جزيرة الظلمات

Sara2094`بقلم

  • الأعمال الأصلية

    النوع
  • 2022-12-28ضع على الرف
  • 33.7K

    جارِ التحديث(كلمات)
تم إنتاج هذا الكتاب وتوزيعه إلكترونياً بواسطة أدب كوكب
حقوق النشر محفوظة، يجب التحقيق من عدم التعدي.

تَوْطِئة

تَوْطِئة


القرن الثامن عشر

1745

جزيرة المياه المُظلمة

دبياجة مٌظلمة مُدرجة بالدماء.
في هدوء الليل
عروسي المُقدمة لي كقربان
اقتربي مني في المقبرة القديمة
هناك قرب البحر
سوف يكون يوم زواجكِ، ميلادكِ ومماتكِ.
وسيكون قبركِ
هناك قُرب البحر الهائج.






لا يمكنك أن تأمن لشر البحر، لا نهارًا ولا ليلًا، فهو ينقلب بين فنية ولمحة.

قانون القراصنة الأول: انَهب ولا ترحم، مَنْ سينال رحمتك سوف يكون سبب هلاك.

القراصنة عُشاق البحر السريين، أشباح اليابسة وملوك المحيطات.



في قمرة الكابتن..

ما يحدث في قمرة الكابتن يبقي هناك، يسمع هسيسه البحارة ولكن أبدًا لا يحاولون معرفته.

في منتصف موعد وصوله للجزيرة، يخط بسفينته المُهيبة مياها، يوم يكون يتوارى القمر ويترك السماء مُظلمة، دكانتها تنافس شعره الأسود الذي يرابطه بسلسال صنعه من عظام وحوش بحرية قضى عليها على مر رحلاته الأربعين رغم أن هيئته لا توحى بعمر يناهز العقد الثالث.

ثيابه سوداء وقميصه تبرزه منه عضلات صدره التي تفتن الفتيات، وتجذب النساء في كل حدب من الأرض، البحر موطنه والليل مملكته، والبحث وراء الكنوز والأسرار هوايته.

يخشاه الجميع، لقبه قرصان أحمر وسفينته مصنوع من أخشاب قادمة من قعر مغامرة لوحش بحري حاربه وقتله.



هو قرصان والكل يهابهُ.

سَارت ابنة العمدة تحت ستار الليل متخفية في رداء أرجوني تركض ناحية الميناء، فقد كانت تعد الأيام في كل شهر حتى يأتي نصفه فتذهب للبحر كي تراه هل قدمت سفينته أم لا.

وهذا الشهر كانت محظوظة بظهور سفينته على مشارف مياه الجزيرة، ركبت مركبًا شرعيًا وطلبت من عامل ساهرًا أن يذهب بها نحو السفينة التي تغزو مياه الجزيرة.

ولأنها ابنه العمدة وزوجة ابنه أكثر الرجال ثراءً على المدينة كان لابد أن يخضع ويصَمت، جدف بها القارب نحو السفينة، ونفحته بضع عملات، وراقبها تتسلق برشاقة إلى السفينة.

كانت حورية خلقها الله على الأرض، حمراء الشعر ذات بشرة حلبية، شاع أنها تستحم في اللبن كي يلمع بياضها كهذا، عينيها رمادية تشبه عين والدتها المتوفاة التي تزوجها أبوها حينما عبرت مع أباها الأميرة على سفينة إسبانيا على ميناء الجزيرة، أما جسدها فهو منحوت بانحناءاته اللينة.

كانت فاتنة كالخَطِيئة، جذابة كالجَحِيم، وجميلة كالنعيم.


تسللت بخفة بين البحارة حتى قمرة الكابتن، فتحت الباب وأسقطت ردائها عنده، أغلقته خلفها ثم أسقطت ثوبها الأحمر ذو الحمالات العريضة الكاشف لذراعيها، ويبزر نهديها، ثم تخلصت من المشَّدة والجورب وثيابها الداخلية قطعة تلو قطعة حتى الفراش، وكفينوس سقطت عارية فوق الفراش.

اشتم رائحتها فعرفت خطواته أين تقوده، فُتح الباب وسقط بصره فوقها، جسدها العارية المتفجر بالفتنة والأنوثة، لم يحصل منه سوى على نظرة قصيرة ضيقة من الرغبة.

أغلق الباب وتخلص من حذائه الثقيل ثم قفز فوق الفراش وغاب معها بضع ساعات لم تحسبها بالتأكيد، تصاعدت فيها أصواتهم لعنان السماء ولكن ما يحدث في قمرة الكابتن لا يغادر قمرة الكابتن.

انتهى منها وتركها ليستند بظهره على مقدمة الفراش الخشبية، واستدرت هي عارية تتطلع لجسده الصلب المنحوت، الذي لا يتعب أبدًا، وفكرت كم تود لو سرقها على سفينته وهرب بها إلى محيطات وجزر لم تطأ مخيلتها أرضها.


-لستِ امرأة لرجل واحد.

نطقها وهو ينفث دخان تبغها في فضاء القمرة المُجهزة لمزاجية الكابتن، ضحكت واختيالها بجسدها يجعلها لا تخبئه أو تغطيه، ترفع يديها وتسير بيدها على صدره المليء بالعضلات:
-يمكنني أن أصبح لك وحدك.

ينفث تبغها وبسمة ساخرة مُظلمة تتشكل فوق شفاه:
-وأنا لا يمكنني الاكتفاء بامرأة واحدة.


يلقى بصره فوقها، يمرر عيناه فوق جسدها ويشير للباب:
-أنتن تمرون على قمرتي، تمحونني المتعة ثم تذهبن.



تحرك كتفيها بدلال، وترفع يديها، تمط جسدها جانبه كي تمنحه نظرة على ما يضعه في سلة واحدة مع النساء الأخريات، لكنه يتبجح بظُلمة هي فطرته:
-كيف حال زوجك؟.


تزمجر وتحرك كتفيها ببساطة مَنْ اعتاد الخَطِيئة:
-يتاجر.


يترك بقايا التبغ جانبه ويتسأل بتسلية:
-ألا يكتشف مغامراتكِ الليلية؟.


تتنهد وهي تنهض تلتصق به:
-وإن فعل؟ هو يعلم أنني لدي احتياجات لا يمكنه تلبيتها.


تتشدق بالضحك:
-كُلما يسأله أبي عن الأطفال يتهرب، يومًا ما سوف أعلن حملي له وسوف يأمم أنه طفله لأنه لا يقدر على أكثر من ذلك.


سخر دون ضحكة:
-أنتِ شيطانة لعينة.


تمرر يديها على جسدها الفاتنة بزهو من سقطت في حب نفسها منذُ زمن:
-هل الشياطين هم ملوك الغواية أم أن الغواية آتية من الشياطين؟.


يميل نظره للأمواج وإجابته خافتة:
-لا فارق.


يضع يده حول خصرها ويجذبها نحو صدره، يتمتم فوق بشرة وجهها:
-في كل الأحوال أنتِ حورية شيطانية لعينة.


تقترب منه أكثر، تمنح شفتاه قُبلة يتركها من نصفها ولكنها لا تبالي:
-أنتظر الليالي التي تأتي فيها لهذه الجزيرة المُملة، فتجعل الليالي أكثر إثارة:



تذهب عيناه للأمواج المُتلاطمة من النافذة الزجاجية في جانب القمرة، ثم تعود إليها بنظرة خبيثة:
-أعلم.


تحرك كفها فوق وجه، ملامحه وعظام وجنته، أنفاسها تتصاعد وتتخبط على جلده البارد، تدير وجهها نحوها، تهمس:
-ألا تود الأكل؟.


تلمع حدقتاه بالسود داخل حدقتيه الزرقاوان، تمدد وتلتمع وأنفاسه مُصمتة كروحه، تحثه كل مرة:
-تود ذلك؟ أفعلها، هيا.


يتسع السواد في حدقتاه حتى يبتلع الزرقة، يكشر عن أنيابه ويطلق زمجرة حيوانية يغرس بعدها أنيابه في عنقها، يتجرع دمائها الحمراء الساخنة تحت تأوهاتها.

تنتشى بفعلته ولا تخشى حقيقته، ويشبع جوعه مُمددًا السواد في فطرته.

***

قانون القَراصنة الثاني: لا تْدنس السفينة بالدماء، فالسفينة هي الأرض والبحر هو الموطن، وإذا دنسْته ثار عليك.

ترى هذه الجزيرة دون غيرها الكثير منهم، تمر السُفن عبر محيطها منذُ أن وجدت، وربما حتى قبل أن تُوجد، تاريخها لازال مجهول لمعظم ساكْنيها من مختلف بقاع الأرض وطبقاتها.

ذو الشأن العالي، أصحاب الثراء وذو العوينات القادرين على القراءة والكتابة، الأطباء والضباط والقَباطَنة، حدادون وخدم وفقراء طاحنين في أعمال الحياة لأجل سمكة نتنة وكَسرة خبز بائتة، البحارة والصيادون وهم أكثر أهل الجزيرة التي مصدر رزقها واطعام شعبها هو ما يجود به البحر كل يوم.

والبحر يجود بما يرغب وتبعًا لمزاجية ساكنيه؛ حيث يومًا تكون الشباك ممتلئ بما طاب ويكفي، وأيامًا قاحط شاحط لا يمنح ولا يسمع، يزوم في وجه مراكب الصيد حتى يخرج أصحابها بلا جودة اليوم، وينام مَنْ يقتات عليه جائع مُمنيًا نفسه بجزل عطاء اليوم التالي.

كانت الليلة مُقمر قمرًا أحمر، خسوفه ينبأ بسماع صوت القدر على لسان راوي وعَرفة في خيم الهجر المُتراص جانب بعضها في الجزء الغربي من الجزيرة.

فعلى شاطئ الجزيرة ترسو كل يوم سفينة، من بينهَم سُفن الهجر الراحلين، ينضمون للهَجر الذين أصبحوا من سُكانها في مهرجان ليلي مستمر من الرقص والنساء والروم وأساطير الماضي المحفوفة بالرعب عن أسلاف وماضي ودماء وبوابة يقصدها القادرين والُمدْقَعٌ الذي يبيع شيئا يملكه لأجل رشفة روم ونظرة على جسد غانية ملفوف في الأقمشة الحريرية المغوية.

فَتنة يصنعها قومًا كي يعصر قوط قومًا أخرون.

ليلة القمر الأحمر هي ليلته التي تظهر فيها سفينته على أطراف البحر المفتوح.

القرصان الأحمر كان لقْبه والكل يهَابه.


بحارة كنت أم حلاق رجال لابد أنك سمعت عنه، جوالاته كتبها البحر بنقاط دماء فرائسه الذي طاردهم عبر المحيط.

ينَحَرَ ويذبَح، يتجرع دماء أعدائه وطرائده، يستحْل نساؤهم، يقدمون له العذارى كقربان أمَان، فيفسد أجسادهن ثم يتجرع دماؤهن ويقذف بأجسادهن للبحر كي يبتلعهن.

رست سفينة "الكَراكن الأحمر" على مشارف الجزيرة، ضرب الهَلب عمق المحيط فتوقفت السفينة عائمة بين الأمواج المُتلاطم، الريُح مشَّتدة ولكنها ليسَت جبارة، الليل عاتِ، ظُلمته تنشر العتمة على أطراف الجزيرة، مخالبه تمتد لتعْلن أن النهار قد ولى، وأنه حان موعد مخلوقات الليل.

الفقراء الذي لا يملكون سوى سمكتين هي قوت اليوم وربما الغد لا ينسحبون إلى درياهم حيث نسائهم وأطفالهم ينتظرونهم ببطون فارغ وأفواه مفتوحة، بل ينسحبون إلى خيم الهاجريات يملؤون كفوفهن بكل ما أجاد به البحر مقابل نظرة أو رقصة أو ليلة وبضع قطرات من الروم المُهرب من جزر بعيدًا.

الليلة يقام مهرجان في الجزيرة، في خيم الهجر وبين بعضهم يتناوبون على منح التسلية والمتعة مقابل البنسات والأسماك والبيض.

خطى بقدمه فوق أرض الجزيرة، سترته السوداء الجلدية مفتوحة وقميصه منزوع، بشرته بيضاء شاحبة للغاية، وكأن جسده منحوت من البرودة، عيناه الزرقاء تلتمع في دُجنة الليل كناقوس يحوي بالخطر والحذر، يوزع نظراته هنا وهناك، يرتعبون منه فربما نظرة تكون خلاصهم.

بين أنامله زجاجة رُوم صغيرة، خليطه الخاص والسري من الروم ودماء العذارى.

مُرتاع الرجل حيث يوجد نساء وروْم وطعام.

تجول بين الخَيم وطاقمه يسير خلفه كتشريفة، عيناه كالصقر تحط فوق جمع فيرتعب؛ هو مَن يمنح نفوسهم الخوف بلا حساب.

يقدمون له السبايا، الجواري والكحول وأمولهم في سبيل رد بطشه عنهم.

في الخيم الكبير كان مجلسه، الغجريات أصحاب الشعر المجعد الطويل يعرض أمامه فيعرض عنهن؛ يرفع زجاجته ويتجرع نصفها ثم بظهر كفه يمسح فوق شفتيه.


يجلس بجانبه أشقر ضئيل الجسد خبيث النبرة، يبدو عليه الثراء، عائلته نبيلة وربما من حكَام الجزيرة، يقايضه:
-أسطول بحريًا يخص سُلطان إسبانيا.


يُماهيه بنظرة صامتة فيكمل الآخر في جشع:
-يحمل طن من الذهب، وإن من الفضة، وعلى متنه أسلحة حربية مصنوع مخصوص لملك إسبانيا.


عيناه لا تحيد عن الراقصات، يمرقهن باِزدراء زبون أشاح عن تاجر بضاعته أهلكها الاستهلاك والتداول، وفي لمحة أحاد عيناه لمُحدثه المُخنث:
-هل يعلم أباك بأنك تسرب إخباريات السفن الحربية للقراصنة؟.



يرفع الركيكَ زجاجة مؤطر بالذهب، هدية والده في عامه السادس عشر، حيث كل رُجل يتمه يُمنحه زجاجة كحول مذهبة الإطار تحمل شعار العائلة، رشف منها قطرات، وعيناه تهرب مع هجرية حمراء الشعر:
-أريد ربع الذهب والفضة، ويمكنك الاحتفاظ بالأسلحة وولدي لن يعلم شيئا.


تقرع طبول عالية، تصعد غجرية عجوز ترتدي ثوب مزركشة بالألوان، فوق رأسها وشاح طويلة وتيجان من النحاس تتدلي من رأسها، في عنقها سلاسل ذهبية، حافية القدمين، متغضنة البشرة، بجانبها رجل عاري الصدري يقوم بحركات تمثيلية، صوته غليظ لكنه يطوعه ليكون رخيم.
-اللية قمرها أحمر قرمزي، وقرصانها أحمر، وسماءها ينذرها الدماء.


تهمهم الغجرية بينما يبدأ الرجل القصة:
-في زمن سحيق حيث الزمن لم يبدأ بعد، شقيقين تفرق أحدهم فوق الأرض والآخر في عمق البحر.


تقترب الغجرية منه، رغم أن لا أحد يفعلها، تضع أناملها فوق الأرضية، عينيها السوداء الواسعة تتشابك مع عينيه الزرقاء اللامعة.


تقبض بين كفيها على رمال، ثم يتسربون من بين أناملها:
-من جزيرة قَدمت وإليها تعود، فوق ترابها النهاية.


يزعق الراوي الغير عليم بباقي قصته للحضور:
-تزوج صاحب الحظ الذي بقي فوق الأرض من أمير، أنجب منها وعَمَر جزير.


تواصل الغجرية وأصابعها في الرمال، وكأنها تستقدم منها الطَلع، تكشف لها المستقبل:
-أنت شيطان نفسك، فطرتكَ الشَّر، وقلبك حجر صوان.



يدور الراوي ويمتثل لدور كائن ضعيف باكي وحزين:
-أمَا من كان نصيبه في عمق المحيط، من شيد مدينة كاملة وحكم البحر بأمواجه وأسماكه وكائناته، لم يعيره أحد، فلا أحد يرى إلا ما فوق الأرض، وفي ليلة من ليالي وحدته، يناجي عُزلته رآها تتهادى على الرمال.


تقبض الهجرية على الرمال، تقترب من وجه وترسم فوق الرمال بين قدمه:
-حورية قادمة من زمن آخر، قذفها البحر علَّ الحجر يلين، تتكشف الحقيقة على كفها وتترك بذرتك في أحشائها.


يدور الراوي بين جموع السكارى الذين لا يبصرون سوى جسد المهتزة أمامهم فوق طبول القرع، تميل فتلوح أعناقهم، تعتدل فيستقام ظهرهم:
-سقط في غرامها، اختارها، أرادها وطالبها، ولأن بني آدم جنس طَماع، لا يكتفي ولا يرتوي، فطَمع الشقيق فيها، أخذها لنفسه في ليلة قمرية فوق فراشه والشرفة على مصراعيها لزُبد البحر الثائر.


يبصر الصورة المشوشة التي رسمتها المخبولة بين قدميه، صورة لفتاة شعرها قصير وهذا كلَّ ما يظهر منها:
-سوف تعرف حقيقتك ولا تعرف حقيقتها، سوف تُلين الصخر لأجلها أو هكذا تظن حتى يتكشف لها سواد قلبك وشر فطَرتك.


يزداد قرع الطبول بشكل، والراوي الهجري يلهث وينفث النيران من فاه:
-اشتعلت الغيرة، فحضر الانتقام ودارت الحرب بين البر والبحر، فتآكلت الجزيرة وُحرق شعبها أجمعين، أغرق الأميرة في عُمقه، ومن يومها صار البحر يثور في كل عام لذكرى موتها، وينحصر في ذكرى لقائها؛ يجود بالعطايا حين اللقاء ويبخل مزمجرًا حين الموت.


تحرك الغجرية الرمال يسرًا ويمينًا، سلاسلها تصدر رنينً كأنها نذكر إنذار:
-البحر سُلطانك وعرشك وإرثكِ ومثواكِ.


سار الغجري بطلبته ذات الحلقات النحاسية مقلوبة، يمنحوه العملة لأجل الراقصة والجسد الفاتن المغوي المتعري.

قبضت الهجرية العجوز فوق حفنة الرمال التي رسمت فوقها الوجه، وعينيها تحولت للبيض وتلبسها صوت عميقًا غامضًا هامسًا:
-أيام قاحَلة وعاصفة جَادبة وسواد ينثر ظلاله فوق أرض الجزيرة؛ إنها الإشارة الأول للظلام.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي