مجيباً لكِ فلا داعي للخجل الذي استمعه في انفاسك

ابتسمت برقة هامسة :
_ اشكرك سيد عزيز والآن تصبح على خير
اجابها بأحترام قبل ان يغلق:
_وانتِ في سلام الله



بين سلاسل الظلام نجد غرفة واسعة جداً تشعر كأنها منفصلة عن العالم الخارجي، سقيع غير محبب رائحة بعض المواد الكيميائية الحافظة لجثث الموتى، صناديق مبردة متراصة بجانب بعضها البعض مرقمة بطريقة متسلسلة بينما يحتوي كل صندوق على جثة لها حكاية مختلفة عن الجثة التي تليها، ضحية ولغز يكمن بجسدها الذي وحده يستطيع الاجابة على عدة تساؤلات متفرقة.
حينما ننظر الى البعيد في نفس الغرفة نجد الطبيبة سيرين بجوارها مساعدها مجد وهما يشرحان جثة الطبيب رامي العامر لكن مساعدها يشعر بالضيق

سألته سيرين :
_ ماذا بك يا مجد لما تنظر هكذا فأنت تعي عملنا جيداً وقد واجهت العديد من جثث الضحايا التي كانت حالتها اصعب من هذه؟

انكمشت ملامح الاخر هادراً :
_ هذا الطبيب معروف فكيف لا تتذكريه يا استاذتي ؟
تنهدت بلا اهتمام :
_اتذكره جيداً لكن هذا ليس عملنا

خلع مجد قفازه الطبي يخبرها :
_كيف لنا ان نحل لغز قضيته ونتسبب في سجن ضحية له قد يكون السبب في خسارتها شرفها فسلبته رجولته وحياته جميعنا نعرف ان هذا الطبيب زير نساء

صمتت سيرين تستوقف عقلها متحدثة :
_معك حق فمن المؤكد القاتل هو فتاة وليس رجل، من الاكيد ان المجرم هي ضحية اغتصاب لرامي؛ لذا قررت التخلص منه

تنفس بحرقة قائلاً :
_ هذا ليس عدلاً استاذتي فلا يجب سجن هذه الفتاة ان كانت المتسببة فتاة لانه حقير سلبها الحياة فهو يستحق القتل

اغمضت عينيها محاولة ان تفهمه :
_ عزيزي مجد نحن اطباء و هذا دورنا ان نقدم تقرير عن حالة الضحية اما الحكم متروك الى القضاء فالقانون لا يعترف بالمشاعر التى تتحدث بها، والآن اغسل وجههك جيداً عليك أن تستفق ثم هيا بنا لنكمل العمل

هز رأسه بالنفي :
_لا داعي لهذا انا جيد استاذتي

اومأت اليه بهدوء وكادت ترتدي قفازات جديدة لكن صوت هاتفها اوقفها فذهبت الى الخارج بينما نظر مجد الى الجثة حاقداً ثم التقط المشرط الطبي ليبدأ من منطقة البتر يفحص ما مدى عمقه وكيف تم بل وبأي اداة لكن عيناه لاحظت شعرة طويلة سوداء؛ فحول بصره الى خصلات رامي ليجدها شقراء وهذا يدل ان تلك الشعرة من فروة رأس فتاة قد تكون هي القاتلة، استخدم الملقط في رفعها عن الجسد يضعها في حافظة.

دخلت سيرين مرة آخرى متسائلة :
_هل وجدت شيء؟

صمت لحظة ثم اجابها بتوتر واضعاً الحافظة في جيبه :
_ لا، لا ابداً لم اجد شيء استاذتي

ابتسمت تكمل معه العمل :
_ حسناً مجد اهدأ لا بأس سنجد سوياً
بادلها ابتسامة متوترة رافضاً في عقله ان يقدم هذا الدليل الى الشرطة والذي يعتبر ادانة على القاتل فعواطفه تغلبت عليه.



صباح يوم جديد وضعت سيران الطعام على طاولة خشبية بعد ان ارتدت ملابس مدرستها كي تستعد الى الذهاب لصفها فرآها الجد الذي يصل من العمر ٧٤ عاماً و لا زال رجل غاضب اغلب الوقت، ناقم، صعب، يكره بنات ابنه لانهن من جنس حواء تمنى لو ماتوا هن في تلك الحادثة وتركوا له ابنه وحفيده.

ابتسمت في وجه جدها رغم معرفتها بكرهه لها :
_حسناً يا جدي هيا حتى تتناول وجبة الفطار

عقد حاجبيه ساخراً :
_وماذا احضرتِ يا ماهرة؟

ابتلعت تهكمه قائلة :
_ كما ترى بيض وجبن وكأس من الحليب
جلس على المائدة بتأفف هادراً :
_ كأن ما ينقصني هو صغيرة حقيرة تشبه والدتها حتى اهتم بها، هيا يا فاشلة اذهبي الى المدرسة لا اريد علامات قليلة وإلا قتلتك، يكفي انني اتحملك في وجهي ليلاً ونهاراً

حملت حقيبتها ذاهبة بحزن، لما تشعري بالالم سيران فجدك هو نفسه منذ سنوات ولن يتغير فعليكِ ان تعتادي هذه الحياة وتتقبلي هذه المرارة.



_وإذ رآكِ احدهم وابلغ مديرة المدرسة؟

ابتسمت سيران حتى ظهر صفي اسنانها اللؤلؤية البيضاء حينما رأت عزيز خارج اسوار المدرسة التى تسلقت تجلس على احداهم؛ كي تنعزل عن اصوات الضوضاء

صرخت بسعادة :
_ماذا آتى بك الى هنا ؟

اشار لها خالعاً نظارته السوداء :
_جئت كي اختطفك يا صغيرة، هيا اهبطي من الاعلى وسأدخل الى مديرتك لنذهب الى الخارج سوياً

بدون تفكير قررت اعطاء هدنة لنفسها :
_حسناً انا في الجوار انتظرك


بعد مدة من الزمن كانا يجلسا امام بحيرة اصطناعية في احد الحدائق، ترمق هي المياة باعجاب فتعجب صمتها المبالغ به قائلاً :
_شعرت امس انكِ بحاجة لي فأتيت انتشلك الى هنا، هذا المكان الذي يشعر المرء انه افضل لكن ألن تروي لي ما يزعج ملامحك الجميلة ؟

ألتفت تنظر اليه :
_لماذا تساعدني؟ هل تريد شيء قبيح مني؟
مسد على مقدمة رأسها هامساً بحنان :
_ابداً فأنتِ في مثل عمر اختى المتوفاة وعندما رأيت هذا الاحمق يتشاجر معك جاءني احساس ان شقيقتي هي من تناديني لانقذها

هدأ ثوران قلقها متفهمة ثم اخبرته :
_انا لا احد يحبني عزيز، والديّ و شقيقي توفوا منذ زمن وشقيقتي الكبرى منشغلة دائماً بسبب عملها المتواصل بينما جدي يمقتني متمنياً لو توفيت انا بدلاً من حفيده الصبي، حياتي فارغة لا امتلك اصدقاء سوى واحدة وغادرت المدينة هذه السنة من اجل تغير مكان عمل والدها، اصبحت وحيدة تماماً الآن لذا اعشق تسلق سور المدرسة في خلفية الملعب كي انعزل وحدي وأحرك ساقاي بحرية في الهواء دون قيود

قبض على كفها الصغير الناعم بشفقة شاعراً بها :
_انتِ جميلة الجميع يحبك ويهتم لامرك لكن من المؤكد هذه الاعتقادات التي تتخلل عقلك تجعلك تنفرين منهم، صدقيني يا سيران ان اقتنعتِ بقيمة ذاتك ستتخلصي من هذه العزلة البغيضة قريباً، تناسي من يزعجك تلاشي التعامل معه اجعليه محدوداً حتى لا يحبطك

نظرت الى الاسفل بحزن طفلة يتيمة :
_حقاً! هل هناك حب لي؟
ابتسم برقة هامساً :
_الحب خلق خاصةً لكِ عزيزتي




دخل الى غرفة مكتبه في اليوم التالي واجداً ملف متروك فخمن انه من مقر الطب الشرعي فتحمس كثيراً جالساً على مقعده ثم فتحه؛ بدأ يقرأ ما توصلوا إليه مما جعل هناك فكرة سطعت بمخيلته فالضحية قبل الوفاة تناول الكثير من الكحوليات بل وانواع متعددة، منطقة البتر لم تكن بسكين او عشوائية بل بمشرط طبي، هذا ما يضعه بين احتمالين ان اداة الجريمة قد تكون تابعة الى رامي بما أنه طبيب فمن الطبيعي ان يحمل ادوات كهذه في منزله فأستعملها القاتل دون تفكير او ان القاتل اختار بنفسه هذه الاداة والمؤكد في الحالتين ان الجريمة عمداً مع سبق الاصرار والترصد.
نهض حاملاً مفاتيحه الخاصة ثم هاتف كريم حتى يأتي معه بمفتاح منزل الطبيب رامي وبعد مرور نصف ساعة كان عزيز في شقة المجني عليه.

تجول بهدوء يحاول الوصول الى طرف يطلق منه القضية فأردف كريم :
_عما تبحث يا رجل؟ لقد قام رجال البحث عن اخذ كل ما يخص القتيل ومهم في القضية

اشار اليه بأصبعه حتى يصمت ثم اتجه الى المبرد ليفتحه فرأى ان رامي لا يحتجز اي نوع من الخمور او الاشياء الممنوعة ثم بحث في خزينة المرحاض؛ ليكتشف ان القتيل يتعاطى العديد من انواع مضادات الاكتئاب والمهدأت.
اتجه الى سلة المهملات مسرعاً ثم ارتدى قفازين يفرغها كلها؛ لتجحظ عينيه بدهشة كما توقع امسك بعلب دواء مماثلة لكنها فارغة بل كثيرة.

تأفف كريم بنزق :
_لا اصدقك يا عزيز تفحص مخلفات الرجل!
نهض من الارض ناظراً الى صديقه بجدية :
_ اصمت واتبعني
فعل كريم مثلما اراد منه يقف خلف رفيقه ورئيسه في العمل فتحدث الاخير :
_هذا رامي رجل ليس باليسير لماذا يحضر كل هذه الكاميرات الخاصة بالتصوير والمراقبة في منزله؟ يبدو ان هناك شائنة كما اننى تحاورت من احدى جاراته واكدت لي انه ذو سمعة ملوثة مما يدل انه يصور الفتيات اثناء فعله الفاحشة معهن
اقر كريم بتأييد :
_ هذا مؤكد يا صاح

تنهد عزيز مردفاً:
_لكن السؤال الأهم هنا اين الافلام التي صورها لكل فتاة ؟

كمش الآخر بين حاجبيه :
_ماذا تعني ؟

ابصر عزيز بحزم في نقطة وهمية امامه :
_القاتل فتاة و الاغرب يا شريك ان القتيل يتناول المهدأت بل ومنذ مدة زمنية لا بأس بها وهذا الذي اثبته العلب الفارغة الخاصة بأدوية الاضطراب

سأله كريم بتعجب :
_ما الذي يجعل طبيب ناجح يتعرض الى الاكتئاب، هل يشعر بالندم يأكله مما يفعل بالفتيات مثلاً؟
نفى برأسه قائلاً :
_او ربما تعرض الى ضغط نفسي فاق قوته، الاكتئاب و الاضطرابات النفسية تأتي من شيء يفوق طاقة الفرد

هز كريم رأسه بتفهم هادراً :
_كالتهديد مثلاً

ربت عزيز على كتفه بعد ان تنهد بأرتياح :
_واخيراً فهمت يا كريم واصبح لك نفعاً

ابتسم له بمرح :
_انا ذكي جداً لكني احتفظ بهذه الفطنة حتى لا احبط الآخرين

اخبره عزيز بتهكم :
_هذا واضح، لكن السؤال هنا اين الافلام المصورة فلابد ان القتيل شعر بالخطر من وجودها او انه يتعرض للفضيحة فقرر تهديد القتيل بمحاولات عدة وارهابه لذا لجأ الى المهدأت وغيرها ثم قام القاتل بتنفيذ التهديد

تحدث كريم هادراً :
_او ربما اجبره الانتحار لكن كيف لفتاة ان تفعل هكذا جريمة بشعة في احدهم فكان من السهل قتله وتركه لما البتر؟

نظر بعمق في بؤبؤ صديقه:
_انتقاماً لما فعله بها وان نجى من الموت فلن ينجو بحياته الطبيعية، إنما هل هناك علاقة بين رامي وعمر ليكن القاتل همزة واصلة بينهم ؟
سخر كريم من تفكير رفيقه :
_ ألا لازلت مصمماً ان القاتل مشترك ؟!

_ اجل

اتاه رنين هاتفه فرفعه على اذنه يستمع الى الطرف الاخر :
_ سيدي لقد جاءنا بلاغ بجريمة قتل آخرى للطبيب فهد الرافعي
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي