الاِستهْلال الأول

الاِستهْلال الأول


بعض العلماء أقروا نظرية أن الزمن قابل للطي، وأن كل ما حَدث ويحدث وما سوف يحدث هو يحدث في زمانه.


القرن الثامن عشر

1731

جزيرة المياه المظلمة


التسلق إلى غرفة الحَاكم لا يحتاج سوى عاهرة، أمَا التسلل إلى مخدعه يحتاج إلى امرأة.


كانت الليلة هي منتصف الشهر الميلادي الخامس في العام، وهي الليلة الأولى من ضمن ثلاثة يقضيهما الحاكم في هذه الجزيرة على الأخص، ورغم أن أخبار اندلاع الثورات والحروب يتنشر كهسيس نيران بين الجميع إلا إنه لا يتخلى عن عاداته في المجيء كل شهر.

سُفن الأسطول الثلاث التي تحاوط السفينة التي آتي به الحاكم ترسو في ميناء الجزيرة، أعلامها ترفرف آثر الرياح، الأمواج تتلاطم في وداعة، على الرغم من برودة الطقس إلا إن اليوم كانت رياحه كانت رَهِيف.

وهذا يعني وفرة الصيد وغَدَقَ السوق بالأسماك، إلا أن وصول أسطول الحاكم الصغير كان عائق على الصيادون من المرور، فاعتمدا الرزق على أسراب الأسماك الصغيرة، فامتلأت السلال بأسماك الصَحْنَاة والبَلَم البري الصغير اليابس الجاف والذي رفض معظم البائعين شرائه، فكان هو طبق اليوم على موائد الصيادين.

أمَا المائدة التي وضعت أمام الحاكم كانت ممتلئة بأسماك الإسْقُمريّ الملكي الكبير والقريدس والكركند المسلوق في التوابل الذي لا يتناوله إلا عيلة قوم الجزيرة أو القراصنة الناهبين أرضها.

تراصت المائد بالأطباق وغادر الخَدم فور وضعها الغرفة التي يقطنها في كل إقامة وأنظارهم لا ترتفع عن مستوى الأرضية كما تقتضي الضوابط الذي يشددون عليها رؤساء الخدم في كل مرة.

بيت الضيافة لا يخص الحاكم ولكنه يخص عمدة الجزيرة، أحد بيوته الثلاث المتراص في أنحائها، يخصصه لزيارات الحاكم وحاشيته، والرتب العالية في الجيوش، أي جيوش فولاءه للمال والسلطة والقوة مهما كان العلم الذي ترفعه.

في هذه الغرفة يقابل المرأة التي يأتي كل شهر لأجلها، وكأن الله لم يخلق نساء في أنحاء البلاد غيرها، أو أنها وضعت تعويذة فوق قلب الحاكم ورمت بها في أعماق المحيط فابتلعها قرش مارًا يجوب به العالم ليعود به كل ثلاثة أشهر إليها.

وفي يومها يحضر الهجر لقلب الجزيرة من مكمنهم على الأطراف الجنوبية، حيث خيامهم المنصوبة في دوائر حول بعضها، يصلونها إلى القصر كعروس تقود إلى عريسها، يرقصون وينشدون الأغنيات ثم تأتي عجوزهم الساحرة كي تقرأ طالعه، وهو ما يحرص عليه في كل مرة أن يتم في غرفة مغلقة محاضة بالأبخرة
والتمتمات التي تمنع استراق أي شخص للسمع.

يتردد في أجزاء الجزيرة حكاية عن ساحرة نجت بالخديعة من "محاكمات السحر في سالم" حيث المذبحة التي قامت ماساتشوستس وقد أسفرت عن قتل عشرين من النساء في الكتب ومئات خارجها اتهامًا بممارسة السحر.

يقال هربت ساحرة حقيقية من المذبحة كما هربت بقية الساحرات وتركت النسوة البريئات المظلمات ليتلقوا العقاب بدلًا عنهن، من بينهن ساحرة آتت شمالًا واستقر بها الأمر في الجزيرة، استجدت الناس للطعاك والكسوة ولكن أحدًا لَمَ يمنحها حيث كانت أيام عجاف على الجزيرة والقرية الصغيرة.

حاولت العمل لكن هزلها لم يساعدها، وشَّدة قبحها جعلت الرجال ينفرون منها حين حاولت بيع جسدها لقاء المال، وعلى شفاه الموت تُركت فوق شط الجزيرة البعيد، بلت شفتيها بالماء المَالح وتمتمت بسحر تحفظه عن أجدادها وأوصوها أن تتناقله دون أن تسرده وتحمي سره لكن سكرات الموت أجبرتها، سحر أحيا كيانًا بحريًا قديمًا منحها الحياة والشباب والفَتنة.

امتهنت السحر على أرض الجزيرة، تلاعبت بالرجال وتحكمت في منح البحر، وتزوجت تاجر هجري لا يكبر ولا يرى الشمس.

قالت إنه سليل شيطاني، أحبته ابن ملك عابر وحولته خالدًا مثلها عن طريقة عضة أنياب في عنقه، وحينما برزت بطنها طعنته بخنجر خشبية في قلبه ودفنته في تابوت أمام بيتها، وسفر الزواج عن فتاة فيها تبصر القدر والطالع، وأنه في كل عقد ستكون في سلالتهن فتاة تبصر المستقبل وتعرف الماضي وتُعمي عن الحاضر.

يقال في جلسات النساء وثرثرة البحارة، وكلها أساطير مبنية للمجهول إلا من حدث هنا وحدث هناك، يتجاهلوه خشيًا من حقيقته.

ينفض الاحتفال الصغير عُقبها ويصعد الحاكم مع الفتاة إلى الغرفة، الفتاة التي هي نصفها هجرية ونصفها من أهل الجزيرة على الرغم من أن أمها لم تفصح عن نسبها، وتظل تردد أنه ماضي بعيد في زمن بعيد، وكأن كل شيء في الجزيرة له سر حتى الأسرار لها أسرارها.

بعد أن ساعدت الفتاة في تغير ثيابها الاحتفالية ووضعَتها في ثياب النوم غادرت الغرفة وهي تلمح ظل الحاكم يتطلع من خلال النافذة المفتوحة، ولم تكن تعرف أن تلك الشهادة سوف تكون السبب في مقتل الفتاة الجميلة.


***


تسَللت إلى مخدع الحاكم؛ اغتاله أو عود لجُحرك ولا تخرج منه إلا جثة هامدة.

أصوات الصراخ والبكاء المتعالية أيقظت شعب الجزيرة، خرج الرجال بمِصْباحٌ غازي أو شموع ينظرون لبعضهم على أبواب البيوت بينما النسوة على مقربة في الداخل جانب النوافذ تحاول استشاف ما حدث وسبب العويل.

اقترب رُجل يرتدي سروال قمشًا بنيًا وقميص ذو ياقة مزركشة مفتوحة وسترة زرقاء منحلة الأزرار، وحول عنقه وشاح مربوط وفوق رأسه قبعة دائرية طويلة، نصف مخمور من بوابة بيت الملازم الذي إضاءة مصباحه الغازي وكان على وشك فتح بابه ليعرف ما الذي يحدث.

حينما لمحه صاح به فهرول نصف هرولة قدر ما سمح له بها وعيه المسلوب من كؤوس الروم والنبيذ فضلة زيارة الحاكم، هتف بها لعلمه بشخصه:
-ألا تعرف ما سبب هذا الصراخ؟.


مسح النصف سكير فاه بباطن يده، واقترب من البوابة دون أن يعبرها خشية وليس احترامًا:

-سمعت أن هناك قتيل في بيت العمدة الذي يستضيف فيه الحاكم.
-ماذا؟.


صرخ بها في هلع، عاد لداخل بيته وركض للغرفة، تخلص من ثياب النوم وارتدت أخرى صالحة للتجول، ثم أمر امرأته وابنيه ألا يتحركان من البيت.

مر إلى البيت الذي يجاوره وهو بيت والد زوجته الذي هو قائد الشرطة، ثم ذهبا الاثنين معًا لبيت العمدة.


كان هناك بضع رجال يلتفون حول البيت القادم منه الصراخ الذي لم يتوقف، بضع من الخدم يقفون متخشبين داخل البوابة لا يجرؤ على الاقتراب أو الخروج.

أزاحهم الرُجل الأصغر ليعبر الرجل الأكبر حيث البوابة، يجذب الباب الحديدي للداخل ويعبر صارخًا في الخدم:
-ماذا حدث؟.


يشيرون جمعيًا نحو الشرفة العُلوية حيث الغرفة التي ينزل فيها الحاكم، ترتع عينيهم للأعلى ويرونه مُعلقُا فوق حائط الشرطة القرميدي وعنقه منحور.

الذعر يسكن عيونهم ويركضون للداخل مع موجة الذعر التي بدت مفهومة.

في الداخل الخدم الذين لم يخرجون يتوقفون أسفل الدرج، يصعدون أمامهم ويقتحمون غرفة الحاكم السابق الآن، فتبصر عينيهم مائدة الطعام والشراب، الفراش ذو الأغطية الحريرية والستارة المنسدلة فوقه، الشرفة المفتوحة وأصوات الصراخ.

وفي رَكن الغرفة القصي كانت الفتاة ترتدي ثوب نوم أبيض مُزخرف وقصير للغاية، يظهر مفاتنها جمعيها، وسلاسلها الكثير كعادة بنات الهَجر تجلس فوق الأرضية بعين متحجرة مذعورة تنظر خارج الشرفة ناحية المبعد القديم المُطل على البحر الذي تطل عليه الشرفة.

تنظر لبعضهم وعلمَا ما الذي سوف ينقذ الأمور بغض النظر عن القانون والعدالة والعدل.


***


مقصلة الإعدام لا تخطأ ولكن محاكمات البشر ظالمة، حتى أكثرها عدلًا.

أسبوع كامل والجزيرة في حالة من الفزع واللغو عن الحدث، فزع حدث اغتيال الحاكم أو هذا ما أطلقوه عليه، ولغو الحديث الجانبي عن الأساطير المبنية فوقها أعشاش الجزيرة.

عن الكيانات التي تحيا بينهم، المخلوقات الخالدة وغير البشرية، الوحوش الذي كان يرويها أسلافهم في القصص، والتي هي السبب في كل الأحداث السوداء التي مرت على أرض الجزيرة.

أخرهم موت الحاكم المهووس بفتاة في عمر التاسعة عشر منذُ سنوات، لم تكبر ولم يُمل.

قالوا عنها ساحرة مثل أمها، تستدعي الشيطان وتقدم القرابين من الرجال، وكان القربان الحاكم المنحور فوق شرفة غرفة الموبقات بعد أن أُجهضت ثلاثة أطفال.

همهمة أخرى عن سر زيارات الحاكم لم تكن الفتاة، وأنه كان يأخذ كذريعة ليعود إلى الجزيرة، يسمع مستقبله ويعثر على ساحرة الهجر لتصنع له تعويذة خلود تبقيه أبد الأبدين وتقييه شر أعدائه حيث الفرنسيون يتأهبون للحرب على المستعمرات.

وأن الحاكم لم يلمس الفتاة، وأن ما حدث هو اغتيال دبره قوات العدو التي استطاعت دخول الجزيرة لتغتال الحاكم في غرفة نومه بمساعدة الفتاة.

وهناك من قال إن المعبد في الجزء الغربي من الجزيرة، المعبد الباقي من حضارة قديمة وسط أعمدة أمام البحر كان به ضوء يخبو ويعلو حتى آتى الفجر، وأن موت الحاكم له علاقة بممارسات دينية تحدث هناك.

الكثير من اللغو الذي حول الخبز المفزع لسيرة تلكوها النسوة والرجال جلساتهم، وكان هذا ما يريده الشريف والملازم زوج ابنته، أن تتماهى القصة في لغو الحديث.

وفي صباح اليوم الثامن ظهرت عرافة الهجر العجوز بثوبها المزركش بالألوان، ملفوف حول خصرها ملحفة من القماش الوردية حول الجزء السفلي من الثوب، ويتدلى من عنقها الكثير من السلاسل والدلايات ذات الأشكال الغربية، شعرها الرمادي الطويل فوقها طرحة حريرية مربوطة للخلف فوقها عُقد من لؤلؤ البحر الكاذب.

طالبت التحدث للشريف لكنه لم يكن موجود، فأدخلوها لمكتبه، الذي يجلس فيه بحلتٌّه العسكرية الزرقاء وحذائه عالي الرقبة ذو السن المَّدبب الذي يضرب به المٌتبجحين والمخمورين والسارقين، قبعته المستطيلة فوق رأسه الأشقر.


اقتربت العجوز خطوة وتوقفت خشية:
-إن الفتاة لم تقتل الحاكم سيد والتر.


نهض عن مقعده وشملها بنظرة مُستخفة ثم أمرها حاسمًا:
-عودة إلى خيمتكِ مع قومكِ ميلينا.


كانت تدركما هي مقدمة على فعله، لكنها لم تستطع ترك الفتاة تقتل لأجلها ولأجل أمها، ولأجل الظلم الذي طال قومها منذ الأزل.

مجموعة البشر الذي لا تملك جنسية محددة أو أرض تلجأ لها، عابرو السبيل في كل بقاع الأرض، الذين ترميهم السفن من جزيرة لأخرى، ومن مدينة لغيرها، يقدمون الترفيه لأهلها ويبيعون المتعة، يعرضون خدماتهم ونساؤهم وعضلات رجالهم، فيعاملونهم على أنهم جماعة الخارجين على القانون.

يتحملون الجرائم التي تعجز الشرطة عن إيجاد مرتكبيها، ولا يحاولون حتى فدائمًا الهجر هم الفاعلون، وهم لا يتحملون بطش أيًا ما كان فيقبلون بالظلم ويتغنون به لأجل السماح بالأرض.
-أنا أكثر مَمنْ يعرف الحاكم، كان يأتي كل شهر هنا لأجل شيئا آخر غير الفتاة، كان يأتي لأجل تلبية طقوسه حتى ينضم للجماعة.

ضرب المكتب بقبضته، أدمها لكنه لم يلتفت لها، اندفع ناحيتها مُهسهسًا:
-أي جماعة ميلينا؟ أي جماعة؟ لا يوجد على هذه الجزيرة جماعات تفعل طقوس، أنها جزيرة متدينة وبسيطة.

يهز رأسه كأنه يلقنها الكلمات، تتقلص العجوز في حضرته أكثر فأكثر:
-والسبب الوحيد لتردد الحاكم عليها هو هذه الفتاة الفاتنة الذي كان مهوسًا بها، واكتشفنا أنها تعمل مع المستعمرين للتخطيط لاغتياله والاستيلاء على البلاد، وقد شاهدت الخادمة أنها رأتها وهي ترسل برسالة لشريكها وتدفع الحاكم ليقف في الشرفة، ولهذا سوف تلقي لمحاكمة عادلة في المدينة في حضوري أنا والشريف والعمدة.


مَال ناحية وجهها وهسهسته فحيحها يتردد صداه في روحها:
-هذا ما حدث، هذا ما يُسجل في وثائق التاريخ أنه حدث.

ابتعلت أنفاسها، وانسحبت الدماء من عروقها حتى ابيضت:
-أنت تعلم.

بسمة صغيرة خبيثة تشكَّلت على جانب فاه، مسحها سريعًا وهو يميل ناحيتها هامسًا:
-أنتِ تعيشين في خيمة مع ابنتكِ الصغيرة، أنها في العشرين صحيح؟.


بؤبؤ عينيها الرماديتين اتسعتا وسط البياض الذي بدأ في أن يغشي عليها، تعلم مقصده ولا يخبئه، الخوف هو السلطة الأكثر سيطرة على الضعفاء، المهانون بلا أرض، بلا وطن يعترف بهم ولا حامي ينابوا عنهم.


مَال ناحيتها في تهديد واضح، بطشه يفوق بطش والده بالقانون، أهل الجزيرة يهابونه أكثر مما يهابون الشريف لأنه أكثر بطشًا، الوقوف أمامه هلاك بيَن، لذلك يتحاشى الجميع غضبته، يسيرون في ظله، يمجدونه في العلن، ويعلنونه في الخفاء.
-لا تريدين أن يحدث شيئا سيئ لها ولكِ، كما لا تريدين إفساد زواجها من الابن الأصغر لزعيمكم الهجري، أو تُكشف الأسرار المظلمة والقذرة عنها.. لا تريدين ذلك أليس كذلك؟.


خنوع، ذل وربما خوف فقط، خوف فطري من بطش أقوى، أخفضت بصرها وحفظت سر الحاكم في صدرها، همهمت:
-بلي، لا أريد ذلك.


ارتفع حاجبه في إشارة لها مُتابعًا هسيسه:
-عودي إلى قومكِ وأخبريهم أنكِ لا تعرفين شيئا، أنتم قوامكم الخداع والتلاعب، محتالون في أثواب راقصة ترفهون عن أهل الجزيرة وحكمائها، خذي العطايا والبنسات من النسوة الفقيرات ومنيهم بحلول عجز أزواجهم بسحركِ الخادع، عودي وقولي إن كل ما تعرفيه أن الفتاة وأمها تلقوا المال لمساعدة الأعداء في قتل الحاكم ولا شيئا آخر.

حركت رأسها ببطء قابلة، عينيها تغوصان في نفسها وتسقط سرًا فوق زكيبة أسرارها التي سوف تحملها معها لقبرها، ومن خلفها وقف ينظر مختالًا لخروجها.

قبل سنوات حينما كانت شابة وحطت قدميها مع قومها هذه الجزيرة وقد علمَت أن بها أهوال لَمَ تراها عين، أن تحوي أسرارًا في كل أركانها، ولكنها أبدًا لم يصل عقلها مَا عرفته، وما يجب أن تأخذه معها لقبرها.

***


الليلة التي تسبق القمر الأحمر هي ليلة قرابين الإلهة.

في جوف ليل الجزيرة والمشاعل تنير السماء كأنه ظهرًا حارقًا، قاد الشريف والملازم الفتاة مسلوب الإرادة في ثوب خادمات أزرق وغطاء رأسها تربطه أسفل ذقنها إلى مثواها الأخير.

قادوها في موكب صامتة، ملاك العدل فيه كُسر وجرفه البحر لأعماقه، ومحاكمته أعادت لبضع كبار الجزيرة الذي تجاوز أعمارهم الثمانين ذكريات محاكمات سالم حيث حضروها قبل أن تصبح أرض مدينة سالم ملعونة، فيتركون ماساتشوستس ويرحلون عنها إلى أبعد نقطة منها.

صراخات أمها تقطع أذن النسوة وتخدش قلوب الرجال، وكلاهما مُكبلين وقدر صدر القرار وخُتم عليها ختام القاضي، وتلا القسيس صلوته وما عاد هناك شيئا للفعل.

يراقب الجميع صعود الفتاة على متن السفينة المتجه إلى المدينة حيث مثواها فوق مقصلة الإعدام، وقبل الصعود فوق السفينة صرخت الأم من قعر حنجرتها وارتمت أمام أقدامهم:
-ابنتي بريئة، لم تفعلها أقسم لك، ابنتي لم تفعلها وحاكمكم لم يأتي لأجلها.


قَلب الشريف عيناه وأشار لعسكريه أن ينتشلها من أمامهم:
-أصمتِ أيتها النِخاسة، فقد قبضتما ثمن قتله في مخدعه والآن تولوين على ابنتكِ العاهرة، أبعدوها من هنا.

جذبها عسكري ضخم الجسد ذو بطن عالية فوق الأرضية ليتقدموا نحو السفينة، والفتاة صامتة جامدة، وكأن روحها لم تعد فيها، تسمع صراخات أمها ولا تبالي، كأن شيئا أخذ روحها ليلة قتل الحاكم.

أوضعها في قمرة السفينة وأغلقوا عليها، ووقف ينظرون لأرض الجزيرة تبتعد وشعبها يتضاءل حتى اختفت السفينة مع صرخات الأم، وعم الجزيرة ظلام وصَمَت مطبق دام ثلاثة أيام.


***

ساحرة أم امرأة بريئة؟.

لا يهم؛ فقد كانت امرأة أمام عده رجال.


جزيرة المياه المظلمة

ليلة إحياء محاكمات ساحرات سَالم

ليلة قمرية


تردد قرع طبول في ليل الجزيرة، بدأ خفيض ثم تعالي حتى صم آذان الجميع وأيقظهم مفزوعين للمرة الثانية في ذات الشهر.

أصوات غريبة تردد من جوف الأرض وتصل لكل بيت في الجزيرة، عاصفة شديدة تهَب وتتجمع فوق المياه، وقرع لا يتوقفون وكأن الأرض تتشقق عائدة للبحر.

قالوا قديمًا أن الجزيرة كانت أسفل المياه، يحكمها كيان بحري ويتخذها عرشه قبل أن يغضب بوسيدون عليه ويقلب البحر فتصعد الجزيرة فوق المياه ويكبل هو عُقب معركة في أعمق أعماق المحيط ينتظره لحظة إيقاظه.

أساطير تقوم عليها وبه الجزيرة وأعيادها، ولكن مع كل حدث مأساوي تردد تلك الشائعات التي كانت تحكيها الجدات بأن هذا غضبة حاكم الجزيرة الأصلي.

خرج الرجال بمشاعلهم نحو ساحة الجزيرة، والنسوة خلفهم في ثياب النوم، الأصوات تتعالي وقادمة من منطقة المبعد المحرم في الجزء الغربي.

نظرات وهمهمات وقرار مشتت بالذهاب، خطوة تقدم وثلاثة تتراجع حتى أصبحوا على مشارفه، وفي الأعلى كانت هي.

أمها صاحبة حكاية مذبحة سالم الهاربة، ترتدي ثوب يشبه ما ارتدته ابنتها قبل إعدامها، أزرق مغلقة وغطاء رأس مربوط عند ذقنها، عينيها تدل على أيام انعدام النوم، ونظرات الزائغة تصرخ بالجنون والنهاية، فالنهاية عرض جانبي للجنون.

كانت تقف فوق جذع شجرة ضخمة بالقرب من المبعد، تمتم بكلمات لاتينية لم يفهمها أحد، كلمات يتلقفها البحر وينشرها في كافة أنحاء الجزيرة.

-مارثا كوري.. دوروثي جوود.. ريبيكا نيرس.. ريتشال كلينتون.. جون هيل.. أبيفيل ويليامز.. سارة قوود.


تصرخ فيهم بجنون وهي تنطق أسماء سيدات لم يعرفن، أسماء سيدات كانوا ضحايا مذبحة سالم:
-للساحرات اللواتي اتهمن بأشياء لم يفعلنها، لمذبحة سالم التي تكرر في كل تاريخ.


رفعت أصبها تشير لأهل الجزيرة المتجمهرين أمامها:
-لقد صدقتم كما صدق رجال ونساء قرية سالم أن كل مصائبهم منسوبة إلى عمل الشيطان، صدقتم أن الشيطان حاضرًا وأن النساء عقدن صفقتهم معه، صدقتم أن ابنتي الجميلة قتلت الحاكم.


زعقت حد أن حنجرتها كأنها قطعت:
-ابنتي ماتت فوق مقصلة ظَالمة لأنكم صدقتم، لأنكم لم تفعلوا شيئا.


زعقت والجنون والحزن تملكا منها:
-أكرهكم يا أهل جزيرة الظُلمات، مياهكم مظلمة وقلوبكم أظلم وحكامكم أشد ظلمة.


أمسكت حلقة من الحبال الغليظة مُدلي من جذع قوي للشجرة، وضعت رأسها أمامها وعينيها كأنها تنظر لكل عين أمامها:
-للقوى الحاقدة، الخبيثة، للشيطان إذا كان هنا على الأرض؛ أوهب روحي لك وألعن أرض هذه الجزيرة للأبد.

وضع رأسها داخل الحلقة وتركت طرفها الآخر من بين يديها، وتدلى أمام أعينهم من جذع الشجرة العُلوي.


شهقات النساء وصراخهن، زعيق الرجال، والسماء التي بدأت تبرق كأن العاصفة لم تستطع أن تتحمل هول الحدث، وهذا ما جعل أقدامهم عاجزة عن الحركة.

راكضًا آتي الملازم ثم الشريف، هول الصدمة جعلهم يتوقفون للحظة نظر فيها لبعضهما ثم تحرك الملازم مع ضابط آخر ناحية الشجرة.

ولكن ضرب صاعقًا من البرق رأس المرأة فبرقت عينيها أو هيأ للجمع المرعوب ذلك آثر الفزع والهول الذي عايشته الجزيرة هذا الشهر.

تخشب الملازم والضابط، لم يقوى على الحراك كحال الجمع، حتى الصراخات توقفت، وبدا كأن ما أنذرت له روحها قبل صفقتها ولُعنت أرض الجزيرة للأبد.


***


جزيرة المياه المظلمة

1931

الزمن لا يتحرك، الزمن ثابت، من يتحرك هم البشر.


تحركت امرأة متشحة بالسواد، تخبئ رأسها أسفل رداء واسع تربطه حول عنقها، أبصرت المشهد وتأكدت من حدوثه، فاستدارت عائدة من الجهة الغربية نحو ساحة الجزيرة.

سارت في الساحة شبه الفارغة إلى حي صغير، مرت البيوت الثلاث الأولى وعرجت بجانب الرابع لبيت أصغر قليلًا في الداخل، استدارت حوله وعبرت من الباب الخلفي.

خلعت عنها الرداء الذي يخفي هيئتها وسارت عبر ممر ضيق طويل، ثم دلفت لغرفة مساحتها متوسطة، أستوى فوقها فراش صغير، طاولة في الجانب فوقها بقايا طعام وكوب نحاسي نصفه ممتلئ بالمياه، وفي الركن الأخر مكتب خشبي عليه مجموعة أرواق وقلم وعلبة صغيرة من الحبر الأسود الذي اشترته بمال شهر من العمل.

وضعت الرداء على الفراش واتجهت للمكتب، جلست خلفه وغمست القلم في عُلبة الحبر وبدأت في الكتابة.


أثناء انهمارها دلف عليها شاب يماثلها عمرًا تقريبًا، متأنق في حلَّة بنية وقميص مزركش، يتلاعب بقبعته وهو يتوقف عند الباب:
-حسنًا لقد انتهي كل شيء، أليس كذلك؟.


ضحكة ساخرة ناوشت ثغرها، ربما في زمن ما قد انتهى كل شيء، ولكن في زمن آخر هو لازال يبدأ، ولا تعرف كيف تشرح ذلك له، فهي لم تشرح له كيف هي خادمة وتستطيع الكتابة في زمن معظم الأميرات فيه لا تعرف الكتابة.
-هل نقلوا الجسد إلى المقبرة؟.


هز رأسه وتحرك شعره المجعد الأشقر مُعاكسًا عيناه الخضراء:
-أجل، بعد أن رفض القس فابيان تلاوة أي صلاة عليها، وأعلن أنها امرأة ملعونة مطرودة من رحمة الرب وقد وهبت روحها للشيطان.

اقترب بضع خطوات منها ومَال ناحية المكتب متسائلًا:
-ما الذي تكتبيه؟.

تمتمت مُنتهية من ملئ صفحة كاملة بخط صغير أنيق:
-رسالة.


نظرت للورقة وعينيها تلمع بشعور يخالطه الراحة:
-رسالة لي بعد سبعة عشر عامًا من الآن.


فتحت عُلبة نحاسية موضوعة على جانب المكتب، أخرجت ختم عليه رمز لم تفصح عنه لأي أحد، مسحته فوق حبر ذهبي ثم طبعته فوق الورقة.


سخر الشاب وهو يصفر:
-للنسخة الأكبر منكِ، سوف تكونين كبيرة للغاية.


شاركته البسَمة متمتمة بنبرة خفيضة بالكاد هي سمعتها:
-بل للنسخة الأصغر مني والتي لا تعلم ما هي على وشك خوضه.

في هذا العام أطلق القراصنة على الجزيرة، جزيرة الظُلمات وبقيت القصة كأسطورة ضمن أساطير الجزيرة التي لا يعرف أحد بدايتها، ولا حقيقها من لغوها.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي