الفصل الرابع

اقتربت ناتاشا منه و جذبت الفستان من يده و طالعت الدماء التي غطته و قالت بنظرات زائغة، و كأنها ترفض تصديق ما يقال :
_ سيف، هذا فستان إيلينا، و لكن، اين هي و لماذا يقول انه لجثة طفلة ؟!

ثم صرخت بي و هي تضم الفستان لصدرها قائلة :
_ أجبني لا تقف كالتمثال هكذا، أين هي إيلينا يا سيف ؟

لقد توقف الزمن بي، و توقف العالم بأكمله، و صورة ايلينا و هي تضمني و تشكرني علي الفستان تغزو عقلي و كياني، توقفت انفاسي و توقفت حياتي ايضا ..

هذا هو فستان صغيرتي، حبيبتي التي تمنيتها من الله، و رزقني بها، وقفت كالمشلول و الأخرس، الصراخ من حولي قد وصلني، و لكنني كنت لا اشعر بشيء، و كأنني اصبت بالبلادة من الصدمة ..

توقف سيف عن الحديث وهو يبكي وينتحب بحزن ارجو الا يذيقني الله اياه، و لا يذيق اي فرد ذلك الالم بفقد عزيز و غالي و خاصة الابناء ..

ابنتي لم تكن مجرد طفله عاديه يا سيد رامي، كانت ذكيه للغاية و كنت احبها بجنون، كنت ابقى بغرفتها لساعة متأخرة اقص عليها القصص كما كانت ترغب، رغم اعتراض والدتها الدائم لأنني كنت ادللها بشكل كبير على حساب اختها كاتيا..

لقد كانت إيلينا الاقرب الى قلبي من العالم باسره، كانت تنير الوجود من حولي، كنت اعمل من اجل ان احقق لها لما تتمنى، هي و اختها بالتأكيد، ولكن كان لها طبعا اخر في قلبي ..

فهي اول من رأت عيني، و اول من حملت على يدي، و اول من عشقها قلبي بصدق، كنت قد اشتريت لها ذلك الفستان بنفس اليوم كي تذهب الى عرضها المسرحي في المدرسة، ومن فرط اعجابها به طلبت مني ان تنام و هي مرتديه هذا الفستان، و كالعادة انا لارفض طلب لمدللتي، وافقت و تركتها بغرفتها و هي تغفو بسعادة لأنها ترتديه ..

لم اكن في ذلك اليوم اطالع شيئا سوى ذلك الفستان الازرق، ابتعد عنه عيني و انا عقلي يرفض تصديق ما يحدث امامي، خرجت عن صمتي و انا اقول بهذيان :

_ لنبحث عنها بجوار البيت، انا اعلم انها ربما خرجت لتلهو او لتعرف سبب هذا التجمع، لكنها لم يحدث لها شيء، و فستانها يشبه هذا الفستان و لكن ليس هو .

اقتربت من زوجتي و جذبتها من ذراعها و انا اتابع بصدمة :
_ من المؤكد انه ليس فستانها يا ناتاشا، إيلينا بخير انا اعلم انها بخير .

حاولت الابعاد بها و العودة الى البيت، و لكن ناتاشا جذبتني من ذراعي و قالت بصراخ :
_ افق يا سيف، افق لقد ماتت ابنتنا لقد ماتت إيلينا، فقدناها على هذا الحيوان القذر .

وقفت امامي و قالت برجاء :
-  انا اريد ان ارى ابنتي من فضلك، اريد ان اراها بعيني لآخر مرة .

صرخت فيها قائلا بجنون :
_ ايلينا لم تمت، لا تتحدثي امامي بهذا الكلام القاسي، لأنها لم تمت، هذه مجرد مزحه فقط و سأبحث عنها .

استوقفني احد الجيران قائلا بترفق :
_ الشرطة وصلت للمكان و تحفظت على جثة ابنتك، من فضلك نحن نعرف مدى الالم الذي يلم بك الآن، و لكن يجب ان تذهب إليهم و تتابع معهم التحقيقات .

بدأت استجمع كل ما يقال امامي، و أدركت ان ابنتي الغالية والذي يدور محور كوني حولها، قد تركتني و صعدت الى خالقها ..

هل تعلم شيئا يا سيد رامي، لقد صرخت صرخة في ذلك اليوم، كانت اشد رعبا و قوة من صرخة هذا الحيوان، لم اشعر بقدمي التي حملتني الى هناك، و عندما منعتني الشرطة من المرور ، قلت لهم انني والد الطفلة التي عثروا على جثتها ..

و بالفعل دخلت و وجدتهم تحفظوا على بعض الجيران الذين كسروا بيته، والقوا عليه تلك المواد الحارقة و اشعلوه من الجانب تماما ..

و وجدتهم يفكون حبال ذلك القذر، لم اشعر بنفسي و انا انحني و احمل زجاجة بها مادة قابلة للاشتعال، و القيتها فوقه و بسرعه البرق كنت اشغلت فيه تلك النيران التي كانت تنهش قلبي و صدري و كياني بأكمله ..

كنت اتلو كل الآيات القرآنية التي احفظها و انا اسير نحوه، و هو يطالعني بتشفي، و بنظراته كل الشماتة و الحقد، لم اكن اشعر بما افعل، انا لا استطيع ان اقتل حشره، و لا اعرف كيف طاوعني قلبي ..

و اشعلت فيه النار، و طالعت انتشارها عليه و تأكلها للحمه، و فجأة كأنه انفجر بقوة، تشبه بالتأكيد انفجار مفاعل تشرنوبل، وجدت نفسي اطير في الهواء، حتي ارتميت علي الحائط، و انا اراه يحترق بشكل لا يتوقعه عقل ..

لقد كانت قوة النيران و كأنها قد اشتعلت في قبيلة، و ليس شخص واحد، خرج للجميع الى الخارج و ابتعدنا جميعا عن المنزل، حتى هدأت النار، و قد اكلت جسده بالكامل، كما اكلت بيته بكل شيء فيه ..

خلال دقائق كان الصمت يسود المكان بأكمله، كان الجميع يقف بوجوه ذابله مصدومة مما حدث، كان الهدوء يخيم على كل شيء حولي، الا من صوت زوجتي التي كان لا ينقطع صراخها، و هي تهتف باسم ابنتي ..

لا اعرف ماذا اقول فقد توقفت عند هذه النقطة، و لم استطيع تخطيها لأيام طويلة، انتهت التحقيقات وتم فك صراحي من تهمة قتله، ودفنا صغيرتي ايلينا و عدنا الى البيت، لم نكن نشعر بشيء، و لم يكن لدينا رغبه في اي شيء، حتى صغيرتي كاتيا كنا نهملها ولا نهتم بأمورها مطلقا، و كانت الخادمة اولغا تهتم بها كثيرا وقت تركناها نحن فيه بمفردها للأسف ..

لم استطع ان اتخطى هذا الحدث، و قد كنت اسمع صوت ضحكات ابنتي ايلينا في كل مكان بالبيت خاصة غرفتها، كنت اراها تركض حولي دائما، فادخل الى غرفتها و انا ابحث عنها بجنون، فهي لم تتركني بصوت ضحكتها الهادي، حتي وجدت نتاشا تدخل الى غرفتها دائما و تبحث عنها ..

بمرة وقفت خلفها و سالتها يتوجس من ان تكون تراها و تشعر بها كما افعل انا :
_ ماذا تفعلين هنا يا نتاشا ؟!

التفتت الي وهي تضم شالها علي ذراعيها وقالت بنبرة متحشرجة و وجهها مبلل بدموعها :
_ لقد سمعت الصوت ايلينا، ألم تسمعها انت ايضا يا سيف ؟! انا دائما ما اسمع صوتها، و اراها تركض حولي بالبيت، و لكنها تختفي بسرعة، هل روحها تطوف حولنا هل هي ما زالت هنا ام انني اتخيل؟!

لم اعرف ماذا اقول لها ؟! اخبرها انني ايضا اراها و اسمعها، اخبرها انني اشعر ان روحها معلقه بهذا البيت، و انها لم تفارقنا لحظة واحدة منذ مماتها ..

جلست مع نفسي كثيرا و انا اشعر بان من المؤكد ان روحها معلقه، وترجونا ان نساعدها على ان ترتاح، و ان تصعد الى خالقها، و لكنني لم اجد شيئا افعله او حلا يساعدني فيما أمر به؛ فكلما تحدثت مع اي شخص بهذا الامر كان يقول اننا نشتاق الى طفلتنا لا اكثر، و ان هذا هو السبب الوحيد و لكن انا اب و اشعر ان روح ابنتي تتعذب ..

حتى ظهرت انت امامي بصفحه الانترنت الخاصة بي في مصر، و وجدت لك مقطع مرئي مع احد الصحفيين تخبرهم بأمر شفافيتك وأنك ترى أشباحاً و أرواح بأماكن معينة، لم اتردد لثانيه واحدة، وتواصلت معك علي الصفحة الرئيسية ..

وبعد يومين اجابني السيد سامح بانه سيخبرك و سيعلمني بقرارك، و ان الامر صعب لبعد المسافات بيننا، و بالفعل مرت الايام و ها انت هنا، لا اعرف ما اقوله صحيح بشأن إيلينا، ام انك ستخبرني بانني ايضا أتوهم ..

و لكنني اشعر انك رايتها مثلنا، اشعر انها قد دلتك على شيء ما، لانني بعدما لم اجد حلا لمشكلتي، ذهبت الي البيت المحروق لهذا المشعوذ الساحر، و بحثت في انقاضه، وعثرت علي اوراق كثيره تتحدث عن مفاعل تشرنوبل المهجور، عبارة عن رسومات كثيره و كأنها خريطته لشيء ما يحدث هناك ..

اشعر انك استطعت ان تربط بين هذا المشعوذ و جرائمه و المفاعل اليس كذلك ؟!

انا كلما ذهبت الى هناك، كنت دائما ما اشعر ان روح إيلينا تطوف في هذا المكان، انها تحيطني انا متأكد، كنت اشعر بالراحة عندما اشعر بها حولي، و ارجوك الا تخبرني انني اتوهم مثلهم ..

اومأت له براسي و قلت بجديه :
_ انا سأخبرك بكل شيء، و سأخبرك بما رايته و سأخبرك بما خمنته ايضا لا تقلق من شيء .

التفت الي سامح الذي كان يجلس في صمت يسمعنا، ويتمتم بخفوت، و انا اعلم جيدا انه الان يتلو آيات قرانيه كي يحصن نفسه مما يحدث حوله..

عدت الى سيف و قلت له بتركيز هادئ :
_ لقد رأيت إيلينا انا في هذا البيت و خاصة غرفتها، رأيت طفلتك و كانت ترتدي هذا فستان الازرق الذي تتحدث عنه، و كانت بمنتهى الجمال و البهاء، تستطيع ضحكتها ان تحول اي شخص في العالم حزين، الي اسعد الناس على هذا الكوكب ..

ثم وجدتها تتحول و اثار تعذيب غريبه تنتشر على جسدها، و تركتني و اختفت، و عندما ذهبنا الى مفاعل تشرنوبيل، وجدتها هناك تلهو و تركض و تلعب هناك ايضا، و ذلك للفت انتباهي اليها لا أكثر، ثم وقفت على اول طريق هناك، و ضحكت لي و دخلت في هذا الطريق راكضة ..

انا ايضا ركضت خوفا من ان افقدها و نختفي، و وقفت انا ايضا على بداية الطريق، و رايتها و لكنني لم اراها بمفردها، لقد كان هناك عشرات الموتى المكبلون، كما هي مكبله ..

رايت اطفال و شباب و شيوخ، سيدات و آنسات من كل الاعمار يقفون خلفها، وعرفت انها استدعتني لهذا المكان كي ارى مدى العذاب الذين هم فيه ..

قطع حديثي صوت سامح الذي علا قليلا و هو يتلو آيات القران و قد اخرج من صدره سلسلته الذهبية، و التي بها ايه الكرسي و تمسك بها كانه يطلب من الله ان يمنحه الصبر و القوه ..

عدت الى سيف بعيني وقلت له بتعقل رزين :
_ انا اتفق معك في نقطه انا روحها معلقه، و لكن روحها معلقه بمارد متحكم بهم جميعا، مارد من ملوك مردة الجن ، عندما مات هذا الساحر، تعلق المارد بهذا العالم للأسف ..

عالم منافي لعالمه و لا يستطيع العودة الى عالمه بمفرده، لذلك يستمد قوته و مقاومته من تلك الارواح التي يحتجزها عنده، هي تلك الارواح التي قدمها الساحر قرابين لهذا المارد كي يزيد و يضاعف قوته، و بدوره يمنحه كل ما يرغب ..

ضرب سيف الطاولة بيده فانتفض سامح في مكانه و قال بغضب اعمي :
_ انت تخبرني الان ان روح صغيرتي ستظل معلقه هكذا، لمجرد انني قتلت هذا القذر القاتل، و الله لو عاد بي الزمن الف مره، لقد طلعت من جسده قطعا، و القيتها للكلاب كي تاكلها امام عينه ثم قتلته بعدها بقلب بارد .

قلت له لتهدئته :
_ اهدا يا سيف من فضلك، فغضبك هذا لن يجعلنا نفكر بشكل سليم، اهدأ .

جذب كرسيه و اقترب مني اكثر، و تمسك بكفي و قال برجاء متوسل :
_ ارجوك يا سيد رامي، ساعدني انا لم اعد امتلك غيرك كي ارتاح، لا اريد ان تظل روحها معلقه هكذا، اريدها ان تسكن في سلام، فهل هناك حل ؟!

وقفت و سرت قليلا تحت انظارهما، حتى وقفت امام نافذه تطل على الطريق بالخارج، و انا افكر و افكر حتى بات عقلي يؤلمني كثيرا من فرط ضغطي عليه، انا الان بصدد مساعده ارواح قد ماتت في السابق، انا اساعد اناس يحيون، وان لم اساعدهم سيموتون؛ ولكن الوضع هنا مختلف، فتلك ارواح ميته كيف سيكون الحل معها ؟! انا محتار و لا اجد باب لهذا الموضوع ..

توصلت لحقيقه واحده انني لا استطيع ان افعل شيء؛ فبالنهاية الطفلة قد ماتت فعليا، وانتهى امرها و وجودي هنا بالنسبة لأي شخص يستمع الى تلك القصة، سيقول انه وجودي هنا هزلي ليس له معنى ..

تجلت امام عيني صوره ابنتي ساجده، شعور غريب اصابني انه لا قدر الله لو ابنتي هي من تعلقت روحها بهذا الشكل، هل اتركها علي هذا الحال ؟!

ايقنت انني يجب ان اساعده باي شكل من الاشكال، و لكن كيف انا لا اعرف، وجدته يقف الى جواري و قال وكأنه قرأ ما يدور في رأسي :

_ انا اعرف مدى الحيرة التي تدور بعقلك الان، و لكنني سأخبرك شيئا، هناك الكثير من اهل البلدة سيأتون في الغد الى هنا، معهم بابا من الكنيسة و مسؤولون كنسيين، متخصصون في صرف الجن، كل ما اريده منك ان تاتي معنا ..

و ما ستراه ستخبرنا اياه، و ان تساعدنا و انا سأقرأ القران و خاصة جميع الآيات الخاصة بصرف الجن، انا تعلمت الفترة السابقة الكثير والكثير بهذا الشأن، كي استعد لتلك الجلسة، ربما نستطيع تحريرهم ..

و لكن وجودك معنا، و تلك الهبه التي منحك الله اياها انك تستطيع ان ترى ما لا يراه احدنا في رؤية الجن والارواح، ستساعدنا في القضاء عليه، سواء استطعنا تحرير ارواحهم، ام فشلنا في ذلك .

لم اجيبه على الفور، و عدت لمطالعه الطريق و انا افكر، من المؤكد انني اريد ان اساعده، و سأساعده لا مفر، و فكره انني سأرى جلسه كنسيه على الديانة المسيحية حمستني لا شك بذلك ..

انا لم ارى مثل ذلك الامر من قبل، و اعتقد ان هذا سيثري معلوماتي كثيرا، و سأجعل سامح يصور كل شيء سيحدث ..

التفت الى سيف و قلت له بحماس :
_ انا موافق و سآتي معك بالغد، و سأخبركم بكل شيء سأراه و اشعر به هناك، و سيكون لي دور كبير ان شاء الله لا تقلق، و لكن اولا اريد ان اذهب الى بيت هذا الساحر .

وقف سامح وقال بذعر :
_ ماذا قلت ؟! الا يكفيك ما ستفعله غدا آثاره عليك بعدها يا رامي .

لم التفت لما قاله وتابعت من حيث وقفت قائلا بإصرار :
_ و اريد ايضا ان اسير قليلا بالغابة التي تقع خلف بيته، و الذي رأيتم بها الجثث سواء للحيوانات او رفات بشر، او اي شيء يتعلق بتلك الحوادث .

اجابني سيف مسرعا :
_ تعال معي الان، و انا سأذهب معك الى اي مكان تريده، و سؤءجل الذهاب الى زوجتي حتى المساء، سأتصل بها و اخبرها انك وافقت علي مساعدتنا، كي يطمئن قلبها قليلا، تعال معي .
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي