الفصل الثاني

أمام القصر المهجور في المنطقة التي خلت من معظم سكانها توقفت سيارة الأجرة فترجل منها الشاب قبل أن يتناول يد الفتاة ويساعدها على الخروج هي الأخرى، لتهديه ابتسامة ممتنة مع قولها:
-شكرًا لك يا سعيد.
تبسم لها المذكور قائلًا بتملق:

-حبيبتي أريج، تستحقين كل شئ جميل وأكثر، أنتِ رائعة.
تبسمت ترد ببعض الحرج:
-اتعبتك معي يا سعيد، ولا أريدك أن اشق عليك اكثر من ذلك، إذهب الاَن وشقيقي سوف يمر علي ويأخذني في طريقه.

اعترض المذكور يقول بقلق:
-كيف أتركك في هذه المنطقة المهجورة واذهب؟ ألا تخشين أن يهجم عليك احد اللصوص، او أن يتعرض لك شاب احمق، انا أعلم أن هذه المناطق ينتشر بها الكثير من الشباب الفاسدون.

عضت أريج على شفتيها من الغيظ، ف أكثر ما تكرهه في سعيد ابن خالها، هو الإلحاح المبالغ فيه، لذلك كررت طلبها برجاء:
-حبيبي سعيد لا تنسى أن أمجد أخي لا يطيقك ودائمًا ما يتشاجر معك على اتفه الأسباب.

لقد أصررت على مرافقتي في السيارة بعد انتهاء محاضرات الجامعة، إذن ف لتذهب الاَن، لقد اخبرتك ان شقيقي أوشك ميعاد وصوله الاَن، كي نذهب معَا إلى مقابر العائلة القريبة من هنا، إذهب ارجوك قبل ان يصل .

تنهد ليحرك أقدامه على مضض، ولكن وقبل أن يستدير عنها تناول كف يدها ليُقبلها ثم قال كارهًا:
-لاجل خاطرك فقط، وحتى لا يتحكم فيكِ هذا المتخلف سوف اذهب، رغم قلقي من تركك وحدك هنا، لا تنسي الاتصال بي كل دقيقة لطمأنتي عليكِ.

وإن شعرتي بأي شئ يثير بداخلك القلق، لا تنتظري واطلبيني على الفور.
أومأت براسها ترضيه بابتسامة صفراء، حتى ذهب من أمامها لتتنفس اَخيرًا الصعداء، ثم ذهبت متجهة نحو القصر، لتخطو داخل مقدمته المتصدعة وقبل ان تصل إلى الباب الداخلي تفاجأت بشقيقها يفاجئها بقوله:

-ولماذا أتيتِ حبيبتي، كنتِ انتظري مع هذا اللزج في الخارج حتى يُخيم الليل ويضيع اليوم علينا، تبًا لك ولغباءك.
اردف بها وتناول المفتاح الصدئ ليُحاول فتح باب القصر، فهتفت شقيقته ساخطة:

-وماذا كنت سأفعل لاتخلص منه، لقد كان ملحًا بشكل غير طبيعي لمرافقتي، بحجة أنه قلق علي من اللصوص او الهجامين في هذه المنطقة الخطرة..

تجاهل الرد أمجد حتى تمكن من فتح الباب ليُصدر صوت صرير مزعج من دفعه للداخل، ثم عقب المذكور على قول شقيقته:
-لا أعلم كيف لك أن تتحملين مرافقة هذا الأحمق؟
تبسمت بزهو وهي تلج لداخل القصر معه:

-ولما لا أتحمله وهو ينقل لي المحاضرات ويعطيني المذكرات ويقوم بفعل الأبحاث المطلوبة مني من الجامعة نيابة عني، وبعد كل هذه الفوائد، تسألني كيف أتحمله؟
رد أمجد ساخرًا:

-انتهازية واستغلالية من الدرجة الأولى، تلعبين على مشاعر ابن خالك الولد الريفي البسيط، والذي ترك أهله في المحافظة البعيدة من أجل الدراسة هنا، لتأخذي تعبه لتنجحي به وتتفوفي بلا أدني ضمير منكِ

ضحكت أريج مرددة له:
-تربية يدك شقيقي العزيز.
ردد خلفها ساخرًا:
-إذن فقد اثمرت فيكي تربيتي .

أكمل الشقيقيان دخول القصر، ولا يعلمون بمن دلف خلفهم، سعيد الذي لم يطاوعه قلبه على ترك أريج وحدها في هذه المنطقة المهجورة، فعاد مرة أخرى ليُفاجأ بها وهي تدلف لداخل القصر المهجور.

فلحق بها سريعًا لتزداد حيرته مع مشاهدة شقيقها وهو ينضم معها، ليكمل هو طريقه خلفهم ويرى ماذا سيفعلان في القصر المتروك منذ عقود دون فائدة، كالبيت الوقف فلا هو يصلح للسكن، ولا هو يمكن الأستفادة من بيعه، وذلك لكثرة المشاكل حوله بتعدد الورثة كما ذكرت له أريج سابقًا.

❈-❈

وفي داخل القصر توقف أمجد اَخيرًا بشقيقته داخل الصالة الكبيرة التي توسطت القصر الكبير ليُنزل حقيبته من خلف ظهره على الأرض ويبحث عن الأوراق والكتب بداخلها، ف بادرته شقيقته بالسؤال:
-لما توقفت هنا ألن ندخل لبقية الغرف؟

رد أمجد وهو يبحث عن شئ ما في الكتاب الغريب الذي أخرجه:
-نحن لم نأتي في نزهة عزيزتي لكي نتفقد الغرف، لقد وجدت جثة جدك قديمًا هنا في الصالة ومرتمية على الأرض بجوار المدفأة، وضربة قوية شقت نصف رأسه، فلا أحد علم بالقاتل .

-إذن نحن سنبحث عن القاتل؟
قالتها اريج بلا تفكير، لتواجه بنظرة نارية من أخيها وهو يهتف بها:
-وما دخلنا نحن بمعرفة القاتل يا غبية، نحن جئنا هنا حتى نستعيد روح الرجل من المكان الذي خرجت منه، هل فهمت الاَن.

أومأت له برأسها بوجه عابس تجيبه:
-حسنًا فهمت، فلا تزيد بتوجيه الإهانات، تعلم عن طبعي أني لا أسكت عنها، ولكني اعذرك الاَن لأنك متوتر، وأنا مثلك أيضًا.
نهض أمجد عن الأرض يرد وهو يفتح الكتاب الذي بين يديه على الصفحة المحددة:

-لا حبيتي لا داعي للتوتر او القلق، كل شئ سيحدث كما نحب وسنحصل على ما نريد، تعالي تقدمي معي حتى ننهي هذا الأمر:
رددت أريج وهي تخطو خلفه على تردد بخطوات متأنية:
-ولكن.. ولكني بدات اخاف يا أمجد، بعد ذكرك لحادث مقتل جدي.

هتف نحوها بحزم:
-لا وقت لميوعتك الاَن يا أريج، تقدمي لتقفي أمامي، وأنا سوف اقرأ التعويذة التي أحضرتها كما ذكرت لك من قبل، وسيمر الأمر بمنتهى السهولة صدقيني.

سألته باستفهام يمتزج باندهاشها:
-ولماذا علي أن اقف أمامك؟ لما لا اقف خلفك مثلًا، او بجانب اَخر بعيدًا عنك؟
تلجلج قليلًا، ثم رد بصرامة أجفلتها:

-اللعنة عليكِ يا أريج، ألن تكُفي عن الأسئلة اليوم؟ لو استمريت هكذا في الجدال معي سينقضي النهار ويُظلم القصر، وبعدها يضيع علينا اليوم
أومأت بتخوف لتُذعن لمطلبه، ثم وقفت مقابله أمام المدفأة، هم للبدء فيما سيفعله ولكنه استدرك ليُذكرها:

-لا أسمع لكِ صوتًا يا أريج، مهما حدث امامك ورأيتي أي شئ يُدهشك، استوعبي هذا الأمر جيدًا شقيقتي، لا نريد الإعادة والتكرار.
رددت أريج بنفاذ صبر:
-حسنًا حسنًا، إذن ف لتبدأ وانجز بسرعة حتى لا اغُير رأيي.

سمع منها ثم بدأ في مطالعة الكتاب والقراءة بصوت عالي بتلاوة كلمات غريبة وغير مفهومة لها على الإطلاق، وكل ثانية ترتفع عيناه نحوها، بشكل اثار بقلبها الخوف وهي تترقب انتهاء هذا الشئ المزعج.

وخلف أحد العمدان التي تزين الصالات تخفي سعيد يراقب هو الاَخر وقد بدأ يساوره الشك فيما يحدث أمامه، لقد كان ينتوي أن يفاجئهم ويتحدث معهم، لكن بعد الذي راَه امامه، غلبه الفضول ليعرف ماذا يدبرا هؤلاء التوأم، لقد أصبح الأمر مريبًا بشكل اثار اهتمامه وجعله يصر على التريث، حتى يتبين نهاية هذا الأمر.

وفي الإمام استمر أمجد في القراءة بصوت ازداد علوه وازدادت سرعته وشقيقته تتمسك في حقيبتها وكانها تتحامى بها، وبداخلها تحصى الدقائق والثواني، وشيئًا ما يحثها على الانسحاب والركض بعيدًا عن هذا العته والجنون ولكن مع النظرات الصارمة كانت تتراجع على الفور صاغرة.

حتى اصبح الأمر اكثر جنونًا، مع سماعها لهذه الاصوات الغريبة، بشكل متواتر وغير منتظم، يجيء ويذهب، مرة ثم مرة، ثم ازدادت حدته حتى بدأت تتمسك بقماش قميص أخيها لتنبهه علٌه يستجيب لها، ولكنه كان منغمسًا بما يفعله، رغم تحديقه الدائم لها، لدرجة جعلتها على وشك البكاء.

حتى أصبح صوتها يخرج تدرجيًا، وجسدها يهتز تريد الخروج، لكن أخيها كان يمنعها ويشد على ذراعيها مع نظراته الصارمة، وهي تناجيه بعينيها باستجداء للتوقف وعدم الإستمرار، وهو يزيد والصوت يزيد، ثم بدأت تشعر بتحركات غريبة حولها ليزداد هلعها، كي تأخذ قرار الفرار على الفور.

لكن امجد تمسك بها بقوة وهي تبكي لتركها وهو يزيد ويسرع بالقراءة والتكرار وشقيقته على وشك الانهيار مما يحدث حتى ختمت بصرخة قوية مع صدور صوت هذا الصوت الغريب بقوة. لتقع على الأرض منهارة، فتوقف أمجد ليربت على وجنتيها بقوله:

-أريج، أريج، افيقي حبيبتي، أريج هل انتِ هنا؟
استفافت على الفور لتنزع كفه عنها صارخة بوجهه:
-الاَن تدعي الاطمئنان علي! بعد كل هذا العته الذي كنت تقوم به، دون تقدير لحالتي او لخوفي.

مع تأكده من صوت شقيقته وشخصيتها الحقيقة المعروفة إليه، رفع رأسه وتعقد حاجبيه باستغراب اثار ريبتها لتسأله بخوف:

-لماذا أنت صامتًا وتحدق بي هكذا؟ هل حدث لي شيء ما؟ لماذا لا تتفوه بكلمة؟
هز رأسه ليغمغم بصوت خفيض:
-يبدوا أن التجربة قد فشلت، وكل مافعلته ضاع هدرًا.
-ماذا تقول؟ لا أفهم .

هم ليرد موضحًا لها، ولكنه اجفل على صيحة رجولية قوية من الخلف:
-تبًا لكم، من أيقظني من غفوتي يا أوغاد؟
ارتفعت رأسها هي أيضًا نحو مصدر الصوت، لتُصعق وتجحظ عينيها بقوة متمتمة بهلع:
-سعيد ماذا يفعل هنا؟

تقدم المذكور نحوهما، بهيئة تختلف عن هيئته تمامُا، رغم عدم تغير المظهر الخارجي، ولكنه بدا وكأنه شخص آخر بطريقة سيره امامهم، تمتمته بالسباب المتواصل دون توقف، وهذا الأجش الغريب يبدوا وكأنه...

-من أنتما أيها الوغدين؟ وما الذي فعلتماه لتوقظاني من نومتي؟ أجيباني وإلا والله لأسلطن عليكم خدمي يودبانكما خير تأديب، أو أقوم انا بجلدكما، انطقا.
قالها بصرخة ووجه متغضن بعبوس، جعل أريج تنتفض لتسأله شقيقها:
-ما الذي أصاب سعيد؟

رمقها أمجد بنظرة غامضة قبل ان يتجه نحو الاَخر سائلًا:
-من أنت؟
ارتفع طرف شفة المذكور وهو يقف بعنجهبة ليردف باستعلاء:

-ومن انت حتى تتجرأ وتسألني يا تافه؟ أجننت يا فتى؟ كي تستدعي رجل بمركزي انا ثم تتفوه بهذ السؤال إلي؟ أنا أدهم باشا الفيومي أستدعى وأُنتزع من نومتي بفضل سيفهين مثلكما؟
تسمرت أريج بجمود وكأنها تمثال من الشمع بمقلتين توقفتا عن الحركة تمامًا، وفك تدلى بشدة.

اما أمجد والذي ضرب بكف يده على سطح وجهه عدة مرات، فهذه لم تكن خطته على الإطلاق، وهذ التغير لم يحسب له حسابًا من قبل، رغم كل حذره في التخطيط، ولكنه استوعب سريعًا، ليجيب الرجل:
-انا امجد حفيدك يا جدي، وهذه اريج شقيقتي التوأم.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي