الاِستهْلال الثالث

الاِستهْلال الثالث


قانون الزمن الثالث: آثار الأحداث في الزمن لا تُمحو، نعاني منها حتى إن ندركها أو نعرف مصدرها أو من أين تأتي.

القرن العشرون

1958

بوسطن

قبل ثلاثة سنوات كان هذا البيت هو معقر الهدوء والفن والعائلة الأمريكية المثالية والسعيدة.

فقط قبل ثلاث سنوات كان كل شيء مثالي.

وبعدها لا تعرف ما الذي حدث ليفعل بأسرتها الصغيرة وحياتها المثالية كل هذه الفوضى الغير مفهومة.

استيقظت في الثالثة صباحًا كعادة كل يوم على صراخ زوجها القادمة من مرسمه، صرخات طويلة غير منقطعة، صرخات كأنها آتية من الجَحِيم، تصل للحي بأكمله حتى أنه بعض الجيران قد أبلغوا الشرطة ظننًا منهم حدوث شيئا ما لأحد أفراد العائلة.

نهضت من الفراش بملامح بائسة تعسة، لفت المئزر حول نفسها وسارت بخطوات راكضة نحو المرسم في قبو البيت.

"ماري ستيوارد "

سيدة في الثانية والثلاثون، شابة شقراء جميلة، جسدها نحيف وعيونها زرقاء ناعسة وملامحها فاتنة.

زوجة منذ عشرة سنوات كاملة للرسام المشهور " ستيفن غليم" أو الذي كان مشهورًا قبل ثلاث سنوات.
لقائهما الأول كان في حفل تقيمها صديقة أمها في بيتها، وكان ضيف الحفل والمُقام على شرفه.

منذُ الوهلة الأولى جذبها وجذبته، كان شيئا ساحرًا وجرفًا من المشاعر، في هذه الليلة أدركت كما أدرك هو أنهما خُلقا لبعضهما، أنهما تؤام روح مفقودًا قد عثر تطابقه، ربما لوسامته وشدة ذكائه وعبقريته الفنية التي كانت تظهر في لوحاته الجميلة، التي لا تملك أمامها إلا التأمل لوقت طويل للغاية متعجبًا ومنبهرًا.

كانت لوحاته بها شيئا غريبًا، مزيج سحري من الألوان والتقاطعات التي تمثل لقطة أو حدث، يجد بها النقاد الفنيون الكثير من التحليل والعمق، حتى أن بعضًا من الكتاب قد أدمجها في روايات بوليسية وصنع منها أفلام نُوار ضخمة لاقت نجاحًا واسعًا.

وكتب فيها النقاد كتبًا عن دقة الألوان والخطوط والرسومات، وكتبًا ضخمة في تحليلها حتى أن مدرسة الفنون أصبحت تُدرس لوحاته في وقت قصير للغاية، الأحداث التي يختارها وينفذها ويقدمها في سلسلة ولوحات روحية ودينية وتاريخية، أساطيرية وقصصية حقيقية، من الميثولوجيات المتنوعة.

كانت شُهرته في أوجهها حينما تعرفت عليه، كان هو في السابعة والثلاثون وهي في الثانية والعشرون، ورغم فارق العمر الضخم سقطت في حبه، وانجرفت في مشاعرها نحوه، وانتشر بين أوساط عائلتها وأوساطه الفنية علاقتهما.

كانت "ماري" ابنه مهندس معماري مشهور وسيدة مجتمع مرموق، وكانت أوساطها العائلية غالبًا ما تلتقي فيها بالأطباء والمهندسون وأساتذة الجامعة والمحامون، وأبدًا لم تلتقي بأي فنانين إلا في حفلات صديقات أمها من النادي والجمعية التي كانت عضوة فيها نسبة لأمها.

جمعية أرستقراطية تضم سيدات المجتمع في بوسطن، ربات البيوت اللواتي لا يعملن، بعضهن لم يذهبن للجامعة والبعض الآخر ذهب ولكن الدراسة كانت بالنسبة إليهم مكملات مجتمعية ليس إلا.

وكانت "ماري" قد درست الأدب الروسي، درست روايات فيودور دوستويفسكي وليو تولستوى وأنطوان تشيخوف، إيفان تورغينيف ونيقولاي غوغول، لوبوف فيودوروفنا.

وتلك الدراسة لم تستفاد بها "ماري" في حياتها العملية أبدًا، فلا هي كانت تجيد الكتابة أو ترغبها، ولا كان هذا النوع الأدبي الذي تحب قرأته، لكنها اخترته لأنه في كلية البنات، وكان بين أوساطها حينها شيئا منطقيًا أن تتابع الفتاة تعليمها في جامعة البنات.

مَنْ كانت تدرس الطب أو الهندسة أو حتى الرياضيات والمحاسبة أو أيا ما كان خارج كليات البنات كان يشاع عنها أنها "مُسترجلة" وكان اللقب يلتصق بها لوقت طويل حتى تظل آخر بنات جيلها دون زواج.

وفي الأربعينيات كانت الفتيات حينما تتم العشرون تتسابق لأجل الزواج قبل بنات حيها أو جيلها بالكامل، لذا ألقاب كهذه مما يلقبها الرجال أو الفتيات اللواتي يغرن من نجاح أحدهن كانت آخر ما توده أي فتاة أن يلتصق بها.

حينما شاع خبر علاقتها بالرسام في الأوساط، حذرنها صديقاتها الفتيات منه، لأن أخباره النسائية كانت تملأ مجلات الفن وجنبات النادي، فكان محط ثرثرة الكثيرات هناك.

قيل عنه أنه عابث، زير نساء كالذي يمثله الممثلون في الأفلام الرومانسية، يتناقل بين النساء كمَنْ يقطف كل نهارًا وردة ثم يرميها في نهايته لأنه لم يضعها في مزهرية.

إن حياته خالية من المسئولية، وفيه جنون الفنون كما يدعوا الفنانين عن أنفسهم، يومًا هنا وعشرة لا يعلم عنه أحد شيئا، وبالطبع لا يصلح كزوج أبدًا، فقد حاولت أكثر نساء المجتمع فتنة ولم تنجحن في الظفر به لأكثر من بضعة ليالي.

ولكن ما جمع بين "ماري" و"ستيف" كان شيئا حقيقيًا للغاية، شيئا لم يقوى أي أحد على هدمه، حتى مع عدم موافقة أباها الكُلية على العلاقة، وتشكك أمها في نجاحها إلا أنها استطاعت إقناعهما باختيارها، وفي أقل ثلاثة أشهر أعلنوا الخطبة.

كان "ستيف" خسر عائلته قبل زمن طويل، منذ أن كان طفلًا في حريق لم يعد يذكر تفاصيله، ولم يكن يملك أي أقرباء أو عائلة، فقد كان متبنى من أسرة في نيويورك، كان موهوبًا في الرسم منذ أن كان طفلًا وحتى كبر والتحق بمدرسة الفنون الجميلة، ثم أغدق على العالم برسوماته التي جعلته ثريًا مشهورًا.

شهرين أخرين وتم إقامة حفل الزواج وانتقلًا يعيشان في بوسطن في بيت كبير في أكبر وأرقى أحياء بوسطن، وقتها شعرت "ماري" بما لم تشعر به طوال حياتها، كانت سعيدة بزواجها وحياتها وعائلتها التي بدأت تنشئها.

بعد سنة وشهرين رُزقت بطفل ثم بعد ثلاثة سنوات بطفل آخر، واكتملت حياتها تمامًا، ازدادت شهرة "أنطوان" الفنية، أغدق عليهما بالاهتمام المادي والمعنوي، وكانت حياتها هي الحياة التي تصورها هوليود عن الحياة الأمريكية المثالية.

حتى قبل ثلاث سنوات من الآن، وانقلبت الحياة الهادئة الجميلة لشيء لم تتصوره حتى في أعتى كوابيسها وأشدها ظُلمة.

ذات ليلة استيقظ "أنطوان" جانبها صارخًا، صرخات فزعة مخيفة، أفاقت البيت كله حتى الأطفال، كان وجهه باردًا بلا دماء، وعيناه زائغة ومرعوبة، وأخذ عشرة دقائق قبل أن يستطيع الحديث.

قال في يومها أنه أنتابه كابوس سيء للغاية لكنه لا يذكر تفاصيله تمامًا، في ليلتها لم تُلقى بالًا بالأمر، لكن منذُ حينها والكوابيس تكرر كل ليلة، الصرخات العالية والفزع واللهاث، حولت الليل الهادئة لشيء مزعج، حتى بات الأطفال أنفسهم لا يحبون الليل ويعجزون عن النوم وحدهم.

شهور طويلة والكوابيس لا تغادره حتى أن الكوابيس آثرت على فنه، فتحول لشيء مظلم كئيب ومخيف، شيء أصبح يجذب مجموعة أخرى من البشر الذي لم تراد لزوجها أن يكون مُلهمهم.

وقتها كان الحل في زيارة لطبيب نفسي، ربما هناك شيئا ما، ذكرى لا يستطيع كبتها أكثر من ذلك، أو حادث يرغب في أن يخرج.

ولكن شهادة ثلاثة أطباء أقرت أن عقل المريض خالي من الذكريات؛ المعني الحرفي أنه لا يملك ذكريات لحياته قبل التبني، لقد تبنته العائلة وهو في عمر العاشرة، أي يستطيع تذكر ما قبل ذلك ولكن لا يوجد، كافة الوسائل والطرق النفسية حتى الغير مثبتة وتبدو كخدعة سحرية كالتنويم المغناطيسي لم ينجح في استنباط أي ذكرى من عقله.

تحول "أنطوان" في السنة الثانية وأصبح شخص لا تستطيع التعرف عليه، لم يعد يتحدث معها أو مع الأولاد، دائمًا ما يجلس صامتًا وعيناه زائغة، لا تستقر فوق شيئا بعينه، وصراخاته تشق البيت في الليل، كل ليلة حتى ساعات الفجر.

أمَا لوحاته فقد تحولت تمامًا لفن مُظلمة، شديد الظلمة والغموض، يرسم أشياء مليئة بالدماء والرموز الغريبة، صور لكائنات تشبه الشياطين كما يصفهم في الكتب، لوحات لجرائم قتل وانتحار في عصر قديمة.

رسم سلسلة لوحات عن فتاة تُساق للإعدام، جزيرة ومعبد غريب، كهف مضاءة بالشموع، ووجه فتاة مطموس تصرخ.

وعشرة لوحات تمثل حريق، لا يظهر من النيران في اللوحة إلا وجوه صارخة تشبه المسوخ.

فكرت "ماري" أن ربما للأمر شيئا له علاقة بالحريقة التي قضت على عائلته في طفولته، ولكن مع عجز الأطباء حتى مع تلك المعلومة عن الولوج لعقله فقد أعلنوا إن حالته عقلية، لوثة نتيجة انغماسه
في الفن.

هلاوس سمعية وبصرية في شكل كوابيس ليلية، وكان العلاج الكيميائي هو الحل المتبقي، ولكنه قضى على أخر آثار الرجل الذي أحبت.

ابتعد عنه المنتجون والكتَّاب وحتى أصحاب المعرض، فنه الأسود لم تعد أي لجنة قابلة للموافقة عليه، ووسمه في الصحافة بإنه الفنان الذي فقد عقله.

أصبح البيت مكان غير صالح للأولاد، أرسلتهم لعائلتها للاهتمام بهم، وبقيت هي وخادمة مع زوجها تحاول اكتشاف طريقة لمساعدته، ولكن من طبيب لأخر ولا شيء يختلف.

فقدت الأمل، ولم تستطع وحدها أخذ قرار وضعه في مشفى نفسي حيث يصبح منسيًا للأبد، لكن الحياة بعيدًا عن أطفالها مستحيلة، كما أن الاعتناء به ووجوده في نفس البيت أصبح كذلك، حتى الليلة التي تسبق هذه الليلة بأربعة أيام.

جاءها تليفون من طبيب نفسي هو رئيس معهد نفسي خاص في الجزيرة التابعة لهذه المدينة، أخبرها أنه سمع بحالة زوجها، وأن المعهد الذي هو صاحبه ورئيسه متخصص في هذه النوعية من الحالات المستعصية وإنه بإمكانه مساعدته.

قال إنه درس الطب النفسي في ألمانيا، المعقر للطب النفسي وأن أبحاثه وطرقه العلاجية جديدة، وإنه حتى إن عجز عن علاجه، فالمعهد هو المكان المناسب كي لا تزداد حالته سوءًا.

حذرها من انحدار حالته لدرجة أنه يمكنه قتل نفسه أو قتلها، وأن المرض النفسي لا يذهب من تلقاء نفسه إن كانت تأمل في ذلك.

هل كانت؟

ربما كانت تأمل أن تستيقظ ذات يوم وتجده في فراشه بجانبها، وأن حياتها كما كانت في السابق.

لذلك لم تمنحه إجابة، جُبنت عن القرار ولديها كامل الحق في ذلك، ولكن ما حدث تليًا كان كافيًا ليغير رأيها.

في الليلة التالية لهذه المهاتفة حاول "أنطوان" شنق نفسه بين لوحاته السوداء تلك، وقد لحقته بمساعدة الجيران الذين نظروا بنظرات تحثها على التصرف، فهذا الحي الهادئ لم يعد يحتمل جنون زوجها.

والليلة التالية أوقفته عن حرق المنزل بأعجوبة، وهذه الليلة هي تتقدم من الغرفة خائفة، غرفة المرسم التي شهدت نجاحاته وضحكاته مع الصبية وتعليمهم الرسم، كما شهدت لوحاته المُظلمة التي غطت جدرانها وصراخاته وبكائها الذي اختلط ببكائه.

وقفت مع الخادمة التي بقيت معها لأجل عشرتها الطويل بعائلتها قبل أن تنتقل معها إلى بوسطن، تبادلا النظرات قبل أن يفتحوا الباب ويتقدمان.

صرخاته توقفت، كان يقف في منتصف الغرفة بين لوحاته المرعبة، يرسم لوحة جديد بلون أحمر قاني هو دمائه بعد قطع معصمه الأيسر بينما يرسم بالفرشاة المغموسة في دمائه باليمني.

ساعدتها الخادمة على إيقافه، ثم عالجته بالمنوم الذي رشحه الطبيب حينما تنتابه الحالة، ونظرت للخادمة ثم لليل الواقع في الخارج وعملت أن الليلة هي الأخيرة لها لترى هذا المنظر الذي شاهدته كل يوم لمدة عشرة سنوات كاملة من حياتها.
***

القرن العشرون

1959

مدينة بريدج بورت

جزيرة المياه المُظلمة

معهد ريفرسايد للطب النفسي


الزمن لا يمحى شيئا منه، بل يبقي وتبقي آثاره دون محو.

خمسة أشهر كاملة انقضت بعيدًا ليس فقط عن "أنطوان" والبيت التي عاشت فيه معه لعشرة سنوات، بل عن بوسطن بأكملها، عادت تعيش مع عائلتها في سياتل.

في بيت عائلتها عاد لها وللأولاد الشعور بالنوم والأمان أثناء الليل من جديد، أخذ منهم ثلاثتهم الأمر شهرًا لكنهم تأقلموا على الأمان والراحة والاعتيادية.

تم نقل الأولاد لمدرسة ابتدائية هناك، وتعرفا بسرعة على أصدقاء جدد من المدرسة والنادي والحي، وانغمسا في الحياة الاجتماعية التي حرمها عليهم مرض أبوهم السنوات السابقة.

يسألان عليه على فترات متباعدة، يتأكدان فقط من أنه لازال حي، ثم لا يحاولان فتح أكثر من ذلك، كي تطمئن عليهم أكثر، ذهبت بهم لأخصائي نفسي للأطفال، وأخبرها أن ليس هناك ما تقلق ما شأنه، الأطفال أكثر سرعة على التأقلم خصوصًا وأنها نقلتهم فور بدأ زيادة مرض والدهم، والآن هم فقط سعداء أكثر بالحياة الطبيعية.

أمَا هي فالحياة لم تكن سهلة مثلهما، لم تستطع الانغماس في الحياة الاجتماعية من جديد رغم امتنانها لوجود عائلتها ودعمهما والأمان في بيتهم.

اكتفت بالمكالمات الهاتفية للاطمئنان على زوجها، والطبيب كان صريح بشكل فج أحيانا، يخبرها في كل مرة يفشل علاجه وتدهور حالته النفسية الذي يسيطر عليه، لكنه يتركه بلا روح، فالمرض الذي لم يكتشفه بعد يلتهم عقله وروحه.

بعد خمسة أشهر قررت زيارته، وهذه الزيارة حثتها أمها عليها كي تعرف ما الذي ينتظرها، لأنها لازلت شابة، وهذه المعاناة التي صاحبتها ثلاثة سنوات ونصف أُثبتت أنها زوجة مخلصة ولكنها لن تنذر حياتها لجنون زوجها، خاصًا مع ظهور طيارًا سليل عائلة صديقة في الصورة.

كانت لا تزال تحب "أنطوان" ولكن الذي كان عليه، وليس ما كانت تحيا معه لثلاثة سنوات ونصف، ولذلك قررت مواجهة واقعها معه.

دلفت للمعهد المُهيب وتركت اسمها، كان يوجد طبيب شاب في انتظارها، اصطحابها عبر المعهد الواسع لجناح عرفه بأنه للحالات الخطرة، مكانه الدور الأرضي أو قبو المعهد كما أسماه.

شرح لها أنه للحالات كثير الصراخ والتهشيم، أولًا لأنه مُجهز بالكامل بأشياء لا يمكنها إيذاء نفسها بها، وثانيًا لأجل الحالات الأخرى كي لا يسبب نوع من الفوضى.

قادها من البوابة لحديقة أمامية في الغالب تخص الأطباء غير الحديقة التي تخص المرضى، ثم عبر ممر طول ممتلئ بالمكاتب إلى مصعد.

حينما فتح المصعد شعرت أنها في سجن، هناك رجلان يجلسان خلف نافذة يلتقطان بطاقات تعريف الشخصيات والأسماء، وسارت مع الطبيب بين عنابر ممتلئ بالصراخ والأعين الزائغة حتى وصلت إلى العنبر الأخير.

ومن الزجاج العاكس بصرت "أنطوان" كان هزيل، لحيته طويلة وعيناه خامدة بلا روح، على حائط غرفته عشرات اللوحات على ورق رسم صغير، من نفس طابع اللوحات الذي كان يرسمها في السنوات الثلاث الأخيرة.

فتح باب الغرفة ووقفت عند المدخل تبصره، نادته:
-أنطوان.

رفع نظره نحوها بنظراته الخاوية، أشرت لنفسها في الثوب الأسود التي اخترته وكأنها شعرت بأن اليوم سوف تنعي روح زوجها القديمة للأبد:
-هذه أنا؟ ماري زوجتك.


لم يبد كأنه سمعها أو أنه حتى يراها، عاد للوحة التي يرسمها، كان فيها وجه رفيع ذو نظارة طبية دائرية يرتدي ثياب تبدو عائدة للقرن الثامن عشر أو نحو ذلك.
-إنه ليس هنا.

استدار على الصوت الرفيع، انسحب الطبيب الشاب الذي صاحبها واقترب الأخر الذي ناهز عمره الخمسون، حليق الوجه وشعره خفيف، وفي عيناه نظرة كاشفة للإنسان أمامه.

كان الطبيب الذي حادثها، والذي وضعت "أنطوان" تحت رعايته في المعهد الخاص به، حيته برأسها كما يقتضي الاتيكيت وتركته يكمل حديثه العملي:
-عقله ليس هنا؛ لقد أكلت هذه الرسومات عقله.

عاد تنظر له، يرسم ببطء وعيناه مجوفة وفارغة، همهمت باستفهام:
-ما هذه الرسومات؟.

نبرته باردة عملية ومباشرة:
-لا يمكن لأحد أن يعرف لأنه هو نفسه لا يعرف، ربما صور من كتب قرأها أو ناتج عن كوابيسه الليلة.

ابتلعت أنفاسها وأغمضت عينيها عن منظر الرجل الذي أمامها:
-وهل هذه الكوابيس لها علاقة بحادثة الحريقة الذي قضى على عائلته ونجا هو منه؟.

مط شفتاه بحركة تلقائية، ويده في كلا جيب مئزره الطبي:
-رُبما، لا يستطيع أحد الجزم بذلك فأي ذكريات قبل سن العاشرة لا وجود لها في عقله، لازال العقل يحمل أثارها النفسية الحادة لكن هل نفسها ذهبت.

فتحت عينيها تبصره للمرة الأخيرة:
-كيف يمكن للعقل أن يحتفظ بأثار شيء قد تخلص منه؟.

شيء من السخرية غزا ملامحه الرفيعة الحادة والغير مُريحة للعين:
-العقل هو أكبر لغز كوني لازلنا لم نكتشف كل شيء عنه بعد.

كانت تعلم إجابة السؤال التالي لكنها لفظته في كل الأحوال وهي تستدير:
-هل يوجد أمل في عودته كما كان من قبل؟.

قطب جبينه عوضًا عن أن يرسم فوق ملامحه نظرة ساخرة، كيف يظن البشر أن الإنسان يمكن أن يعود كما كان قبل أن يحدث شيئا له، لا شيء يعود كما كان، لا شيء أبدًا يتخلص من آثار ما حدث له:
-لا شيء يعود كما كان وخاصًا في حالة كحالة زوجكِ سيدتي.

مع إنغلاق أجفانها واصل:
-أنا أعطيه مجموعة طبيبة من المنوم والمهدأ كي أخمده هكذا وأجعله في أكثر حالاته تعقل، كي لا يؤذي نفسه لأنه أصبح لديه ميول شديدة للأذية نفسه والخلاص من عذابه.

أشارت للرجل الهامد خلها، الذي تخلو عيناه من أي روح:
-هذا جسد دون روح.

مط شفتاه للمرة الثانية:
-أستطيع أن أحدثكِ عن عقله سيدتي؛ وعقله اختفى، فقط إضاءات قصيرة لهذه الرسومات المُظلمة، ولا شيئا آخر عداها.

كانت الإجابة واضحة تمامًا، ليسَت في حاجة لأي توضيح آخر، حياتها المثالية أصبحت كانت، ولت بغير عودة، والرُجل الذي أحبته وتزوجته لم يعد له وجود أبدًا.

شكرت الطبيب بعملية تشبه عمليته، ولكن خاصتها آتت من حالة الحداد واِرتداء ثوب الحزن على زوجها وشريكها:
-أشكرك أيها الطبيب ناثانيل، سوف أظل أطمئن على حالته وتستطيع اِطلاعي بالمستجدات أو حالات الطوارئ على رقم هاتف والداي.

مد يده يلمس يدها الموضوع في قفاز أسود قطيف، ثم سحبها مع هزة رأس ونظرة لا تكشف شيئا عما يعتمل في داخل صاحبها:
-على الرحب سيدة ستيوارد.

بدا كأنه متعمد أن يناديها باسمها قبل الزواج، كأنه يريد أن يؤكد ما فهمته، إنه زواجها انتهى ليس الآن ولكن قبل ثلاث سنوات، إن الرجل الذي تزوجت ذهب بلا عودة.

استدارت تغادر المعهد بعد أن صاحبها الطبيب "ناثانيل" إلى المصعد ثم تركها في الطابق العلوي واتجه لمكتبه، سارت ممر غرف الأطباء الذي يوصل إلى الباب الرئيسي للمعهد، سارعت خطواتها حتى خرجت وضربتها شمس الثالثة عصرًا مرة أخرة، بعد أن شعرت وأنها سُجنت في هذا القبو لسنوات تراقب فيهم شبح مَنْ كان زوجها.

استطعت استنشاق الهواء أخيرًا في الخارج، كانت عينيها مدغمة بدمعة هي نهاية حياتها مع حبيب، نهاية مأساوية لم تتخيل في أسوأ خيالاتها وكوابيسها، نهاية لَمَ تخطر أبدًا على بال كل من حذرها من الزواج منه، قالوا عنه متلاعب وزير نساء، لا يتحمل مسئولية وقد يختفي شهورًا والحجة فنه، لكن أحدًا لم يخبرها إنه رُبما سوف يفقد عقله.

اتجهت لسيارتها الحمراء التي أتت بها عن الجسر الذي يصل بين الجزيرة وبين مدينة بريد بروت، كانت تلك السيارة هدية "أنطوان" لها قبل أن تنقلب حياتهما رأسًا على عقب بشهرين بمناسبة عيد مولدها.

هَمت بأن تدلف للداخل لكنها هناك صوتًا ما ناد اسمها:
-سيدة غليم.

الطبيب الشاب الذي صاحبها في البداية، تركت باب السيارة واستدارت ناحيته، جاء إليها وقدم شيئا ملفوفًا في ورقة جرائد:
-أسف للغاية، ولكن حين عودتي كنتِ قد ذهبتِ وقد خشيتِ ذهابكِ قبل أن أمنحكِ هذه.

نظرت إليها ولم تمد يدها نحوها، ضيقت ما بين حاجبيها متسائلة:
-ما هذه؟.

نظر للشيء الملفوف ثم إليها مُجيبًا:
-هذه إحدى لوحات السيد غليم، قبل أيام استيقظ عقله لدقيقة، بدا كأنه يعرف ما يدور حوله، ومنحني هذه الرسمة وقال إن أعطيه لزوجته ماري وأخبرها إنه أسف وبعدها ذهب بلا رجعة.

التقطت منه اللوحة، شهقت وركضت الدموع فوق عينيها، حثته بسؤال ملهوف:
-إذا هل ممكن أن يعود لطبيعته، أن يعود له عقله مرة أخرى؟.

هز الطبيب رأسه بأسف حقيقي، مُطبق شفتاه:
-لا أعتقد ذلك، أحيانا يفيق العقل الوعي لوَهلة قبل أن يموت تمامًا، في الطب النفسي نمسيها الصحوة الأخيرة.

نظر لوجهها المتألم، العبرات فوق وجنتيها الجميلة الناعمة، كانت جميلة للغاية وشابة، وما يحدث فوق احتمالها بالتأكيد، فمنحها الدعم والتفاهم الذي ربما أستاذه يفتقر إليه بسبب عمليته، وهو ما يجعل الجميع يهابه ويخشى التعامل معه رغم عبقريته الطبية كوالده الذي ورث عنه المعهد:
-أتمنى أن أستطيع مساعدتكِ ومنحكِ الإجابة التي تريديها ولكن لا يمكنني الكذب عليكِ سيدتي.

وضعت يدي فوق قفازها أمنحها الدعم النفسي:
-لكن تذكري أنه في أخر صحوته النفسية كنتِ أنتِ من تذكرها ومنحها شيئا من فنه.

هزت رأسها بشبح ابتسامة حزينة:
-شكرًا لك أيها الطبيب.

بادلها الابتسامة ورفع يده عنها كفها، ومنح بطاقة للمعهد به أرقام هاتفه:

-الطبيب بيتر ماير؛ يمكننكِ الاتصال بي أي وقت إذا احتجتِ أي مساعدة أو فقط شخصًا ما يسمعكِ.

بامتنان حقيقي همست:
-شكرًا للغاية.

تركها تركب سيارتها وتغادر نحو بريدج بورت، أخذت شقيقتها التي صحابتها معها وتركتها في نُزل صغير لحين عودتها، ومنها إلى بوسطن، عجرت على بيتها القديم وتركت شقيقتها في السيارة.

في الداخل لم تلمس أي شيء، لم تضئ سوى إضاءة صغيرة في البهو أسفل اللوحات التي رسمها "أنطوان" لها وللأولاد وله، صورة العائلة المثالية التي ولت.

فككت ورق الجرائد عن اللوحة التي منحها لها في صحوته الأخيرة، كانت صورة على واجهتها لكهف يحاوطه بحر وقمر أحمر مكتمل، وخمسة أشخاص يرتدون قلنسوة يقفون حول مائدة دائرية أمام مذبح وعرش يتربع فوقه شخص لا يظهر منه سوى عيناه الحمراء.

وفي الخلف صورة بورتيه لفتاة شابة ذو شعر بني قصير وعين خضراء وملامح شبه مطموسة لأن من وجهها يظهر وجه آخر لفتاة خضراء العين وسوداء الشعر، كلتا الفتاتين ملامحهما متداخل بشكل يصعب تحديد أي شخصية منهما.

لم تستطع اكتشاف شيئا منهما ولم تُبالي بهذا، كان هذا أيضًا ناتج جنونه أيضًا، وضعت اللوحة في صندوق لوحاته المظلمة في مرسمه المُغلقة.

ثم استدارت وغادرت البيت وهي تُدرك أنها لن تعود قبل سنوات، هذه البيت الذي حمل أسعد سنواتها لا يمكنه أن يسعاها هي وطفليه دونه، كان هذا بيته ولن يصبح بيتها وحدها، ببساطة لن تستطيع، سوف تتابع حياتها لأن الزمن لا يتوقف ولكن ليس بين جدران هذا المنزل.


لا يمكنكِ محاربة الزمن، لا يمكن إيقافه أو إمساكه، ولا يمكنك أن تهرب من توابعه وأثاره.

ما حَدث، ما يحدث، وما سوف يحدث هو يحدث في زمنه.

ما حدث لديكِ هو ماضيك، ما حدث لي هو ماضي، وقد يختلف هذا الماضي رغم أنه في نفس الزمان والمكان والأشخاص.

البداية هي النهاية، والنهاية هي البداية، سوف يبدأ العالم من حيث ينتهي، وسوف ينتهي العالم من حيث بدأ؛ والزمن دائرة مُفرغة.

لا يمكنك أن تفهم الزمن، فكُف عن المحاولة
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي