الفصل الثالث

( الفصل الثالث )


احتقن وجه عزيز حينما رفع الغطاء عن جثة المجني عليه، احمرار لون بشرته مصاحب للغضب الذي اعتراه عندما اتطلع على الطريقة الوحشية في مهاجمة الضحية والاستيلاء على جزء من جسده ثم الادهى انه كتب رسالة على جلد الطبيب فهد " اذهب الى الجحيم " بواسطة آلة حادة، رآى كريم مشهد الجسد المنزوع القلب فكاد ان يتقيئ، كيف لبشري ان يفعل كل هذا وماذا سيستفيد من تشويهه لجثث الموتى ؟ من المؤكد انه مريض نفسي بحت.

آتى احد رجال البحث الجنائي هاتفاً:
_سيدي عزيز لقد وجدنا هذا في غرفة نوم القتيل عليك الاتطلاع عليه

نهض واقفاً ملتقطاً الهاتف الذي يبدو انه خاص بالسيد فهد؛ ليجده يعمل بواسطة البصمة فأنحنى امام الملقى ارضاً، يجرب انامله على الهاتف ففتحت الواجهة الرئيسية واجداً فيديو أخير لابد ان القتيل كان يراه قبل وقوع الحادث، ما ادهشه انه مقطع فاضح بينه واحداهن فأرسله على هاتف صديقه كريم وقام بالبحث عن اي مقاطع آخرى لكن عبثاً بينما اكتشف رسائل عشق وتودد على رقم مسجل بأسم فتاة ويبدو انها هي من صورتها على الملف الشخصي الخاص بتطبيق ( الواتساب ).

اعطى الهاتف للشرطى قائلاً :
_احتفظ به مع باقي الاشياء الخاصة بالمجني عليه

اوماً الرجل بطاعة :
_ امرك سيدي



_ ألا ترين ايتها الطبيبة انه يكفي ألتواءاً، عليكِ مساعدتنا
ثار عزيز امام الطبيبة سيرين اثناء تواجدها في غرفة مكتبها بالمشفى

رفعت سيرين حاجبها الايسر متعجبة :
_ ألا ترى انت ايها السيد انك تتعدى حدودك في ادائي لمهام عملي ثم انني لست المقصرة في ايجاد الدلائل وهذا ليس اختصاصي بل عملك انت ايها الضابط!

ضرب المكتب بكفه الايمن هادراً :
_بلى انه اهم وظائفك؛ فأنتِ المسئولة الاولى امامي على ايجاد طرف خيط بجسد الضحية؛ فمن المستحيل ان القاتل لم يترك شيئاً خلفه

كتفت ذراعيها بهدوء تام تخبره :
_عليك الهدوء اولاً وخفض نبرة صوتك حتى نستطيع المجادلة فانا لست شرطية تعمل تحت إمرتك ولا تعلق فشلك في القضية عليّ، انني اقوم بتقديم تقرير يفيد بكل ما توصلت اليه في جسد القتيل وهذا هو المطلوب مني فقط

نظر الى عينيها بعمق ثم ابتسم ببرود عائداً الى وضعيته الطبيعية :
_ استمعِ لي جيداً أنستي، كون ان القاتل يبتر جزء هام حيوي في جسد كل ضحية له فهذا من المؤكد يدل على شيء، عليكِ التوصل له وربط الجرائم ببعضها كي نتعاون

اجابته بركود في نبرتها :
_انا متعاونة يا سيد عزيز ويكفي اتهاماً

ابصرها جيداً متذكراً اول مرة رآها بها منذ سنوات في اركان الجامعة ثم نهض دون ان ينبت بكلمة آخرى ذاهباً في طريقه بشموخ رغم النزف الذي اثارته داخله تلك الشقراء، فأعماق الماضي عاودته من نظرتها الاخيرة إليه.

أما عنها فتشكل المشهد امامها لتدمع عينيها الجميلتين هادرة بحزن :
_ لم تكن تستحق حبي لك يا عزيز والآن تتهمني بالتواطئ مع القاتل لمجرد انني اود انتقم منك، لا سامحك الله يا عزيز


رمقه كريم بتأني محاولاً استكشاف طبيعة الامر وما يجعل صديقه هائم على وجهه هكذا منذ صباح اليوم حتى انه لم يقم بفتح ملف الجريمة الجديدة للطبيب فهد بينما سلوكه الهادئ اليوم يشعره ان هناك خطب اصابه.

نظر إليه عزيز متسائلاً :
_ لمَ تبصرني هكذا ؟

حرك شفتيه متحدثاً :
_ ابتعادك اليوم عن العمل يثير فضولي ويقلقني ايضاً، هل هناك شيء حدث معك اصابك الصمت ؟

هز رأسه مجيباً :
_ بلى، لقد ذهبت الى سيرين و تناقشت معها وما اصابني الضيق انني جادلتها بقسوة، ربما هي محقة في اسلوب العنف الذي اتبعته معها في الحديث

ادمعت اعين كريم يرفق بزميله :
_هل لازلت تحبها؟ رغم كل ما فعلته بك منذ سنوات، اتعجب حقاً لماذا فعلت هكذا؟!
لم يرضي فضول صديقه بل فتح ملف القضية يقرأه بتمعن شديد ثم اردف :
_هذا القاتل ليس باليسير امساكه دوّن هذا لديك كريم

ابتسم بعملية يخبره :
_ملتوي ويعلم كيف يلاعب الشرطة ورجال الامن، تُرى انت تظن انه قاتل متسلسل ام ان تلك الجرائم محط الصدفة ؟

رفع عينيه الى نقطة وهمية هامساً :
_سنرى



صباح احد الايام الصيفية، فتح عزيز باب سيارته في مدخل كلية الطب البشري ثم هبط منها يتخطى الطلاب الى ان وقف في منتصف البهو الواسع، يرمق الاشخاص والمارة وهم يتسامرون والبعض الآخر يدرس بينما آخرين يتضاحكون بل هناك ايضاً مجموعة من الشباب تغازل كل فتاة جميلة تمر ناحيتهم بانعدام اخلاق، العديد من المشاهد تتبلور امامه منها من تذكره بالماضي المؤسف وآخرى ما تطرح عليه بعض الاسئلة فرجل كالطبيب عمر من المفترض انه يشبه هؤلاء الذين يدرسون إنما الطبيب رامي يماثل الماجنين الذين يضايقون الساحة على الفتيات في الجامعة و عن فهد، هو حقاً يتحير بأمر فهد.

بعد عدة دقائق كان يجلس في مكتب عميد الكلية يرتشف قهوته السادة ثم وضع الفنجان بهدوء على الصحن الصغير على المكتب الخشبي :
_ اريد معرفة سجلات طلاب سنة ألفين وخمسة

ذهل العميد قائلاً :
_لكن يا سيدي هناك العديد من الطلاب في هذه السنة من الصعب جمعهم بينما يمكنك اختيار اسماء البعض ونقم نحن بالبحث عنهم

نظرة فارغة صوبها تجاه الرجل ثم اردف :
_ حسناً سأملي عليك بعض الاسماء وسأنتظر منك مهاتفتي في نهاية اليوم تخبرني إيلامَ توصلت ؟

اومأ الاستاذ الجامعي بتوتر امام هيبة هذا الضابط ثم مد كفه ليصافحه عندما نهض لكن عزيز التقط نظارته السوداء دون اهتمام بيد العميد ذاهباً الى الخارج.



امام البحر الصافي يجلس بجوارها يرمقها بأعجاب فمن اين خرجت هذه الطفلة لتلون ايامه بشكل مختلف؛ فهو يعود الى طبيعته الانسانية كلما يراها ويقبض على حماسها الشبابي عائدة به الى مراهقته حيث قبل وفاة والديه وتركه وحيداً، يتمنى لو يعطيها عمره لتعش مرحة، مشاكسة، ذات روح نقية، يتمنى لو يقرب لها كل جميل وجيد.

ابتسمت بأشراق بعد ان قامت بالدوران حوله بسعادة :
_ لا اصدق انها جولة جميلة كثيراً يا عزيز، أتعلم منذ وفاة والدي لم اسعد هكذا ولم يهتم احد لأمري مثلك حتى ان رفاقي لم يستطيعوا اهدائي هذا الشعور والامان الذي اشعر به كلما كنت موجوداً

اصابته لعنة السعادة بسبب حديثها الرحيم :
_اتمنى لو آتي بكنوز العالم واهديها لكِ حتى لا تمحى هذه البسمة بعيداً عن شفتيكِ يا سيران

جلست على شاطئ البحر بجواره تتنفس بعمق هامسة :
_ هل ستنتهي هذه الايام وترحل مثلهم ؟

ابتلع ريقه بحزن عليها هادراً بثقة:
_ابداً، بل ستثبت لكِ الايام يا صغيرة انني سأفعل ما لم يخطر على عقل بشري؛ لكي اظل بجوارك

هربت عَبرة من بين جفنيها المغلقين تخبره:
_ لم اكن احتاج سوى وعدك لي

تنهد بقوة متحدثاً :
_ اعدك

انفرجت شفتيها بحنان مردفة :
_انا لم أكره جدي طوال سنين عمري لكنه يمقتني وشقيقتي و هل ذنبي انني فتاة ولست صبي، اتمنى ان يعلم كم احبه وأحترمه

مسد على خصلاتها الناعمة بحنو ففتحت عينيها تبصره :
_ سيعلم يا عزيزتي لا بأس، اؤكد لكِ هذا هو فقط يحتاج الى بعض الوقت حتى يتقبل صدمة فراق ابنه الوحيد

ارتمت بين احضانه باكية بغزارة فربت على ظهرها قائلاً بقلب يملئه الشفقة على حالتها :
_ اخرجِ كل مآساتك يا صغيرتي بين احضاني دون قلق او خوف واعتبري ان هذا المكان بئر اسرارك لا تخشي شيئاً

جاءه اتصالاً هاتفياً فأبتعد عنها بهدوء ثم رفع الهاتف المحمول على اذنه لتتحول ملامحه من السكينة الى الجدية البحتة والغضب ثم اغلق دون ان ينبت بكلمة ناهضاً :
_ هيا يا سيران علينا الذهاب الآن

نهضت تزيل حبات الرمل الناعمة عن ملابسها الدراسية هاتفة :
_ ماذا بك يا عزيز؟ هل حدث شيئاً سيء؟

امسك بقبضة يدها بين انامله القوية يسير بها الى سيارته :
_لا هذا هاتف بخصوص العمل لا تقلقي لكن لابد من ان ارجعك الى منزلك ثم اعود الى عملي بشكل هام

اومأت له بأرتياح :
_حسناً، الله معك



نزع معطفه الاسود الجلدي عن كتفيه واضعاً اياه خلف مقعده في غرفة مكتبه ثم فتح البريد الالكتروني " الايميل " الخاص به ليقرأ ما بعثه له العميد من الجامعة؛ فأحتدت عيناه بقسوة فكما توقع ان هؤلاء الاطباء الضحايا رفقة اي ان هناك عامل مشترك بينهم وهذا يعني ان القاتل واحد وليس عدة قتلة يقومون بالجريمة بشكل عشوائي.

دلف كريم الى الغرفة بعد ان دق الباب منتظراً نتيجة البحث :
_ هل وصل اليك البريد لقد قمت بمتابعتهم اليوم كما طلبت مني؟

اومأ رأسه قائلاً :
_ نعم وصل لي وكما توقعت يا صديقي ان القاتل واحد هو من يرتكب الجرائم

سأله كريم بعدم فهم :
_ ماذا تعني ؟

نفخ عزيز الهواء من انفه و فمه ثم فرك وجهه :
_كي اثبت ان مرتكب الجرائم هو شخص واحد فلابد من وجود عامل قوي مشترك بين الضحايا مما يجعل عدوهم مشترك وواحد فيقوم بالتخلص منهم حسب خطته وترتيبه

ابتسم الآخر بأعجاب لدهاء رفيقه :
_وجميعهم اطباء في نفس الاعمار تقريباً لذا انت قررت الذهاب الى الجامعة لأثبات ان الثلاث من نفس سنة التخرج وتتعرف على سلوكهم خلال فترات دراستهم وهل كانوا اصدقاء ام مجرد زملاء! تستحق التصفيق يا صديقي

مط شفتيه بتفكير :
_الاهم من كل هذا ان التقرير الجامعي يوحي ان السيد عمر شخص ملتزم للغاية اخلاقياً ودراسياً بينما رامي ماجن رغم ذكاؤه اما فهد فهو حاد الطباع

اندهش كريم مما ذكره عزيز :
_وما السبب الذي يجعل ثلاث مختلفين في طباعهم مقربون الى هذه الدرجة

دق بقلمه الحبري على سطح مكتبه الخشبي :
_ هذا ما ستقوم به انت من خلال فريق البحث، هذه النقطة تهمني كثيراً فربما ان هذه اللمحة تكون اهم اسباب التوصل الى الجاني

نهض كريم بحماس :
_لا تقلق سأحل هذا

بعدما خرج فتح عزيز ملف قضية فهد حتى توقف على صفحة ما واضعاً دائرة بحبر قلمه على اسم فتاة تدعى " ورد"




في مكان آخر على اطراف الاسكندرية، في خضم ظلام الليل يجلس ذلك الملثم مكتوف الذراعين امام مقعد فتاة شابة جميلة لكن اثار العنف شوهت ملامحها بينما هي تحت تأثير مخدر، بعد لحظات بدأت تتنفس الفتاة بصوت متأوهة بألم بسبب الضرب المبرح الذي لاقته من الملثم الغريب.

همست بوجع يتخلل عظامها :
_أين انا ؟

حاولت تحريك اطرافها لكنها شعرت الالم الشديد في ساقها كما انها مكبلة بالسلاسل الحديدية فصرخت صرخة مدوية هزت اركان المنزل ( الشاليه ) المنعزل عن المدينة.
ضحك الملثم بصوت يبدو انه مصطتنع بسبب مغير الصوت الذي يرتديه على فمه :
_انتِ في منزلك الساحلي يا عاهرة

بكت بخوف ممتزج بالالم :
_من انت ولماذا اشعر بهذه الاوجاع المصاحبة لخواء اسفل ساقي ؟

نهض الملثم يلطمها على وجنتها بقوة :
_لأنني بترت ساقكك اللعين، اتذكرين ماذا فعل هذا الساق ام لا ؟ كما انني شوهت ملامحك الحقيرة يا ماجنة ام نقول طبيبة ؟

صرخت الطبيبة هيام بقوة و يأس فقبض الملثم على عنقها هادراً :
_اصمتِ يا وقحة

همست في ذعر :
_ لماذا فعلت بي هكذا لقد دمرت مستقبلي ؟
ابتعد قليلاً ساخراً :
_لا تقلقي فلن يعد هناك مستقبل لكِ والآن اذهبي الى الجحيم

صرخت بشقاء هادرة اخر عبرة من بين جفنيها الباكيتين قبل ان يهبط المتبقى من جسدها اسفل المنزل فتصبح جثة هامدة لكنها رأت وجه القاتل بعدما خلع قناعه امامها علها تتذكر فعلتها قبل الموت فجحظت عينيها بندم شديد متمنية ان يعود الزمن بها فلن تفعل فعلتها.




يحرك قدميه بسرعة كبيرة في رواق المشفى بينما خلفه اسطول من رجال الامن، يبحث عن رقم غرفة الضحية التي استطاع رجال الاسعاف انقاذها قبل التقاط انفاسها الاخيرة فأخبروه صباح اليوم انها تخطت من غرفة العمليات بأعجوبة.
مسك مقبض باب الغرفة لكن اوقفه الطبيب :
_ ارجوك سيدي انا اعلم انه من مهام عملك لكن الطبيبة هيام في حالة سيئة للغاية و يجب لها الراحة الآن

استقام في وقفته طالباً :
_ حسناً لكن يمكنني استجوابك

اشار اليه الطبيب حيث يسير معه الى غرفة مكتبه :
_ بالطبع، تفضل




جلس الضابط عزيز ينتظر الطبيب المسن في اعطاؤه تفاصيل الحالة :
_ لقد استلمت المشفى الطبيبة هيام وهي في حالة سيئة حتى ظننا انها لن تمر من غرفة العمليات ابداُ لكن الله كتب لها عمر جديد

سأله بجدية :
_كيف كان وضعها الصحي حينما وصلت الى المشفى ؟

ابتلع الطبيب ريقه بآسف :
_ ساقها اليمنى تم بترها من المنتصف وآثار اعتداء بالضرب المبرح كما ان رأسها حليق ووجهها احتاج للعديد من الغرز الطبية ذكرت ذلك في التقرير الذي قدمته لرجال الامن قبل ان تأتي سيادتك

اومأ عزيز محترماً الرجل :
_هل تظن انها تستطيع الحياة ام ان حالتها ستبقيها على قيد الدنيا لبضع ساعات؟

مط شفتيه بحزن :
_ هذا يتوقف على مقدرتها الجسدية وما سيتبين لنا بعد ثمانية واربعون ساعة من الاستفاقة

دق عزيز بأنامله متفهماً ثم اردف مستفسراً :
_سيد كامل انت مدير المشفى منذ سنوات فما الذي تعرفه عن سلوك الطبيبة هيام وهل كان لها اعداء ؟

تنهد المسن بحذر مجيباً :
_لا استطيع قول هذا لكن يبدو انك لابد من معرفته سيدي ربما يساعدك؛ فالطبيبة هيام كانت من اذكى الاطباء هنا لكن سلوكها لم يروقني قليلاً

ضيق عيناه هادراً :
_ كيف ؟

اجابه بتوتر :
_هي قد تفعل اي شيء حتى تصل لمناصب عليا وضع خطاً تحت كلمة اي شيء كما انها متعجرفة مع الجميع لكنني لم اكن ارى لها اي اعداء في العلن
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي