3

الفصل الثالث: «سيد متزوّج اثنتين چُنيد».

...

وضعت المفتاح بفتحته في الباب تديره ببطءٍ متعمدةً فتح الباب بشكلٍ بطئٍ وهادئٍ؛ حتى لا يسمعها أحد من الداخل، فتسللت تسير بهدوءٍ في ظلام القصر سوى من بعض المصابيح الخفيفة الضوء لتغلق الباب خلفها.

وما إن استدارت حتى وجدته أمامها يقف مثل الصنم مشبكًا ذراعيه على صدره يسألها بصوتٍ هادئٍ ذلك الهدوء ما قبل العاصفة:

«أين كنتِ حتى هذه الساعة المتأخرة؟»

«وما شأنك؟»

نظر لها بعدم تصديقٍ؛ فكيف تجيبه بهذه الطريقة الباردة؟ أنزل ذراعيه بجانب جسده، ثم اقترب منها خطوتين وارتفع صوته بحدةٍ قليلًا:

«بالطبع لي شأن في هذا؛ فأنا زوجكِ.»

«لا يهم، أنا متعبة وأريد النوم قليلًا، كما أنني جائعة ولم أتناول شيئًا منذ خروجي.»

أجابته بمللٍ وتحركت تنسحب من أمامه بهدوءٍ، ولكنه أمسك ذراعها حينما مرت من جانبه يشدها لتقف أمامه، ثم تحدث من بين أسنانه بغضبٍ:

«لن تذهبي لأي مكان إلا بعد أن تخبريني أين كنتِ! أتعلمين كم هي الساعة؟ إنها الواحدة بعد منتصف الليل سيدة مالك.»

قلبت عينيها بمللٍ فتضايق من هذه الحركة ونظر لها بغضبٍ، ولكنها تنهدت بقلة حيلةٍ تجيبه حتى يتركها:

«لقد كنتُ في منزل ساندي، ذهبتُ لزيارتها قليلًا، هل هذا جيد؟ والآن دعني فأنا أريد تناول العشاء.»

ترك ذراعها وتنهد بعمقٍ قائلًا:

«حسنًا، ولكن.. فلتكن هذه هي المرة الأخيرة التي تتأخرين بها في العودة.. هل فهمتِ؟»

قلبت عينيها مرةً أخرى وهزت رأسها بمللٍ تنسحب من أمامه متجهةً للأعلى ولم تجِبه بحرفٍ واحدٍ، فتنهد هو بحدةٍ يضرب الأرض بقدمه، ثم صعد الدَرج خلفها مباشرةً.

فتحت باب غرفتها ودخلت، ولكنها قبل أن تغلق الباب رأته يدخل الغرفة المجاورة، فشعرت بالألم لمجرد التفكير أن زوجته الأخرى توجد في هذه الغرفة وقد ذهب لها وتركها هي بالغرفة التي اعتادا أن يناما بها معًا.

في العادة عندما تضع رأسها على الوسادة فإنها تنام مباشرةً، ولكن هذه الليلة كانت مختلفةً، فرغم محاولاتها الكثيرة لم تستطع إغماض عينيها حتى رأت ضوء الشمس يتسلل من فتحات النافذة الصغيرة المقابلة لسريرهما معلنًا قدوم الصباح وهي مستيقظة.

نظرت للسقف بشرودٍ لدقيقةٍ، ثم تنهدت بعمقٍ تنهض من السرير حتى ذهبت لدورة المياه، فخرجت منها بعد مدةٍ وارتدت ثياب عملها الرسمية، المكونة من سروالٍ ضيقٍ من القماش الأسود وقميصٍ أبيض بأكمام قصيرة مع ربطة العنق السوداء.

انتهت من تمشيط شعرها الأحمر حيث تركته مسدولًا على طول ظهرها وصولًا لما بعد خصرها بشكلٍ ساحرٍ، ثم التقطت حقيبتها واتجهت لباب الغرفة.

توقفت مكانها فجأةً قبل أن تخرج واستدارت تنظر للخزانة البيضاء بنقوشٍ ذهبية كما معظم الأثاث بالغرفةٍ- وتلك الابتسامة الخبيثة ترتسم على شفتيها ببطءٍ، ثم ما لبثت أن عادت للداخل وفتحت الخزانة تلتقط تلك التنورة السوداء.

خلعت السروال لترتدي التنورة، فشعرت بشيءٍ من الاقتناع حينما وجدت التنورة تصل لأعلى ركبتيها، أو بمعنى آخر لا تغطي سوى مؤخرتها، وبدون ترددٍ خرجت من الغرفة تتجه للأسفل.

نزلت الدَرج لتجده وابنتها الصغيرة جالسين بغرفة الطعام برفقة تلك البرتقالة اللعينة -كما تلقبها هي-، فاتجهت إليهم مباشرةً وهي تتنهد بعمقٍ لتنظم أنفاسها.

«صباح الخير.»

قالتها بابتسامةٍ سعيدةٍ ما إن دخلت حتى ينتبه لها الجميع، لترد چاسمين التحية بامتعاضٍ، بينما ظل زين صامتًا ينظر لها بعينيه الكرامليتين بغضبٍ.

تجاهلت نظراته المركزة على ساقيها البيضاوين العاريتين وكأنه يحذرها، فجلسا بجانب طفلتها بعيدًا عنه حيث كان جالسًا على رأس الطاولة وطفلته بجانبه الأيمن وچاسمين على يساره.

أمسكت الشوكة وبدأت في تناول الطعام بهدوءٍ متجنبةً النظر له، ولكنها ابتسمت بشكلٍ مفاجئٍ حينما سمعت صوته الهادئ يسألها محاولًا إخفاء اهتمامه:

«لماذا ترتدين هذه الملابس؟ هل أنتِ ذاهبةٌ لمكان ما؟»

«أجل.. أنا ذاهبة للعمل.»

«ماذا تقولين؟ كيف ستذهبين بهذه الثياب؟»

صرخ بحدةٍ يضرب الطاولة بيده، فقفزت چاسمين عن مكانها فزعًا، بينما ظلت هي ترمقه بتلك النظرات الباردة لتجيبه بسؤالٍ:

«وما بها ثيابي؟»

مسح على وجهه بغضبٍ يجيبها بهدوءٍ قليلًا حينما تذكر وجود طفلته معهم:

«لن تخرجي لأي مكانٍ بهذه الثياب القصيرة.»

«بلا سأخرج لأي مكان أريده.»

«لن تخرجي!»

«بلا سأخرج.»

أجابت بتحدٍ زامةً شفتيها، فرمقها بسخطٍ ليكمل عناده من بين أسنانه:

«قلتُ لن تخرجي لأي مكان!»

«وأنا قلت سأخرج لكل مكان.»

«لمَ تعارضيني؟»

«أنت من يعارض ولستُ أنا.»

«هذا قراري ولن تخرجي من المنزل.»

«وهذا أيضًا قراري وسأخرج من المنزل.»

«آنچل!»

صاح بانفعالٍ مكشرًا ملامحه بسخطٍ لينهي تلك المناقشة العنيدة، وما زادها ذلك إلا إصرارًا لتصيح بنفس نبرته:

«زين!»

«هل تقلدينني؟»

«لا.. أنت من يقلدني.»

تنهدت چاسمين باستياءٍ وهي تتابع هذا المشهد وكأنهما طفلان عنيدان، بينما ازداد سُخط زين ليهدر فيها مقتربًا منها بجذعه العلوي:

«تبًا آنچل، ما هذه التفاهة التي تحدث؟»

«أنت من بدأ بالتفاهة.»

«اصمتي الآن!»

«لن أصمت.»

نظر لها بغضبٍ والتمعت عيناه بالتحذير، ثم ضيق عينيه يقول بصوتٍ هادئٍ اخترق عظامها:

«حسنًا آنچل.. لا تصمتي، ولكن لن تخرجي من المنزل ولن تعملي مجددًا!»

«أنت لن تمنعني من العمل!»

سألته بنبرةٍ قلقةٍ وعيناها تتوسلانه أن يكذِّب ما قاله للتو، ولكنه ابتسم بكبرياءٍ يرفع رأسه للأعلى مبتسمًا باستفزازٍ يجيبها:

«بلا سأفعل، ولن تعملي بعد اليوم.»

زمت شفتيها بضيقٍ ونظرت له بعينين دامعتين عندما شعرت أنها على وشك الانهزام أمامه في أول تحدٍ لهما، فأخذت نفسًا تقول بضعفٍ:

«أنت لن تستطيع منعي من العمل، أنت أيضًا تعمل فهل منعتك أنا؟ هذا ليس عدلًا.»

نظر لها بجمودٍ لبضع لحظاتٍ، ثم أمرها بثباتٍ:

«هيا انهضي!»

«لماذا؟»

«قلتُ انهضي واتبعيني للخارج.. الآن!»

نهض من مكانه وخرج فورًا من غرفة الطعام، فتنهدت هي بضيقٍ ونظرت لتلك المدعوة چاسمين التي كانت تتابعهما بصمتٍ وتلك الابتسامة المستفزة تغزو شفتيها.

فتنهدت هي بحدةٍ ترمقها بنظرةٍ قاتلةٍ، ثم خرجت تتبعه من الغرفة حتى توقف في غرفةٍ أخرى على يسار الدَرج، وما إن دخلت حتى استدار يأمرها:

«أغلقي الباب!»

«لماذا؟»

«فقط أغلقيه، أريد التحدث معكِ قليلًا.»

نظرت له بغموضٍ وأغلقت الباب، ثم التفتت له لتجده أمامها بشكلٍ مفاجئٍ ولا يفصل بينهما إنشٌ واحدٌ، فتوترت وابتلعت لعابها بسرعةٍ تسأله:

«ممـ..ماذا تريد مني؟»

نظر لزمرديتيها اللامعتين مباشرةً ليزيد توترها، ثم سألها بصوتٍ هادئٍ:

«لماذا تتصرفين بهذا الشكل؟»

«كيف أتصرف؟»

وكأن توترها عطّل عمل عقلها لتسأله بخفوتٍ وعيناها على تفاصيله المُحببة من هذا القرب، فزم شفتيه قابضًا يده يهدر فيها:

«لا تتصرفي كالحمقاء، أنتِ تعلمين ماذا أقصد!»

«إن كنتُ أنا حمقاءٌ فقط لهذا السبب، فماذا تُعد أنت يا سيد متزوج اثنتين جُنيد؟»

نهرته بحدةٍ لاصقةً جبينها بخاصته بتحدٍ وكأن توترها زال بثوانٍ، فضيق عينيه يُبعد جبينه عنها متخذًا خطوةً للوراء يتذمر بانزعاجٍ:

«ماذا تقولين آنچل؟ أنا اسمي زين چُنيد وليس متزوج اثنتين چُنيد؟»

«أرأيت؟ أنت تخرج من الموضوع الأصلي وتعترض على الفروع.»

في تلك اللحظة تنهد بقلة حيلةٍ يسألها بحزنٍ ظهر بملامحه الشاحبة:

«لمَ تغيرتِ بهذا الشكل؟ لستِ آنچل التي أعرفها.»

أدمعت عيناها تجيبه بصوتٍ مختنقٍ بالبكاء:

«أنت من أجبرني على فعل ذلك، أنت خنت ثقتي بك، لقد خنت حبنا وزواجنا وتلك الطفلة التي رُزِقنا بها وكل شيء، أنت خنت كل شيء.»

وقبل أن تسمح له بأن يجيبها تركته وخرجت من الغرفة متجهةً للأعلى فورًا بخطواتٍ أشبه للركض، فتنهد هو بقلة حيلةٍ يهمس في نفسه:

«أتمنى أن تفهمي السبب الذي دفعني للزواج من أخرى..»

وقفت في شرفة غرفتها تلف جسدها بذراعيها وتلك الدموع تتساقط على وجنتيها اللامعتين وهي تشهق بخفةٍ بين دموعها، ولكنها مسحت تلك الدموع بسرعةٍ حينما رأت زين يخرج من المنزل ومعه تلك البرتقالة اللعينة تتأبط ذراعه بتملكٍ وابتسامتها البلهاء على شفتيها.

نظرت لهما بغيظٍ وتجهم وجهها تقول بحدةٍ:

«إذًا سيجعلها تعمل وسيمنعني أنا من ذلك؟ يعترض على ثيابي ويتركها تسير بهذا الفستان العاري؟ أنا سأريك زين! أقسم سأريك أنت وهذه الساحرة!»

دخلت من الشرفة تبحث عن هاتفها، وما إن وجدته حتى فتحته تدون رقم ساندي، ثم ضغطت على زر الاتصال تضع الهاتف على أذنها في انتظار الرد، ولكن الأخرى لم ترد.

فعاودت الاتصال بها مرةً ثانيةً وثالثةً حتى أجابت في الرابعة بصوتٍ مرهقٍ ويبدو أنها تجاهد لتلتقط أنفاسها:

«مرحبًا آنچل.»

«لمَ لا تردي من المرة الأولى؟»

تساءلت غاضبةً تتنفس باهتياجٍ، فتلقت نبرةً ساخرةً من الأخرى تجيبها:

«مرحبًا لكِ أيضًا.»

«ساندي أنا لا أمزح، لمَ لمْ تردي بسرعة؟»

«أنا مع ألبِرت الآن.»

«ماذا تفعلين مع ألبِرت؟»

بلغت الحدة كثيرًا بنبرتها، فأتاها صوت ساندي تجيب ساخرةً:

«مثل ما تفعلين مع زين.»

صرخت بانفعالٍ وجلست على سريرها، فأجابتها الأخرى بصراخٍ مماثلٍ:

«تبًا ساندي، هل هذا هو الوقت المناسب لهذا الشيء؟»

«لمَ تصرخين الآن؟»

«أنا .. أنا أريد قتله، لقد منعني من الذهاب للعمل وسجنني في المنزل.»

صرخت بانفعالٍ وجلست على سريرها، فأجابتها الأخرى بصراخٍ مماثلٍ:

«ماذا تقولين؟ وكيف سمحتِ له بفعل ذلك؟»

تساءلت ساندي هذه المرة بحدةٍ وأرجعت خصلات شعرها الأشقر الملتصقة بجبينها للخلف بضيقٍ، فتنهدت آنچل بحزنٍ تجيبها بنبرةٍ تخللها البكاء:

«لا أعلم كيف سمحتُ له بذلك، ولكن أنا أشعر بالألم، قلبي يؤلمني!»

«ألبِرت ابتعد عني! أنا أتحدث مع آنچل الآن.»

هتفت ساندي بانزعاجٍ وحاولت دفع خطيبها بعيدًا عنها بعدما كان يحاول التنصت على ما تقوله آنچل لها في الهاتف، فزم الآخر شفتيه بسخطٍ يهتف هو الثاني:

«تبًا لهذه آنچل مفسدة اللحظات السعيدة هذه.»

سمعت صوت ألبِرتو يأتي لها من الهاتف وهو يلعنها، فعبست بوجهها تزم شفتيها بضيقٍ قائلةً:

«أنا سأقتلك ألبِرت إن رأيتك، دع الفتاة تتحدث معي قليلًا يا رجل!»

دفع ألبِرتو ساندي بعيدًا عنه، ثم نهض من الفراش يتأفف بمللٍ ويلعن الاثنتين، فنظرت له ساندي بغضبٍ وتنهدت لتتجاهله، ثم عادت للتحدث مع آنچل:

«إذًا ماذا ستفعلين بهذا الأمر؟»

«لا أعلم، فلتجدي لي حلًا!»

صمتت ساندي لثوانٍ بتفكيرٍ، ثم عادت تتحدث قائلةً بتركيزٍ:

«لدي خطة بسيطة، ولكن لا أعتقد أنها ستعجبكِ.»

«فقط قوليها!»

توسلتها الأخرى وبدت يائسةً جدًا، فتنهدت ساندي بعمقٍ تعتدل في جلوسها على سريرها بغرفتها قائلةً:

«حسنًا اسمعيني جيدًا!»

وبدأت ساندي تشرح لها الخطة والأخرى تستمع لها بانتباهٍ وتلك الابتسامة الخبيثة ترتسم على شفتيها تدريجيًا.

ولم تكن آنچل هي الوحيدة التي تتحدث مع صديقتها في تلك اللحظة، فقد كان زين أيضًا جالسًا مع صديقه في غرفة مكتبه بعد أن وصل لشركته، فتنهد زين بضيقٍ يقول لصديقه:

«رجاءً (نايل)، لا تتحدث معي بهذا الأمر!»

نظر له نايل بعينيه الزرقاوين، حيث كان يحتل مقعدًا جلديًا أمام مكتب زين الكبير، ثم ابتسم بسخريةٍ يجيبه:

«لا تريد الحديث في هذا الأمر لأنك تعلم أنك مخطئ، أليس كذلك؟»

«لا لستُ مخطئًا بالطبع، هذا من حقي.»

أجابه الآخر بإصرارٍ وفتح دُرج مكتبه الأول باحثًا بعينيه عن عُلبة سجائره، فنظر له صديقه -الأشقر ذو الشعر الأقرب لخصلاتٍ بيضاء- بصدمةٍ يهتف متسائلًا:

«أي حق هذا زين؟ أنت تزوجت أنچل بعد قصة حب طويلة، ماذا حدث الآن لكي تخونها؟»

«هذه ليست خيانةً.»

أجابه الآخر مضيقًا عينيه بتحذيرٍ ليضع لفافة التبغ التي التقطها من الدُرج بين شفتيه يشعلها، بينما زم صديقه شفتيه يقاطعه بتأكيدٍ:

«بلا، إنها خيانة لأن آنچل رقيقة المشاعر وطيبة القلب ولم تقصّر في شيء تجاهك حتى تستبدلها بأخرى.»

«بلا، لقد قصّرت جدًا تجاهي، منذ ولادتها لناردين ولم تعد تهتم لأمري، ذهبت للعمل في شركة ماريو الوغد، ورفضت العمل معي في شركتي.»

أشعل سيجارته مجيبًا بحدةٍ لتحتد ملامحه أكثر ما إن تذكّر ماريو، فاتسعت حدقتي الآخر بذهولٍ ليقرب وجهه منه هادرًا بعدم تصديقٍ وكأنه يرى صديقه مجنونًا:

«هل تمزح معي؟ كيف تريد لفتاة أن تعمل في شركة للملابس الداخلية للرجال؟ ماذا تريدها أن تعمل في شركتك؟ هل تصبح عارضةً لثياب الرجال الداخلية؟»

«ها ها ها هذا ليس مضحكًا نايل.»

قهقه زين ساخرًا ورمقه بضيقٍ ثم أشاح نظره بعيدًا عنه، فعصر نايل رأسه بنفاذ صبرٍ يرجع ظهره للخلف هاتفًا:

«يا إلهي! لا فائدة من الحديث معك يا رجل، دعني أسألك كيف قابلت چاسمين؟»

نفث الآخر دخانًا كثيفًا غطى وجهه للحظاتٍ ليتلاشى ملوثًا الهواء، فتنهد ينظر لصديقه مجيبًا بهدوءٍ:

«كانت تعمل مساعدة شخصية للسيد (تشارلي) رجل الأعمال الذي سافرتُ إلى مدينة مارسيليا لأتم معه الصفقة الجديدة، ولأن سفري دام شهرًا فقد تعرفتُ عليها جيدًا، كما أنني أقمتُ علاقةً معها، ثم تزوجتها عندما استيقظتُ في الصباح.»

«أعتقد أنني سأبكي حقًا، هذه قصة حب رومانسية دامت بين ليلة وصباح اليوم التالي، أتعلم شيئًا؟ أنا أشفق على آنچل لأنها ما زالت تعيش معك في نفس المنزل بعد هذه الفعلة الشنيعة.»

في تلك اللحظة تنهد زين بيأسٍ ينظر للآخر بقلقٍ، بينما لمعت عيناه بشيء من الخوف ليقول:

«أنا أشعر بالقلق إن فكرت آنچل في الابتعاد عني!»

«إن كنتَ قلقًا بهذا الشكل؛ فلمَ فعلتها وتزوجت من أخرى؟»

«لا أعلم.»

«أوتعلم شيئًا؟ أنت حتى لا تستحق أن أتحدث معك، أنا سأعود لقسم الشرطة وسأتحدث مع المجرمين بدلًا من الحديث مع شخص مثلك.»

رن هاتفه ليلتقطه من على سطح مكتبه، ثم فتحه يضعه على أذنه مجيبًا بهدوءٍ ولا زال يستنشق سُم سيجارته:

«ماذا؟»

«عزيزي، أنا سأذهب للمركز التجاري مع صديقتي بعد العمل لنشتري بعض الملابس.»

أتاه صوت زوجته البرتقالية بدلالٍ واضحٍ، فأخذ نفسًا من سيجارته يسألها باللامبالاة:

«ومتى ستعودين؟»

«لا أعلم ولكنني لن أتأخر لما بعد العاشرة مساءً.»

«حسنًا چاسمين.. فقط انتبهي لنفسكِ.»

«أحبك زين، وداعًا.»

«وداعًا.»

أغلق الهاتف ليضعه على المكتب، ثم تنهد بمللٍ يفتح ذلك الملف أمامه ليبدأ في قراءته ودراسته، حتى مر الوقت بدون أن يشعر به وانتهى دوامه، فغادر عائدًا لمنزله في السابعة مساءً.

توقف أمام بوابة القصر الكبيرة، وما إن سمع الحارس بوق سيارته حتى هرول ليفتح له البوابة، فدخل بسيارته في الحديقة ليصفها في المرأب.

خرج ليدق جرس الباب الداخلي، فلم يجد إجابةً من أحدٍ، فتنهد بمللٍ وهو يلعن الخادمة تحت أنفاسه ليخرج المفتاح، ثم فتحه ودخل.

تملكه الذهول ما إن خطى بقدمه للداخل، فأصبحت عيناه متسعتين بشكلٍ مصدومٍ وفغر فمه يتمتم بصدمةٍ:

«ما الـ..؟ هل وقع زلزال هنا؟ وما الذي جاء بأوراق الحمام في غرفة المعيشة؟»

عندما يقيم المراهق حفلةً في منزله في غياب والديه ويدعو جميع أصدقائه ويدعو حتى من لا يعرفهم، حينها يتحول المنزل لخرابٍ وتنتشر الفوضى في كل مكانٍ، وهذا بالضبط ما رآه زين في منزله.

المصابيح بكل المنزل مضاءةٌ، المأكولات وبقايا الطعام والشراب متناثرةٌ على الكراسي والطاولات، الأرائك والتماثيل واللوحات وكل الأثاث محاطٌ بورق الحمام، والجدران مرسومٌ عليها بالأقلام الملونة.

«إيوووو..هذا مقرف!»

قالها زين فجأةً مجعدًا ملامح وجهه باشمئزازٍ حينما داست قدماه على بيضةٍ لتنكسر أسفل قدميه ويغطي سائلها اللزج قدميه.

تجهم وجهه غضبًا وظل يسير ويتفحص المكان بعينيه، مسح على وجهه بقوةٍ يريد أن يقطع جلده وهو يرى المنزل مدمرًا بالكامل وبعض التماثيل مكسورة، بالإضافة إلى مزهريةٍ سوداء أثريةٍ مكسورةً وقطعها متناثرةٌ في كل مكانٍ و.. أأأأأ

«لاااااااا.. مزهرية أمي العزيزة، لااااااا.»

هتف بحزنٍ وهو يسقط ببطءٍ جاثيًا على ركبتيه يلتقط قطعةً مكسورةً من المزهرية ويحتضنها لصدره هامسًا بصوتٍ مختنقٍ بالبكاء:

«لقد كانت هذه المزهرية هدية من أمي.»

ترك القطعة المكسورة على الأرض ورفع عينيه ينظر للأمام وملامح وجهه تتغير للغضب المخيف، ليصرخ بأعلى صوته باسمها:

«آنچل رون باركر!» 

لو كنا في أفلام الرسوم المتحركة لاهتز القصر بأكمله بسبب صوت صراخه العالي، حينما نهض من الأرض يصعد للأعلى جريًا وعيناه تلمعان بالانتقام.

توقف فجأةً أمام باب غرفتها حينما سمع صوت الموسيقى الصاخبة قادمًا من الداخل ليعبس بوجهه، ثم مد يده ببطءٍ يدير مقبض الباب حتى فتحه.

وما إن فتحه حتى شعر بتلك الهالة التي تضرب بجسده من الداخل كأنها عاصفة من الموسيقى الصاخبة، فضرب الباب بقدمه بغضبٍ لينفتح على مصراعيه، ثم خطى بقدمه للداخل ليتصنم مكانه مثل التمثال وقد شعر بانعقاد لسانه عن الكلام وملامح الصدمة التي غزت وجهه.

يُـتبَــع....
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي