الفصل الثاني

عدت الى غرفتي والتي اتعجب حتي الآن لما اختار لي غرفة صغيرته تحديدا، فتحت حقيبتي وبدأت برص ملابسي بالخزانة الوردية والتي كانت مازالت تحتوى علي ملابس الصغيرة، ولكنه خصني بجزء فارغ من أجلي ..

و ادواتي الخاصة وضعتها بالحمام، وبدلت ملابسي بمنامة، وارتميت علي الفراش وانا اشعر بإنهاك شديد من السفر، وفي غضون دقائق تم سحبي للعالم الآخر، للموت الصغير ..

لم اعرف كم مر من الوقت وانا نائم، ولكنني تململت في غفوتي و بدأت دقات قلبي تتسارع، وأصابتني رعشة خفيفة بدأت تغزو كامل جسدي الذى كان يحثني علي الاستيقاظ، والتخلي عن سباتي بسرعة ..

فتحت عيني بحذر، لأنه بكل مرة اشعر بها بذلك الشعور البغيض، ارى بيها شيئاً خارقاً غير طبيعي، جلست بهدوء علي فراشي و انا انتظر ما سيحدث بقلق شديد و ترقب قاتل، ترقب لكارثة جديدة فمن المؤكد دعوتهم لهذا البيت ليست بداعي السياحة والتنزه ..

كنت اطالع كل انش بالغرفة بتلهف لما هو آت، اضاء نور شديد بمنتصف الغرفة؛ جعلني اغمض عيني لأنني تألمت من شدته، وكالعادة فتحت عينيي بحذر، فوجدت طفله صغيره تجلس على طرف فراشي، بابتسامه خفيفة ونظرة ودودة..

يبدو انها ذات سبع سنوات، ترتدي فستانا ازرق جميل، شعرها اصفر طويل، ملامحها اوربية، اعلم ان ما يجلس امامي الآن مجرد شبح من الاشباح التي دائما ما تلاحقني، ولكن من جمالها و نقائها و سريرتها، اعتقدت للحظه انها حقيقه، وليست شبح..

كنت بحاله لا اعرف ماذا افعل ؟ هل اتحدث معها ؟ ام انتظر ان تأخذ هي رده فعل ؟ ام اظل على حالتي تلك وارى ماذا سيحدث؟ تغلبت علي خوفي وسألتها :
_ من أنتِ ؟ وماذا تريدين مني ؟!

تشوشت صورتها قليلا، حتى انها اختفت للحظات وعادت، وكأنها موجة تلفزيونيه اختفت اشارتها لثواني، وعادت مره اخرى، ولكن تغير كل شيء، لم تعد تلك الطفلة البشوشة المبتسمة الرقيقة، دققت النظر بالطفلة فاتسعت عيني بصدمة !

يبدو انه هناك اثارت ذبح برقبتها ومفاصل يديها، والدماء تغطي فستانها الازرق الجميل، كانت تطالعني بخوف وامتعاض، وبادلتها انا نظراتها بخوف اكبر من هيئتها المرعبة، و ملامحها المكفهرة و نظرات الغضب في عينيها ..

وقفت وسارت حتي باب الغرفة، ثم التفتت الي مرة أخيرة تطالعني بها بإشفاق لم اجد له معني، سوى انني هذه المرة ربما ستكون نهايتي حتما ..

اختفت من امامي تماما فجأة، بحثت عنها في كل الغرفة بعيني، ولم اجدها او اجد اي اثر لها، كنت اعلم ان وجودي في هذه البلدة يرتبط بقصه تلك الطفلة، وان اختياري لهذه الغرفة تحديدا ليس محض صدفه ..

وان رؤيتي لتلك الطفلة لن تكون الأخيرة، ولكن لا اريد ان أرى ما رايته مجددا، تسالني عن ردة فعلي بعدها، ولا شيء فانا عدت وتمدد على الفراش بهدوء، وانا اطالع سقف الغرفة بشرود، منتظر ماذا سيحدث ..

كل ما اريده الآن، ان احصل علي غفوته طويلة بسلام، وكأن شيئا لم يكن، وبالفعل عدت واستسلمت واضعا ذراعي تحت رأسي، ستتعجبون من ذلك ومن برودي،

انتظروا فما سأرويه لكم عما حدث سابقا، وما ستعرفونه لاحقا سيخبركم انني رأيت الكثير والكثير ولن يهزني شبح تلك الطفلة، لكن بقي تساؤل واحد بعقلي ..

لماذا جاءت لي انا تحديدا، وما سبب تغير معالمها بهذا الشكل المحزن ؟ ومن تلك الطفلة من الاساس ؟ هل هي صاحبه تلك الغرفة التي امكث فيها ؟!

كان بإمكاني العودة للصور المتراصة علي حائط الدرج لأتأكد، ولكن سحبتني دوامات النوم مره اخرى، منتقلا الى العالم الاخر الى الموت الصغير مستسلماً ..

لما اكن اعرف هل انا ما بين النوم والغفوة ؟ ام انني في حلم جديد ؟ لم يمر وقت ووجدتني اجيب علي اسألتي بنفسي، لقد كنت بحلم كالعادة وارجو الا يتحول لكابوس كالعادة ايضا، وجدت نفسي واقفا في مكان واسع كبير بارد ومظلم ..

وشعرت بأحد يركض من خلفي، لففت جسدي بذراعي في محاوله مني لتدفئته، ولكنني عدت و شعرت بشخص اخر يركض الى جواري، ظهر نور غريب من مكان غير معلوم، وبدأت الرؤية تتضح اكثر فاكثر ..

ظهر شخصا اخر و صدمني في كتفي، منطلقا امامي، لم يكن هو بمفرده الذي تراءته عيني، بل كان هناك الكثير وصوت الصراخ يدوي حولي من كل مكان، ويبدو انني داخل مصنع ما بآلاته وعماله وحركته السريعة ..

ولكنني دققت النظر قليلا حولي، فعرفت انني بداخل المفاعل، انا الان بداخل المفاعل النووي المنفجر لتشرنوبل، أفقت من تحديقي بالمكان على هزه قويه اسفل قدمي، للأرض من حولنا و الجميع يركض حولي بذعر، ويبدو انهم المهندسين الذين كانوا يعملون في المفاعل ..

كانوا يرتدون مآزر بيضاء كالتي يرتديها الاطباء، ومنهم من يقف على آلة كبيره في محاوله التحكم فيها، ومنهم من يجلس على اجهزه حاسوب متطورة ويعمل بتركيز شديد، ومنهم من يتناقش مع غيره في ملفات معينة، ومنهم من يركض ويصرخ والجميع يرتدي ماسكات على وجوههم ..

كان الجو العام حولي يملاه الفزع والخوف، والجميع يركض والجميع يتكلم، ولكنني وجدت شابه تجلس على الارض امامي مباشره، وتضم ركبتيها الى صدرها، وتدفن رأسها بينهما مستسلمة لأمر جلل سيحدث، فما سيحدث اكبر بكثير من ان تنقذ نفسها وتهرب من هذا المكان، يبدو انها لن تستطيع الهرب حتى و إن حاولت ..

فجاه وجدت ألسنه من اللهب تخرج من حفره كبيره، او مكان مخصص يحتوى شيئا يحترق، اقتربت منه وانا اركض كي ارى ماذا هناك ..

يبدو انه يحتوى على المفاعل، حركاته غريبه وسريعة، تتولد من احتكاك سيقان الكربون النيران، و التي تسببت في انفجار مدوي جعلني اطير بالهواء و اسقطت على الارض مصطدما بها بقوة ..

و بدأ كل شيء حولي يتلاشى، وكانه لعبه "المكعبات" الخاصة بالأطفال وتتفتت امامي ببطء شديد..

شعرت بألم قوى بظهري من ذلك الاصطدام العنيف، وحاولت ان افتح عيني وبالفعل فتحتها، لأجد نفسي ملقا على الارض في بيت سيف، بجوار فراشي علي الارضية الباردة ..

وقفت بصعوبة وانا احاول ان ألملم شتات انفاسي المتبعثرة واعصابي المنهارة من مفاجأة الانفجار، تحاملت على نفسي ووقفت وسرت حتي الفراش، ارتميت عليه بجسدي لاهثا وانا اذكر الله في سري كي يهدا قلبي ..

تجاوزت ما حدث كالعادة، ونمت في سبات عميق حتى الصباح، رغم انني كنت جائع للغاية، ولكن كل محاولات سامح باتت بالفشل الذريع ..

في الصباح استيقظت وانا اشعر بوهن وتعب جسدي، أديت صلاتي لأول مره منذ فتره طويله، أصلي صلاه الضحى، شعرت ان هناك شيئا كبيرا ينتظرني، وهنا لابد ان اطلب دعم الله، خصوصا بعد تلك النظرات التي كانت الطفلة تطالعني بها ..

وكأنها تشعر ان نهايتي قد حانت، او ان تلك التجربة ستكون قاسية علي بشكل او بآخر، ارتديت ملابسي وخرجت من الغرفة مررت علي غرفة سامح ولم أجده بها ..

هبطت للأسفل فوجدت سامح وسيف يجلسون علي طاولة الطعام وكأنهم في انتظاري، قلت لهما بابتسامة ودودة :
_ صباح الخير .

أجاباني سويا :
_ صباح الخير .

وقف سيف و جذب كرسيا واشار لي ان اجلس عليه وهو يقول بملامحه المتجهمة :
_ تفضل بالجلوس، دقيقه واحده و سيكون الفطار امامنا باذن الله .

هززت رأسي اليه وانا اترجم تجهمه وكأنه حزنا علي ابنته ربما، فأنا حينما كنت اهبط الدرج طالعت الصور في نظره سريعة واكتشفت ان تلك الفتاه التي رايتها بالغرفة، هي بالفعل ابنه سيف الكبرى ..

فترى هل فعلا تم ذبحها كما رأيت، وهذا هو سبب استدعائه لنا في اوكرانيا، ام انها دلاله الى شيء اخر وان سالته قد اجرحه بكلامي ؟! انا ما زلت افكر ولكنني امتثلت للفكرة الامثل ان انتظر كي يخبرنا هو بكل شيء والا اتعجل من امري ..

انهينا فطورنا الاوروبي الخالي من الفول و الفلافل، والذي لا يسد جوع معدة مصرية أبدا، فوجدت سيف يقول بجدية :
_ هل انتم مستعدون للخروج ؟ انا اريد ان اريكم شيئا بمنطقة قريبة من هنا .

وقفت وقلت له بتأكيد متحمساً :
_ طبعا، انا اريد ان اذهب لاماكن كثيره في هذه البلدة الجميلة، لا ادري هل وقعت بعشقها ام ماذا ؟! ولكنني اود ان اتحرك بها وارى واتعمق اكثر بهذا المكان الرائع .

وقف سامح ايضا وقال بقلق :
_ لما التعجل امامنا اليوم بأكمله .

اجابه سيف وهو يحمل هاتفه ومفاتيح سيارته :
_ اذا كنت ترغب بالمزيد من الراحة ابقى انت .

طالعت سامح بنظرات لائمة، فقال بتلعثم :
_ لا، سآتي معكما فأنا ايضا ارغب في رؤية باقي بلدتك الغامضة .

رفعت عيني بملل وانا ادفع سامح امامي كي ننطلق خلف سيف، خرجنا من البيت، وصعدنا الي السيارة وانطلق بها، ولكن في طريق اخر غير الذي كنا نمشي به بالأمس ..

نفس الغابات، نفس الطريق تقريبا ولكن لا يوجد بيوت حولنا، بدأت دقات قلبي تتزايد وهذا الشعور ينتابني مره اخرى جديده، ولكن يبدو انها ستكون اقصى من رؤيتي لابنه سيف..

ما ان انتهي ذلك الطريق الطويل، فدخلنا في تلك البلدة المهجورة، حتى نسيت انني من فرط دقات قلبي بتُ أتألم، لم ارى في حياتي مكان مهجور بهذا الشكل، وكأن الطبيعة تفننت في تشويهه تماما، البيوت مغطاه بالكامل بورق الاشجار والنباتات التي زحفت عليها، على تل عالية ..

السيارات بالطرق غمرتها تقريبا بالكامل الأتربة، لم يتبقى منها سوى سطح السيارة الظاهر امامنا، وهناك قطار قد اكله الصدأ وشرب عليه الزمن، وهناك اشجار يابسه بكثره كأنها تخبرنا انه كان هناك يوما ما، من يعتني بها، وهناك بيوتا لم يتبقى منها سوى الحوائط، واطلال شاهدة علي بشر كانوا يوما هنا..

خرج سامح عن صمته وقال بذعر :
_ هل نحن بالقرب من هذا المفاعل المنفجر اليس كذلك ؟!

اجابه سيف بهدوء :
_ نعم نحن بمنطقة تشرنوبل .

صرخ سامح قائلا بذعر :
_ هل جننت ؟! الاشعاع سيقتلنا ان اقتربنا اكثر .

هدىء سيف من سرعة السيارة وقال بتعقل هادئ وهو يلتفت ناحيته :
_ هناك حد زمني يجب ان نبقي به، فلا تقلق انا لن اؤذى نفسي مؤكدا .

توقفت السيارة وترجلت منها، واخرجت على الفور الكاميرا الخاصة بي، وبدأت بالتقاط اكبر كميه من الصور لهذا المكان الذي يعد ماده خصبه للتصوير، كل مكان يستحق التصوير رغم هذا الخراب المضنى..

لم اتوقف حتى انتابني حالة ارتجاف في جسدي كله، وبت اتطلع حولي بتلهف، فوجدت تلك الطفلة الجميلة، ابنة سيف تتطلع الي وتبتسم و هي تقف على بدأيه طريق من بعيد ..

لم تكن بتلك الحالة التي رايتها بها بالأمس من الذبح والتعذيب، ولكن كانت على هيئتها الاولى، جميله مبتسمه بفستانها الازرق الجميل..

وجدتها تحرك فستانها يمينا ويسارا بسعادة، ثم اشارت لي ان اقترب منها، وانطلقت راكضة داخل الطريق التي كانت تقف على طرفه ..

لم اشعر بقدمي و هي تهرول ناحيه هذا الطريق كي تتبعها؛ لترى ما تنوي ان تريني اياه، وبالفعل انطلقت وصيحات سامح من ورائي تصدح بهذا المكان الخالي :
_ انتظر يا رامي، الى اين انت ذاهب ؟!لا تتركنا هكذا انتظر ارجوك .

لم اكن التفت اليه ولا لصياحه، فقط اريد ان اعرف ما ينتظرني، كان سيف وسامح يهرولون خلفي و حين وقفت على طرف الطريق، رأيت المشهد الاكثر فزعا في حياتي ..

لقد كانت الطفلة على هيئتها الثانية المعذبة المكفهرة، ولكنها لم تكن بمفردها بل، كان يقف خلفها العشرات من البشر المعذبون المنهكون والذي يبدو عليهم اثار التعذيب بشكل او باخر، ويطالعونني بتجهم وتحفز ..

وكان تلك الطفلة هي من تمنعهم عن الركض نحوي والفتك بى، المنظر جعلني ارجع خطوتين للوراء بسرعة، فاصطدمت بسامح الذي سألني من هيئتي المرعبة :
_ ماذا هناك رامي ماذا ترى ؟!

ماذا سأقول له ؟! سأقول له انني ارى اموات يقفون امامي بأعداد هائلة ! انا الان بت استطيع التفرقة بين ارواح الاموات المعلقة، وبين الجن والعفاريت، وهؤلاء اموات ارواحهم معلقه بهذا المكان وتريد ان ترحل في صمت وفي سلام، ولكن هناك من يسلسلها ويربطها بتلك البقعة..

وفجاه التفتت الفتاه ناحيتهم وبدأت تتحدث معهم، وهم يسمعونها بإنصات شديد وبتركيز اكبر، ثم وجدتها تلتفت الي وانحنت براسها كأنها تقدم لي التعظيم والتبجيل، وبدورهم وجدتهم شخصا وراء الاخر ينحنون برؤوسهم و يتطلعون في الارض بإجلال لي، لم اكن افهم ما يحدث، ولكنني وقفت اتابع ذلك بتعجب و القليل من القلق ..

حتى وجدتهم يتهامسون وبدأوا يصنعون ممر ما بينهم، يفسحون به الطريق لمرور شخص ما انا لا اراه، وجدت الفتاه الصغيرة تتطلع خلفها بفزع، وقد اتسعت عيناها ووجدتها تركض نحوي كي اغيثها ..

ولكنها قد توقفت بشكل غريب، وكانه هناك من سحبها من رقبتها، وبالفعل ظهرت سلسله طويله مسلسلة في رقبتها، كما هي مسلسله لجميع الموتى الواقفون امامي، والذين يظهرون الاجلال الاكبر لهذا الذي يمر بينهم ..

وقفت اتطلع لهذا الكائن العملاق، الذي يسير بينهما وكانه سيدهم، والفتاة تصرخ من تلك السلسلة التي تحولت لجمر ساخن يحرقها، وهي تصرخ وتصرخ، أعتقد لأنها تمردت عليه وتريد الهروب من هذا الكائن الذي يضاعفها حجما عشرة مرات ..

فهو كان عباره عن ظل اسود كبير، ذو عينان مضيئتان بلون احمر كالنار، يتقدم نحوى وكانه يطالعني بتحدي، له ذيل طويل من النهاية به نجمه خماسية، وقف خلف الفتاه مباشره وهو ينتظر اي ردة فعل مني ..

صفعني سامح علي ظهري بقوة بعدما وجدني قد تصنمت مكاني ولا استمع لما يقوله هو وسيف وقال :
_ رامي، ماذا اصابك ؟! اجبني من فضلك .

خرجت من حالتي تلك وطالعته بصمت ولكن ملامحي المذعورة جعلته يبتلع يقه بخوف وسألني بتلعثم :
_ هل، هل تري شيئاً ؟! اقصد هل تجسد امامك شيء ما ؟!

لم أستطع الرد عليه فلساني كان وكأنه قد التصق في فمي، فسألني مجددا وهو يتراجع للخلف :
_ اجبني من فضلك، فأنا لا ينقصني فزع، انا لا اعرف للنوم طعم بسبب تلك الاشباح .
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي