الفصل الرابع

-نيازي أنت يا ولد، يا نيازي.
تأفف يمصمص بشفتيه داخل غرفته، فنداء والدته المستمر من الخارج، يضيع عنه تركيزه المنصب الاَن على قصيدته الشعرية الجديد، وهو يكتب ويردد بفمه ليستشعر لحن الكلمات.

-وفي عيونها تختفي النساء، وفي عيونها ينصهر الجليد ، وفي عيونها تستقر ... لالا لقد تكررت هذه الكلمة عدت مرات لابد لها من بديل.

اردف بحديث نفسه لكي ينكفئ على الورقة ويحاول إيجاد الكلمة أخرى للبيت الشعري، قبل أن ينتفض فجأة ويرفع رأسه نحو والدته التي هجمت مقتحمة عليه غرفته بدفع الباب بقوة صائحة:

-لقد بح صوتي يا غبي، لما لا ترد علي؟
ضرب بكفه على ورق القصيدة ليجيبها بنزق:
-نعم يا أمي، ولما النداء من الأساس؟ ألا يحق لي الإنفرد بنفسي ولو قليلًا؟ لقد ضيعتي عني الإلهام بفعلك.

صرخت أحلام بوجهه بعدم احتمال:
-كفى يا غبي ودع لي فرصة لأتحدث إليك؟ تشغل نفسك بالإلهام وهذا الأمر الغبي عن الشعر ولا تسأل عن غياب إخوتك حتى الاَن؟ الساعة تقترب من التاسعة والتوأم المزعج لم يأتوا بعد.
ضيق عينيه يسألها بتهكم:

-وما دخلي أنا بعودتهما؟ فليذهبا إلى الجحيم، أنا لا يعنيني أحد منهما، حتى أسأل وأتعب نفس بالتفكير بهما، كي أضيع وقتي الثمين وإشغال نفسي بشئ آخر عن الشعر.

فاض بها المرأة لتضرب بكفها على سطح ورق القصيدة فوق المكتب تقول بعنف:
- وانا لا يعنيني شعرك، أريد إخوتك، أبتغي الاطمئنان عليهما، لماذا مكتوب علي التعب من الجميع في هذا المنزل؟ سواءً ابيكم الذي يدعو في غرفته الاَن عليهما من حجم ضيقه وفقدانه الأمل في إصلاحهما.

ثم ببرودك أنت الآن لعدم البحث أو السؤال، مرورًا بعديمي الإحساس لغيابهم حتى الآن دون طمئنتي ولو برسالة من الهاتف حتى، بئسًا لكما، سوف يأتي أجلي على أيديكم.

قالت الاَخيرة بصوت مجهد متعب، وهي تجلس على الكرسي المقابل له، طالعها هو ببعض الهدوء ليرد على كلماتها:
-سلامتك يا أمي ولكن لا تلومي على أرجوكِ، ولا تؤاخذيني في قولي، هذا المدعو أمجد والمدعوة أريج، لا يصح الخوف على أحد منهم.

ولذلك لسببين أحدهما أن أمجد لديه عقل شيطاني، وشقيقته تابع له دائمًا وأبدًا، فلا أظن أنها تفارقه أو تتخلى عنه في إحدى مصائبه، وقلبي يحدثني أنه يفعل الاَن.

احتدت عليه أحلام لتنهره:
-حتى إن كان ما تقصده حقيقيًا، هذا ليس حجة للإتكال عليها حتى لا نسأل أو نبحث.

ارجوك يا بني، انهض واخرج لتبحث حتى عن شقيقتك التي خرجت منذ الصباح، لربما لا يصدق ظنك وتكون قد خرجت هذه المرة وحدها بدون البائس الاخر، أو ربما أصابها شئ ما، يا إلهي لو حدث هذا بالفعل؟ سلم يارب سلم يارب.
صرخ نيازي يمنع وصلة النحيب من أولها:

-تبًا يا أمي، تخترعين القصة من رأسك وتصرخي أيضًا، لقد ضيعتي عني ألإلهام ولم أعد حتى اتذكر بيت الشعر الذي كنت أكتبه، تصرخين علي كي اذهب وأبحث عنهما وزوجك يتحجج بغضبه، حتى لا يحرك أقدامه ويخرج من غرفته، بئس الأسرة المفككة.

هتف بالاَخيرة وهو ينهض ضاربًا بكف يده على سطح المكتب بغضب، تبعته بأنظارها أحلام وهو يذهب نحو خزانة ملابسه، لتردد بالكلمات الممتنة:

-اراح الله قلبك يا بني، وأبعد عنك كل سوء، ويرضيك في دنياك كما فعلت الاَن لترضيني.
-كفى يا أمي، لا أريد أدعيتك التي لا تنتهي ودعيني بحق الله كي أبدل ملابسي، أم تريدني أن أغير رأيي ولا أفعل .

-لا لا سوف أخرج يا بني، وبدل انت ملابسك كما تريد.
هتفت بها أحلام وهي تنهض راكضة للخروج من الغرفة، لتتركه يزفر غاضبًا، يلعن حظه السئ، بانتمائه لهذه الأسرة .

❈-❈

وإلى داخل القصر المهجور وقد خرج إليهم أدهم، بعد ان القى نظرة على جميع الغرف في منزله، وافرغ شحنة النحيب، والصراخ على المفقودات والخراب الذي حل، بوجه مكفهر حانق، وقعت عينيه عليهما، فوجدهما قد افترشوا الأرضية، يتناولون شطائر لا يعلم بمحتواها، فصرخ مصعوقًا بما يراه:

-اللعنة عليكم يا مقرفين، كيف تأكلون على الأرضية، كالفلاحين وعمال النظافة، تبًا لكم .
ضحكت أريج تجيبه وهي تقطم قطعة وتمضغها بفمها:
-لسنا على الأرض تمامًا يا جدي، لقد وضعت دفتر محاضراتي في الجامعة لاجلس عليه.
تكرمش وجه ادهم بامتعاض ليزيده الاخر بقوله:

-أما انا يا جدي فقد جلست على الارضية بكل ارتياح، وما الداعي لأفساد الدفتر وملابسي سوف أنفض عنها التراب بعد أن اقف، وإن لم يحدث وتوسخت بالفعل، فوالدتي حفظها الله، لا تقصر أبدًا بغسل الملابس وكيها.
هتف أدهم يقارعه بقوله:

-حفظها هي وعسى ألا يحفظك انت أبدًا يا عديم الإحساس، لا تتورع عن إفساد ما ترتديه وإجهاد والدتك بتنظيفه، والغبية شقيقتك، لا تتورع عن الجلوس فوق دفتر العلم، والذي بالأحق أن يرفع فوق الرأس.
صمت الأثنان يناظرنه ببرود وهم يكملون تناول طعامهم، وهو يحدق بهم بضيق حتى سأل هادرًا بهم:

-اللعنة عليكما، ماذا سأفعل معكما الاَن يا زوج البلداء؟
أجابه أمجد بكل برود:
-لقد أخبرتك يا جدي، قل لي عن مكان الجوهرة، حتى اريحك من عذاب قرفنا وأعيدك لنعيمك
ضيق عينيه أدهم بارتياب يسأله:
-وإن لم افعل، ماذا سيحدث؟

بربربش الإثنان يناظرنه ببلاهة ليصدمهم بقوله:
-إن لم أعود وهذا ما انتوي بفعله، فسوف أخرج من هنا وانا الاعلم بمكان جوهرتي، وقد وهبني الله بحياة أخرى عبر هذا الجسد، لأعيش وأعيد أمجادي ولتذهبوا انتم إلى الجحيم .

قالها وتحرك بأقدامه، فنهض على الفور امجد ليمسك به قائلًا:
-توقف يا جدي، ولا تتهور، ف أنت لا تعلم بما ينتظرك.
سأله أدهم باستخفاف:
-أها، وماذا ينتظرني إذن يا حبيب جدك؟
سهم أمجد يفكر في حيلة، فسبقته شقيقته بالرد:

-ينتظرك عالم متوحش، لن تستطيع الإندماج به، كل البشر أصبحوا سواسية الاَن، لا يوجد باشا، أو بيك، او اي شئ من هذه الألقاب، هذا يعني انك لن تجد الإحترام الذي تبتغيه، والمعلومة الأهم فوق كل ذلك، هي هذا الجسد الذي تتلبسه الاَن بانانيتك، ملك سعيد ابن خالي وهو فلاح من أصل فلاح.

شهق أدهم صارخًا بهلع يتأمل جسده وملابسه:
-يا حيوانات، هل ضاق بكم العالم، فلم تجدوا باشا او شخص عالي المقام لتخوضو تجربة البعث عليه؟ انا الباشا ادهم الفيومي، تبعث روحي في جسد فلاح، بئس الفعل الشائن يا أوغاااد .
صرخ به امجد بسأم:

-اللعنة عليك يا جدي، لا تكف عن التذمر ابدًا، نحن لم نبحث حتى نختار، لقد فعلت التجربة مع شقيقتي بقصد بعث روحك بجسدها.
زادت شهقته الصارخة هذه المرة بهلع يومئ بسبابته نحوه مصدومًا:

-كنت ستجعل روحي تُبعث في جسد فتاة؟ ادهم الفيومي يتلبس فتاة يا صفيق.
ردت اريج تدعي البرائة:
-وبدون علمي يا جدي، كان سيفعلها، بعد ان خدعني ولم يشرح لي عن التجربة بدقة.

ولكن الحظ كان في صالحي هذه المرة، بأن اختارت روحك تلبس جسد ابن خالي سعيد، والذي كان يراقبني ويتلصص علي.
صاح بها أمجد حانقًا:

-وهل لو أخبرتك كنت ستقبلين؟ انتِ غبية من الأساس ولا يستوعب عقلك سوى اخبار الموضة وسيرة الصديقات الئيمات، ونجوم الفن والرياضة.
صاحت بدورها:
-لست انا الغبية، بل انت المُخادع.
ردد كي يكيدها:

-بل غبية ولا تفقهين شئ، وضيفي على ذلك الصفة الدائمة بكِ دائمًا، ثرثارة، يا ثرثارة.
-لا تستفز جنوني يا أمجد، حتى لا اجرحك بالكلمات.
صرخت بها ليقابلها أمجد يهز برأسهِ ليغيظها، ليرتد هذا المشهد على وجه أدهم بالإمتقاع الشديد ليهدر بهما بعدم تحمل:

-كفى! تبًا لكم ولحماقتكم التي تفيض بمستوى دنو اخلاقكم، ألم يجدا والديكم وقتًا لتربيتكما؟
صمتا الاثنان لتزفر أريج بغيظ وتشيح بوجهها للجهة الأخرى، أما أمجد فقد ادعى الإحترام بهزة خفيفة من رأسهِ، ثم قال:

-والاَن ماذا ستفعل يا جدي؟ من المؤكد انك تبتغي الراحة لذلك انصحك بأن تدلني على مكان الجوهرة، لكي ادعو الله ان يسكنك فسيح جنانه، حتى أخفف عنك من دعوات السخط التي كان يمطرك بها افراد العائلة على مر السنين التي مضت خلف موتك.

ضيق أدهم بعينيه مرة أخرى ليحدق بهما من تحت أجفانه بشكل اثار القلق بقلب الشقيقان، فقالت أريج بمحايلة:
-إسمع منه يا جدي، لقد تغير كل شئ بعد موتك على مر السنوات، انت لن تستطيع مجارة ما يحدث حولك، عُد يا حبيبي إلى مقرك الاَمن وأخبرنا عن مكان الجوهرة،

أعلم أن شقيقي وغد ولا يستحق، ولكن وللامانة، ليس لديك حل آخر، هو الوحيد الذي يملك الطريقة لأعادتك، أخبرنا حتى نخلص من إلحاحه:

تحمحم يجلي حلقه ثم تحرك بخطوتين ليتعد عنها، يجئ ويذهب عاقد الكفين من خلف ظهره، وكأنه يدعي التفكير، أمام نظرات الشقيقان المترقبة، ثم ما لبث أن يرفع رأسه ويقول:
-أتفهم رغبتكم القوية في نيل الجوهرة، وحتى أكون محقًا، فعلكم هذا جعلني أعجب بذكائكم....

ابتسامة بلهاء أرتسمت على وجه الشقيقان ثم ما لبست أن تخبئ سريعًا عقب متابعة أدهم:
-ولكن يا أحبابي انا لا يصح لي التفرقة بين أحفادي، إن أعطيتكم الجوهرة النادرة، هذا معناه أني امنحكم جميع ميراثي، وهذا لا يصح بالطبع.

سمع منه أمجد ليقول بغضب:
-ومن أحفادك يعرفك من الأساس حتى تحسب حسابه؟
لقد حرمتنا جميعًا من الميراث ولم يعنيك شئ منذ عدة عقود، وتأتي الان لتسأل عن العدل؟ هذا ليس في قاموسك يا أدهم يا فيومي.

هزهز رأسه الاَخير، يدعي الأستياء لتجفله أريج أيضًا بطلبها:
-نعم يا جدي، نحن من سعينا إليك حتى تدلنا، إذن فعليك ان تكافئنا، فنحن نستحق.
مع كلماتها الأخيرة التمعت عيني أدهم ليردد خلفها:

-نحن نستحق، عبارتك يا أريج أثرت في كثيرًا، وذكرتني بما اريده حقًا، لابد أن أعطي الجوهرة لمن يستحق، فهل أنتما تستحقان؟
-نعم!!
صاح بها متهكمًا أمجد ليتابع بغضبه:

-ومن هذا إن شاء الله الذي يستحقها سوانا يا جدي العزيز؟ نحن من أخرجناك يا رجل؟ هل ترى أحد غيرنا ليشاركنا مثلًا؟ لا تكن متُعبًا يا أدهم يا فيومي، فلقد مللت منك وطال صبري، أعطني جوهرتك، حتى لا قرا تعويزة تحرقك أمامي.

هتف ادهم يقول بتحدي:
-إذن فلتفعلها ، حتى أستربح من حمقاتكم، ف أعود لمقري الاَمن والمستكين، وأنتما تعودان لحياة الفقر والتقشف، هيا هيا فلتفعلها، وأنا بانتظارك..

أردف بكلماته ليزيد من احتقان الشاب والفتاة، حتى هتف به أمجد:
-تبًا لك ولألعابك يا أدهم، ماذا تريد منا يا رجل؟
رددت من خلفه أريج:

-كان يجب علينا أن نتعظ من تاريخك ولا نفعلها ونعيدك، انت بالفعل رجل خبيث وداهية تتمتع بإذلانا، ولكن نحن لن نعطيك الفرصة، هيا يا أمجد أعد قراءة التعويذة وخلصنا من هذا الرجل.

وقف أدهم يطالع أمجد باستعلاء وهو يتابع ما يفعله الاخر، حينما تناول الكتاب القديم، يتطلع في أوراقه بتردد حسمه سريعًا بأن أغلق الكتاب وهتف بإمجد:
-بالله عليك يا أدهم يا فيومي، ماذا تريد منا من أجل تدلنا على الجوهرة؟

ظهر على وجه أدهم ابتسامة ظفر بعد أن كسب الرهان الذي عقده مه نفسه منذ دقائق، ليصمت قليلًا وهو يتبختر بخطواته حولهم يزيد من احتراقهم، قبل ان يتفوه اخيرًا:
-يعجبني ذكاءك يا أمجد، تختلف كثيرًا عن هذه الفتاة البلهاء شقيقتك.

صرخت به أريج معترضة:
-لا تقل عني بلهاء، أنا لا أسمح.
صرخ بدوره عليها أمجد:
-دعي كرامتك قليلًا يا أريج، ودعيه يكمل.
زفرت تشيح بوجهها عنهم، ليتابع أدهم:

-حسنًا يا أحبابي، لقد قلتما بألسنتكم عن باقي العائلة المفككة، والتي لا تستحق الجوهرة لأنها لم تبحث عني، ومن أجل إرضائكم، فقد قررت ان اعطي لكما الفرصة لتثبتا لي أنكم تستحقانها، حتى لا يصيبني تأنيب الضمير في موتتي.

.عقدت اريج حاجبيها باستفهام، وردد أمجد بنفاذ صبر:
-مرة أخرى، ماذا تريد؟ لم نفهم منك شيئًا يا رجل.
يمط بشفتيه أدهم يقول بثقة،:
-أريد العيش معكم لمدة من الوقت، حتى نثبتوا لي جدارتكم في الفوز بالجوهرة.

صرخت أريج بوجهه معترضة:
-تعيش معنا كيف ؟ هل انت مجنون يا رجل؟ بماذا سنبرر لأبوينا وجودك معنا في المنزل؟ أم أنك لا تعي حتى الاَن بتلبسك لجسد سعيد ابن خالي، وهذا الولد لا يطيقه أبي من الأساس، فكيف سيقبل به داخل الأسرة؟

رد بكل برود:
-لا يعنيني حفيدتي العزيزة، ولا يهمني كيف تجدون الحجة لتبرير ذلك، هذا شرطي الأساسي، أن أعيش بينكم لبعض الوقت كي اختار....
-لا يا جدي بل ستفعل.
هتف بها أمجد مقاطعًا بحزم، ليكمل:

-أستطيع تدبير الحجة ولكن أريد الضمان منك، ليس لديك خيار غيري.
-او انا .
هتف بها أريج من خلفه ليقضم أمجد بأسنانه على شفته وهو يناظرها بغيظ، قبل أن يعود لمخاطبة أدهم:

-أو هي، هذا يعني ان خيارتك محصورة بيننا.
قارعهم أدهم بقوله:
-لا تجادلني يا أمجد، لقد سهلت لك الأمر بأن حصرت الأختيار في الأسرة الصغيرة، أي أنك تستطيع نيلها حبيبي، أنا لن أستثنيك عن إخوتك.

قالها وتوقف رافعًا الحاحبين بنظرة ماكرة بعد أن حشرهم في الزاوية الضيقة بدهائه، تنفس أمجد من أنفه دخان الغضب، ليرفع قبضته إلى فمه ويعض عليها، قبل ان يلتف برأسهِ نحو شقيقته بتساؤل وكأنه يبتغي المشورة، فقالت تجيبه بقلة حيلة وهي تومئ بذقنها نحو الاَخر:
-هذا الرجل لئيم حقًا.

❈-❈
عادت أريج للمنزل وقد قاربت الساعة على الحادية عشر، خلعت حذائها لتتسحب على أطراف أقدامها حتى لا يشعر بها أحد، لتفاجأ بإضاءة المنزل التي اشتعلت ووقوف والدتها على باب الغرفة متكتفة الذراعين، بوجه مكفهر، ينبئُ عن حجم غضبها، ابتعلت أريج ريقها لتبادرها بقولها:

-مساء الخير يا أمي.
لم تجيبها أحلام بل زادت عينيها اشتعالا، فازداد ارتباك الأخرى لتردد بابتسامة مضطربة:
-أردفت إليكِ بتحية المساء، وانتِ لم تجيبي يا أمي، ما بالك يا امرأة؟اااا عسى ألا تكوني غاضبة مني على التأخير، ف والله لو تعلمي.....

-لا تحلفي بالكذب يا ملعونة، لأني لن أصدقك.
صاحت بها احلام بوجهها، لتكمل بالتحقيق حتى تزيد من صعوبة الوضع على ابنتها:

-خرجتِ على جامعتك من الساعة السابعة صباحًا، ولم تعودي منها سوى الاَن وعلى الساعة الحادية عشر مساءًا، أي بما يقترب من نصف الليل، اين كنتي يا بنت عزام حتى الاَن؟
اجفلت أريج من الصرخة الأخيرة لوالدتها، فردت بتعلثم:

-كل غائب ولديه الحُجة يا أمي كما تقول الأمثال الشعبية، وأنا كانت لدي حجتي هي مرض صديقتي المفاجئ، نعم يا أمي، ف لدي صديقة بالجامعة كانت تسير معي اليوم في طريق عودتي للمنزل عقب انتهاء المحاضرة على الساعة الثالثة عشر.

لم تتحمل حرارة الشمس فسقطت مني على الأرض في قلب الشارع، لأضطر انا لأسناداها مع مجموعة من الزملاء، وذهبنا بها إلى المشفى، واستغرقتنا الأجراءات الكثيرة، مع انتظار استفاقتها والاتصال بأهلها حتى ذهب الوقت منا ولم نشعر به سوى الاَن، حتى من ربكتي نسيت الإتصال بكِ وطمأمنتكِ يا أمي.

سمعت أحلام لتهتف بعدم تصديق:
-كاااذبة بكل ما تحمله الكلمة، انا أعلم الناس بكِ يا اريج، انتِ لا تطيقي المستشفيات ولا تطيقي الجلوس مع أي مريض، خوفًا من العدوي، إخترعي حجة أخرى محبوكة على الأقل حبيبتي، حتى تدخل بعقل طفل صغير، وليس والديك.

-والدي؟
رددت الجملة باستفهام لتذهب عينيها نحو الجهة الأخرى فوجدت بالفعل أباها ينظر إليها وهو واقفًا على مدخل غرفة نومه، مضيق عينبه بصمت رهيب، ادخل الرعب بقلبها، وقبل ان تهم بالدفاع مرة أخرى، تفاجات بفتح باب المنزل بقوة، ليلج منه شقيقها الأكبر نيازي وهو يغمغم بالكلمات الحانقة:

-اللعنة على هذه العائلة البائسة، لا ينالي منها سوى التعب والشقاء ليتني اعثر تأشيرة بالهجرة حتى اسافر ولا يعلم أحد بطريقي.
توقف فور أن وقعت أنظاره نحو أريج الواقفة بوسط الشقة، ليصرخ بها:

-أهلًا بالبرنسيسة التي تغيب بالساعات عن منزلها، لتتركنا نتخبط في الشوارع والأزقة بحثًا عنها .
-ومن قال لك ان تبحث عني؟
قالتها ببساطة ازعجت والدتها وأثارت غيظ نيازي فهم ان يمطرها بالسباب، ولكن عزام كان لديه السبق:

-وماذا كنتِ تتوقعين بعد غيابك كل هذه الساعات عن المنزل؟ أن تظُنينيا عائلة قليلة الشرف، حتى لا يشغلنا تأخيرك؟
سمغت منه، وبرقت عينيها بالخوف، ليدب بقلبها الهلع مع هذه اللهجة المريبة من والدها، تشعر بهدوء ما قبل العاصفة، لذلك حاولت الرد بمسكنة علّها تاتي معه بفائدة:

-سامحني يا ابي إن كنت أزعجتكم بالقلق علي، ولكني وكما ذكرت لوالدتي، لم اقصد هذا، فتعب صديقتي والهلع عليها اذهب عن عقلي الحكمة، وجعلني أسئ التصرف.
سألها عزام ليزيد بتشكك:
- ما اسم صديقتك؟ وكيف حالها الاَن؟

-طالعته بعدم فهم، ليردد لها بعنف:
-سالتك ردي، ما اسم صديقتك؟ وكيف حالها الاَن؟
تلبكت تجيبه بأسم من وحي خيالها:
-إسمها نيرمين، وحالتها تحسنت بعد العلاج والرعاية الكاملة.

-هذا يعني أنها ما زالت في المشفى، أم انها قد ذهبت إلى منزلها؟
سألها مرة ليثبر بقلبها الشك، فتسائلت بدورها:
- وما الداعي لهذه الأسئلة يا أبي؟
صاح بغضب فجأة وهو يقترب منها بخطواته:

-من اجل أن أذهب لأطمئن عليها، لا تدخلي لغرفتك، لأنك سوف ترافقيني في الزيارة الان.
قالها واستدار ليتحرك ذاهبًا نحو غرفته، فهتف مرتاعة لتوقفه وهي تجذبه من ذراعه:
-توقف يا أبي، لا يصح الذهاب في هذا الوقت من الليل، ماذا سيظن بنا اهل البنت؟

هدر عليها باعين حمراء:
-ولم تعرفي أن الوقت اصبح ليلًا سوى الاَن، أم هي لديها اهل، وانتِ لقيطة ولا تمتلكين من يسأل عليكِ، اتركي يدي حتى أدخل غرفتي لارتدي ملابسي واخرج معك.
صرخت على والدتها:
-قولي شيئًا يا أمي، والدة صديقتي لن يعجبها هذا الأمر.

مالت برأسها إليها أحلام بنظرة كاشفة وقد وصلها مغزى الملاحظة الخبيثة لابنتها، فجاء الرد من الناحية الأخرى:
-ولما الرعب المبالغ فيه يا اريج، إذهبي مع أبيك وسوف يقع الإحراج عليه هو، فلا تشغلي نفسك أنتِ.
ناظرة شقيقها بشراسة تثور عليه:
-لا تتدخل أنت يا نيازي، فلدي ما يكفيني.

قارعها بقوله:
-ولماذا لا اتدخل يا ناكرة المعروف، وانا من ذابت اقدادمي في البحث عنك؟
همت لترد ولكن أباها منعها بأن جذب ذراعهِ منها، مع قوله الحازم:

-إبتعدي عني يا بنت، لقد قررت وانتهى الأمر.
قالها عزام ثم تفاجأ بصوت فتح الباب المنزل، ليلج منه أمجد، فتابع عزام حديثه بتهكم واضح:
-وها قد أتى خلفة الندامة، الشق الاَخر لتؤأم الهم.

-ماذا حدث يا والدي؟
قالها أمجد ببرائة لا تليق به على الإطلاق، فجاء الرد من نيازي؟
-ولك عين تسال يا بارد، يا عاديم الإحساس؟ تعود للمنزل على منتصف الليل خلف الملعونة التي تدعي إنشغالها بمرض صديقتها، وأنت يا غالي ماهي حجتك؟

أشار له رافعًا كفه في الهواء للتوقف، ليقول بهدوء:
-أنا أسف يا جماعة، يجب عليكم التروي وتأجيل النقاش، حتى يدخل الضيف الكريم معي:
-تفضل يا أخي.

قالها ورأسهِ تلتف للخارج، مع سماع الهمهمات المتسائلة من خلفه، عن هوية الضيف، لتعلوا الشهقات فور أن ولج إليهم الرجل لداخل المنزل:
-سعيد ابن أخي! ما الذي أتى بك في هذه الساعة المتأخرة من الليل؟

قالتها أحلام وهي تقترب بخطواتها نحوهما، مخاطبة أدهم، والذي توقف يجول بعينبه في أنحاء المنزل وهذه الوجوه الغربية عنه، ككل شئ، متاجهلًا الرد عليه، وقال عزام:
-وهل ابن خالك كان غريبًا في أي يوم من الأيام، ولكن الغريب عن حق، هو مجيئه في هذه الساعة المتأخرة
من الليل.

رد أمجد بدرامية:
-فعلا يا أبي، لديك كل الحق في الاعتراض في قولك، ولكنك لا تعلم بالذي اصاب سعيد ابن خالي اليوم بعد أن صدمته السيارة.
صرخت على قوله أحلام بفزع:
-يا ويلي، ما لذي حدث ل سعيد؟ وما هو أمر هذه السيارة؟ ما الذي اصاب ابن خالك يا ولد؟
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي