ساحر آركادينا.

Abdullah Marzouk`بقلم

  • الأعمال الأصلية

    النوع
  • 2023-01-03ضع على الرف
  • 40.3K

    جارِ التحديث(كلمات)
تم إنتاج هذا الكتاب وتوزيعه إلكترونياً بواسطة أدب كوكب
حقوق النشر محفوظة، يجب التحقيق من عدم التعدي.

الفصل الأول

في وسط ذلك الخراب والمنازل المحترقة، فتى جسده صغير يركض وهو يلهث، يطارده من الخلف وحش قاتم، جسده مليء بالشعر ذو اللون الأسود، لا تكاد تميز أي ملامح منه سوى ذلك الفم الكبير المفتوح على مصرعيه، ذلك الفم الذي فُتح ليبتلع الأجساد والجثث.

يمتاز الوحش بقدميه الطويلتين جدًا، وكأنها صنعت لتدمر أي أمل في داخلك بالهرب، وكأنها علامة تخبرك بألا تحاول حتى.

يبذل الفتى أقصى جهده في الركض يحاول الهروب منه، وهو يحمل على ظهره فتاة صغيرة في العمر، نحيلة الجسد، يركض وكأن هنالك أمل، وهل كان مغفل؟ أم أنها فقط غريزة النجاة التي نادته.

تنفسه يضيق ويصبح أكثر صعوبة في كل مرة يستنشق فيها الهواء، بل يكاد قلبه يُقتلع من بين أضلعه من سرعة وحدة نبضاته، كما أن عامل دخان الحريق يجعل من التنفس أصعب وخاصة كل ذلك وهو يحمل فتاة على ظهره فالأمر أكثر صعوبة ومؤلم بالنسبة له.

لا يطارده ذلك الوحش فقط بل أيضًا يطارده الخوف، وما يقوده هي غريزة النجاة التي تصرخ في عقله بأن يسرع من خطواته، بل أيضًا وجود تلك الفتاة الصغيرة على ظهره يحثه على الاستمرار وعدم الاستسلام الآن.

فحتى إن فشل في الهرب كما المتوقع وكما يرى، فعلى الأقل يفشل وهو يحاول، يفشل وهو أمام أعين تلك الفتاة الصغيرة بطل لم يستسلم، بطل يضحي بحياته لأجلها فقط ولا غير.

-استمع إلى صوت تلك الفتاة الصغيرة تتحدث معه ببراءة شديدة غير متناسبة مع ما يمروا به من معاناة: لم تطاردنا تلك الوحوش يا أخي؟ أنا لم أفعل شيئًا خاطئًا صحيح؟ هل هذا لأنني أكلت الحلوى كلها بمفردي ألذلك تطاردني الوحوش؟

-تمسكت بملابسه بقوة وهي تحاول الاعتذار بصدق بقولها: حسنا أنا لن أفعل ذلك مرة أخرى، سأترك بعض الحلوى لك، سنتشاركها في المرة القادمة، من فضلك أخبر تلك الوحوش بالتوقف عن مطاردتنا.

كانت بريئة للغاية، وهذا ما جعل اخيها يرغب في إنقاذها وحمايتها أكثر ، فشخص في براءتها وعمرها ولطافتها لا يستحق الموت في مثل ذلك السن المبكر.

وعلى الأقل لا يستحق الموت بتلك الطريقة المؤذية والسوداوية، فقط الوحوش من يستحقون الموت هنا بتلك الطريقة، ولكن اخته ليست وحشًا، لن يسمح لها بالموت هنا!

-يربت على رأسها ولا ينفك يطمئنها وهو يقول: لا تخافي يا أختاه، لن يمسكنا ذلك الوحش، فانت لم تفعلي اي شيء خاطئ، فلننتظر قليلًا، لا بد أنه سيأتي أحد الأبطال أو الجنود الآن في أية لحظة لكي ينقذنا منه، فقط لا تنظري إلى الخلف.

يقول لها هذا وهو على وشك السقوط ولا يستطيع التماسك، الفتى يحاول التقاط أنفاسه بصعوبة ولكن الأمر أشبه بتخلي رئتيه عنه، رغم أنه يحاول أن يطمئنها ومع ذلك يرغب هو في من يطمئنه.

يرى أمامه كثرة تلك الوحوش التي استمرت في مطاردة البشر بشكل صاخب، ليشعر أنه اقترب من اليأس ومع ذلك يريد المحاولة لآخر لحظة في حياته الصغيرة مثل ما يفعل الجميع من حوله تحدث مع شقيقته يواسيها كما يواسي نفسه بحديثه ذلك: كل شيء سيكون بخير سننجو من ذلك سنفعل.

قبل أن يكمل حديثه سمع صوت دوي زئير غريب في المكان، ليشهد اندفاع وحش عملاق بالنسبة إلى حجم الفتى، تتحطم المنازل والمباني المتوسطة بأضرار واحداً تلو الآخر، وتجمع حول النار سحابة كثيفة من الدخان، فترى الوحش العملاق بين النار ولم يتعرض بعد لأي ضرر.

القدرة الدفاعية له مرعبة للغاية مما تجعل الناس تقع باليأس، زئير غريب ظهر من ذلك الوحش العملاق جعل الوحوش الأخرى تصاب بالجنون وتندفع أكثر اتجاه الأشخاص الذين يحاولون النجاة بحياتهم وأصوات تهتف بصراخ: اتركونا أرجوكم، فلينقذنا احد.

كان المكان في فوضى، كل شيء تحول لكارثة، تلك أرض حرب ولا مجال للنجاة بها، وكأن أبواب الجحيم انفرجت ورمت بكل شياطينها في الأرض.

وكأن هؤلاء الوحوش والشياطين انتظروا وسُجنوا لعدة قرون في انتظار تلك اللحظة، لحظة لا قيود بها.

لا يزال الذبح مستمر بشكل محموم، حشود صاخبة، رائحة دماء تتخلل الهواء شعر الجميع باليأس الحقيقي، بعيونهم الحمراء كالدم، كانت تلك الوحوش شرسة مشابهة للأساطير تندفع للداخل أمام صراخ صيحات عاجزة تغمر المكان .

طفل يبلغ من العمر ثلاث أو أربع سنوات مع دمية مصنوعة من الخشب في يده، النظرة في عينيه نقية بريئة للغاية عندما هرع الوحش اتجاهه، لم يكن الطفل يعلم أنه في خطر على الإطلاق كان فضوليًا جدًا ويتمتم: حصان كبير، أريد أن أركب حصانًا كبيرًا.

أي شخص سيرى هذا المشهد أمامهم سيشعر بالرعب والحزن، ولكن ذلك في ظل الظروف العادية، الآن الوضع مختلف لا أحد يجرؤ على الاندفاع، والدة الطفل ليست بعيدة عنه، لم تكن الأم قوية وعلى الرغم من أن وجهها كان شاحبًا بسبب الخوف ودون وعي منها اندفعت إلى اتجاه الوحش وهي تهتف: لا تلمس طفلي لا تلمس طفلي.

أمال الوحش الغريب رأسه وكأنه منزعج للغاية لأن الطفل لم يكن خائفا وظل يردد: أنا أنا حصان كبير.

بعد هدير مرعب ابتلع الطفل أمامه دفعة واحدة، تحت نظرات والدته المصدومة.

اندفعت والدة الطفل يائسة ولكن لم يكن لديها الوقت سوى لالتقاط زاوية ملابس الطفل فانطلقت صرخة شديدة ونظرت والدة الطفل إلى الوحش بعيون باردة وهي تهتف: أعيدوا لي طفلي، أعيدوا طفلي.

رمت الصخرة التي كانت في يدها على الوحش لكن لسوء الحظ تحطمت على الفور، وسمعت زئيرًا غاضبًا، ثم ابتلعت أم الطفل وسيل الدم من زاوية فم الوحش حيث كان يقطر في المكان، تحطمت الحياة الهادئة تمامًا وبدت الألعاب النارية في العالم وكأنها تحولت إلى برودة مطهر في غمضة عين.

لا يوجد من بينهم أي بشري قادر على مواجهتهم، لا قوة ولا مهرب، الجميع مدرك لمصيره المحتوم الآن، تلك هي النهاية بلا شك.

فأكبر مخاوفهم قد تحققت، أكبر مخاوفهم تحيط بهم الآن وتبتلعهم وكأنهم حشرات لا قيمة لها.

شعر الفتى الصغير بالعجز بعد أن رأى ذلك المشهد، هو فقط يحاول إنقاذ شقيقته رغم عدم ثقته بالنجاة بنفسه، فرغم كل ذلك هو نفسه طفل صغير في النهاية، لأول مرة يتساءل لما الحياة تختبر صبره وقدرته على التحمل طوال الوقت.

بدأ يشعر بأن كل شيء يحترق أمام عينيه، ليصبح تدريجيًا في موقف صعب لا يحسد عليه، يشعر بالإرهاق الجسدي والعقلي، بالنسبة لطفل في مثل ذلك العمر كان على وشك أن يفقد الوعي.

فللإنسان وإن قاتل طاقة، إن لم يرغب في فقدان الوعي تلك الرغبة لن تغير شيئًا إن أمر جسده بالإغماء، وإن رغب المرء في النجاة، تلك الرغبة لن تغير شيئًا إن وهن جسده وخارت قواه ، لذلك بعد أن شاهد ذلك المشهد للتو أصبح لديه شعور قوى بالعجز ورغبه بترك ما يجب أن يحدث.. يحدث.

لذلك سقط الفتى المسكين ذو الجسد الهزيل على الأرض، حاول النهوض ولكن يأبى جسده الضعيف على الاستجابة لطلبه هذا، ماذا يفعل؟ هل حان الوقت له لان يستسلم، وقوعه الآن يعني شيء واحد فقط وهو عدم نجاة أخته الصغرى.

في تلك اللحظة لم يعد يأبه لأمر نفسه أو لحياته وموته، كل ما يشغل باله ويجعله يتساءل باستمرار ما هو ذنب تلك الصغيرة المسكينة في الحصول على أخٍ كبير لا حيلة له أو قوة؟ أخ ليس لديه القدرة على حمايتها أو إنقاذها من تلك الوحوش، أخ يهوى أرضًا في استسلام تام حين تنفي قواه.

بالكاد يحاول الوقوف مرة أخرى حتى يجدا صوتًا مرعبًا يتخلل آذانهم يأتي من خلفهم مباشرة، ليعلمهم بذلك بأن الوحش لقد أصبح وراءهم مباشرة، ليجعل الفتى يحاول الهرب بأخته مرة أخرى حتى وإن كان عن طريق الزحف.

يعرفون جيدًا أشد المعرفة أن ذلك الوحش يكاد يكون ملتصق بهم من الخلف الآن، ولكن لا أحد لديه الجراءة على النظر للوراء من شدة الرعب والخوف.

بقيا في أماكنهم ومرت بضع ثوان وهم مغمضين أعينهم وقد تقبلوا مصيرهم بالموت المحتوم، ولكن تعجبوا بعدم حدوث شيء، بل بعد أن ركزوا قليلًا لاحظوا أن الصوت المرعب قد اختفى.

هل اختفى الصوت لأنهما انتقلا للنعيم؟ ألم يشعر بشيء لأن الوحش قضى عليهم في سرعة كبيرة؟ أم أن الوحش يحاول اللعب بنفسيتهما قبل أن يقتلهما.

استدارا بوجههما إلى الخلف ليعود البريق إلى أعينهم بعدما رأوا ذلك المشهد.

لم يبالوا بشأن الوحش الذي تم شطره إلى نصفين وتلك الدماء التي تسيل في المكان، لم يلتفتا لذلك المشهد المرعب.

كل ما جذب انتباههم هو شخص يلبس درعًا قاتمًا، يمسك في يده سلاحًا غريبًا، مقدمته سيف ومقبضه يحتوي على جوهرة ويبدو كما العصي السحرية.

دمعت عيون الفتى وأخته بعدما رأوه وهم يرددون "لقد أتى، هذا الدرع القاتم لابد أنه هو، أقوى ساحر في آركادينا جاء لإنقاذنا".

..

"لا بد أن هؤلاء الناس حمقى، فلا شيء في هذا العالم يدعوا إلى التفاؤل والاستمتاع"

كلمات ترددت على لسان باتريك وفي داخل عقله، ذلك الشاب المتناقض، فرغم قوله ذلك إلا أنه دائما ما يحاول الاستمتاع بوقته حتى ولو كان هذا على حساب الأشياء المهمة في حياته.

في الصباح الباكر، بداية يوم صحو والسماء صافية زرقاء، نهض باتريك من سريره وتجهز للخروج ثم ذهب إلى جامعته.

اعتاد باتريك في ذلك الروتين سلوكه للطريق الأطول إلى جامعته؛ لكي لا يحتك بأناس يعرفهم يسلكون الطريق العام (الطريق الأقصر بالنسبة له إلى الجامعة).

وصل باتريك إلى جامعته، ثم جلس على المدرجات الخاصة بالمحاضرات، وتحديدًا على آخر الطرف.

جلس بجانب النافذة حتى لا يلمحه أحد في أثناء المحاضرة عندما يكون عقله سارح وهو ينظر من النافذة، فهو يحب فعل ذلك حتى اتخذها عادة، عادة بالتحديق في الغيوم ومراقبتها تتحرك لتخبره بأن الوقت يمر وتلك المحاضرة على وشك أن تختتم.

كانت حياة باتريك تحتوي نوعًا من الروتين، ذلك الروتين في حياة الجميع، الشيء الوحيد الذي بوسعه تغير هذا الروتين وكسره هو موسم الامتحانات لينتقل لروتين أشد بؤسًا.

انتهى الدرس وفي فترة استراحة ما بين محاضرتين، طفق يتأمل باتريك سقوط أوراق الشجر من النافذة -فقد كان فصل الخريف-، وهو يفكر باحتمالية كون كل ورقة تسقط هي بمثابة شخص ما يفقد حياته في عالم آخر.

بل ربما تلك الأوراق تسقط كي تنتقل روحها عائدة إلى تلك الشجرة لتنمو أوراق أخرى، ربما لأجل التوازن ولتبعث من جديد في حياة أفضل بعدما تذبل وتتساقط، لهذا السبب يأتي الخريف ويتبعه قدوم الربيع والازدهار بعد موسم كامل من الكآبة والألم.

باتريك دائم التفكير في البعث ويتساءل إن كان قد يكون هناك حياة بعد الموت وهل يستطيع المرء الانتقال إلى عالم آخر عند بعثته؟ مثل أي مهووس ألعاب وقصص مصورة، بل بلغ الأمر أكثر من ذلك عند باتريك.

فهو في بعض الأحيان لا يكون منطقيًا ويقتنع بذلك جدًا، ويتمنى أن يكتشف طريقة لأن يبعث بها إلى جسد آخر وربما في عالم آخر، ولكن يعود بعدها للواقع بعد التفكير بمنطقيةٍ في مدى استحالة حدوث هذا.

فحتى قانون النسبية الخاص بآينشتاين ليس بوسعه مساعدته لتفسير البعث والانتقال لعالم آخر، ربما سيمكنه من رؤية العالم بعد مئة عام، لكنه نفس العالم وليس بعثًا ولا رؤية للعالم الذي يوازيه.

شخص متناقض ومنعزل، لذا فقلّما يملك من الأصدقاء ذلك البائس، ولكن لحسن الحظ أن لديه صديق وفيٌ جدا يدعى لوكي، يلازمه طوال اليوم الدراسي ويتسكعون سويًا في بعض العطلات.

هو يفكر في أي لعبة سيلعبها عندما يعود، بينما صديقه يحدثه عن الفتاة الجميلة التي قابلها في المكتبة، وباتريك يهز رأسه كأنه منصت إليه لعله ينتهي مما لديه فيصمت وينعم ببعض الهدوء.

لفت انتباه باتريك قول صديقه لكلمة "مكتبة" فتذكر ذلك الكتاب الذي قرأ عدة صفحات منه منذ فترة عن إعادة البعث في العوالم المتوازية ونظرية الخلود.

التفت باتريك إلى صديقه لوكي وقاطع حديثه وهو يقول:
-هذا صحيح لقد تذكرت، أنت عبقري.

-يسأله صديقه: أحقًا ذلك؟ إذا هل تظن أنها سوف تحبني؟

-يجيبه: عمّاذا تتحدث؟ من سوف تحبك؟

ضيق لوكي عيناه وهو ينظر إلى باتريك كدليل على الضجر منه والغضب.

-ثم قال: أنت لم تكن تستمع لي أليس كذلك؟ لقد كنت أحدثك عن الفتاة التي تدعى لينديانا، إنها تظل في المكتبة لساعات تقرأ بعضًا من الكتب والروايات، أحب نظراتها حين تصب جام تركيزها على القراءة.

-يرد عليه: لينديانا؟ ولكن يقال أن أبيها شخص ذو نفوذ قوية في المجتمع، لا أظنها مناسبة لك، ستشعر بالاستصغار معظم الوقت وأنت معها "هذا إذا نظرت إليك من الأساس".

-أتقول إنني لا أكفي حتى لأجذب نظراتها نحوي؟ فما لي أن أكون برفقتها، أنت قاسي القلب يا باتريك.

-لا تحزن ما قلت سوى الحقيقة أيها البائس، على كلٍ سوف أذهب إلى المكتبة، يمكنك المجيء إن أردت.

-سنذهب لرؤيتها؟ سوف تمهد لي الطريق لكي أتعرف عليها أليس كذلك؟ يا صديقي العزيز.

رمق باتريك صديقه في بعض الضجر:
-أنا لا أعرف مظهرها حتى يا لوكي، كيف لي أن أمهد لك الطريق إليها، سوف أذهب للقراءة والاستطلاع، فبئس عقل لم يتثرى بالعلوم.

-علوم؟ أنت لا تقرأ سوى الخوارق والروايات، على كل حال لا أجد متعة في القراءة كما أن جو المكتبة الهادئ يشعرني بالاكتئاب، أظن أنني سوف أغادر، فلتستمتع ولا تنخرط في ذلك كثيرا فتتأخر عن عودتك للمنزل.

ذهب باتريك إلى المكتبة الخاصة بجامعته ليقرأ بعض الكتب ذات الخيال العلمي والروايات مما شابهها.

أصبح في حيرة يختار أيًا من تلك الكتب ليقرأها، لذا قرر أن يجلب جميعها ويضعها أمامه، ثم يقرأ أجزاءً من كل واحد ليقرر أيهم سيختار ليأخذه معه إلى المنزل فيقرأه كاملًا في تأن وتركيز.

جعل يقرأ بتلك الكتب الكثيرة التي جمعها حتى وصل إلى واحد أنهى جزءًا كبيرًا منه دون أن يشعر لدرجة أن الوقت قد انقضى دون ملاحظته.

ينظر باتريك إلى ساعته فإذ به يجد الوقت قد أصبح متأخرًا بعدما انخرط في القراءة غافلًا عن نصيحة صديقه، ولكنه كان قد قرر بالفعل أي كتاب ليختار.

ذهب إلى أمينة المكتبة، سجل بياناته وأخذ ذلك الكتاب الذي كان عبارة عن رواية، تلك الرواية تتحدث عن شخص كان يعيش حياة مملة إلى حد ما، منعزل أغلب الوقت بين ألعابه ومشاهدة برامج التلفاز.

ذلك الشخص توفى جراء سقوطه من مبنى مرتفع وقد تمنى أثناء موته أن يصبح شخص ذو أهمية ليجد أنه تم بعثه فيما بعد كأحد الملوك ويعمل لديه خدم كثيرون وجنود بل وحتى سحرة رفيعي المستوى فقد تم بعثه إلى عالم سحري.

هذا النوع يحبه باتريك، السحر والخيال العلمي مع التضحية والفلسفة، هو لا يكتفي بعالم واحد وحياة واحدة، لذا كل كتاب ورواية تساعده في عيش حياة جديدة، ليكون ممتنًا لهم حين يمت، بتجربة كل شيء من واقع إلى خيال، ومن حرب إلى سلام.

ينطلق باتريك في طريقه ذاهبًا إلى المنزل لكي يكمل قراءة الرواية هذه على مهلٍ هناك ويستمتع بها قبل تسليمها مجددًا إلى المكتبة، في الطريق مر ببعض محلات البقالة ليجلب له بعض الوجبات الخفيفة.

بعد خروجه من أحد المحلات يأكل البوظة، لاحظ فتاة تنظر إليه وكأنها تطلب منه أن يعطف عليها بمثل هذا الشيء ذو المذاق الحلو الناعم، جلب لها باتريك واحدة ففرحت بها وكأنه جرو صغير رميت له بعظمة.

-سألها باتريك: هل أنتي ضائعة؟

-ردت عليه الفتاة: لا، أمي ذهبت للمحادثة في صندوق الهاتف ذاك -وأشارب بإصبعها إلى صندوق هاتف في الجهة المقابلة- وأنا أنتظرها هنا حتى تنتهي.

-هل يمكنني إذا أن أجلس بجانبك حتى تنتهي من أداء مكالمتها؟

ابتسمت الطفلة في سعادة بالغة وكأنها قد عثرت على شيء ليسلي ويشغل وقتها، فربما والدتها كثيرة الكلام وقالت الطفلة في براء:
-لا بأس في ذلك أيها العم اللطيف.

-في أي عمر أنتِ؟

-في السابعة من عمري، لكن دائما ما تقول أمي أن عقلي يسبق سني.

-ضحك قائلا: لا بد أنك داهية إذًا لتقول لك مثل هذا.

ما قاله تسبب في جعل الطفلة تقهقه في سعادة، هي قد تكون داهية وهي بالتأكيد تحب كونها كذلك.

ثم دار بينهما حديث صغير لطيف حتى انتهت الأم من تلك المكالمة وأشارت إلى ابنتها بيديها -أي فلتأتي إلى هنا لنعود للمنزل لقد انتهيت-.

نهضت والفتاة فورًا من مكانها وعانقت باتريك قائلة:
-وداعًا أيها العم، حين تقابلني مجددًا اشتري لي البوظة!

قهقه باتريك بسبب لطافتها وبادلها العناق قائلًا:
-سأفعل، لكن الآن اذهبِ لوالدتكِ وكوني حذرة من الغرباء.

فصلت الطفلة العناق وركضت في حماس ودون ملاحظة ما حولها قررت عبور الطريق ولم تلتفت، كما تعبر أية طفلة الشارع دون الخوف على حياتها، ربما لأن ما يعرفونه الأطفال هو السلام، لا الموت.

كان باتريك يبتسم فرحًا على مشهد الفتاة وهي ذاهبة إلى مقابلة والدتها، ولكن ما كاد يكمل صنع تعابير البسمة حتى انقضت بسرعة عندما لاحظ قدوم شاحنة كبيرة على وشك أن تصدم تلك الفتاة.

لم يفكر باتريك ولو لثانية، فطبيعة ذلك البائس المنعزل الأحمق أنه لم يكن ليترك أحد في ورطة دون مساعدة، خاصةً إن كان ذلك الشخص هي فتاة صغيرة قابلها صدفة منذ دقائق فقط.

فقط ليشتري لها البوظة، لابد من أن يكون هنالك لقاءٌ ثانِ، لا يمكنها الموت الآن وهنا، لا يمكنه التخلي عنها ومشاهدتها دون التحرك!

تحرك جسده من تلقاء نفسه مسرعًا نحو الفتاة، مد يديه يدفعها ليبعدها من أمام الشاحنة المسرعة التي لم تلحظها الفتاة أثناء عبورها لتسقط الفتاة أرضًا بعيدًا عنها نحو الأمان، وتنظر للخلف نحو جسد باتريك بأعين مصدومة.

فقط لم يستطع كبح نفسه، ولم يمانع أن يرمي بنفسه أمام الشاحنة، شعر بسعادة أثناء ذلك الفعل البطولي رغم أنه ما كان سبب هلاكه وابتسم للطفلة كي يطمئنها، كي يجعلها تعلم أنه ليس حزينًا أو نادمًا لفعل ذلك.

في آخر لحظات حياته، يستطيع الشعور بما حوله، رغم شتات ذهنه، يمكنه رؤية الناس تتجمع من حوله، الفتاة الصغيرة تركض نحو جثته التي أصبحت مهشمة فتنظر إليه وهي تبكي.

يحاول تحرك أي جزء من جسده أو أن ينطق بحرف ولكن لا يستطيع، ما يزال وعيه موجودًا ولكنه يعلم تمامًا أنه قد واتته المنية.

ينظر بوعيه الذي على وشك أن يتلاشى إلى الفتاة وهو يقول في نفسه "أرجوك لا تبكي، لقد فارقت الحياة ولكن لا أريد أن أجلب إلى وجه لطيف مثل هذا الحزن".

طفق يتأمل بالشتات الذي تبقى من وعيه وهو يقول "آهٍ كم تمنيت لو كان البعث حقيقيًا ليتم بعثي في عالم آخر الآن، أن أمتلك قوة سحرية وأتدرب وأصبح أقوى وأقوى، أن أحمي الناس وأن أشعر بالفخر ومتعة القتال ودحر الشر، فقط إن كانت تلك القصص التي أقرأها حقيقية.

لو أنني أصبح كذلك الساحر الذي ارتقى فوق الجميع بقوته وذكائه ثم هزم زعيم الوحوش، لو كانت لي حياة أخرى أريد أن أجعلها مليئة بالمغامرة والمتعة، لا أن أقضيها في غرفتي وحيدًا، ما هذا هل جننت أم هناك خطب ما بي؟ منذ متى وكان البعث حقيقة؟

ولكن لا بأس في تخيل مثل تلك الأشياء فأنا ميت على كل حال، ولكني أردت حقًا لو كنت قويًا مثل أبطال المانغا، ماذا لو كنت أمتلك قدرات تمكنني من تحليل التعاويذ السحرية وصدها وأن يكون جسدي قوي جدًا".

"جارٍ التحليل.."

"تم التحقق، ساحر ذو قوى جسدية فائقة مع قدرة على التحليل ومناعة ضد التعويذات السحرية"

"تم استيفاء الطلب، جارٍ نقل الروح إلى آركادينا.."

نهض باتريك مفزوعًا من نومه والعرق يغطيه وقلبه يدق سريعًا.

-قال بعد نهوضه: يا له من حلم مروع، لقد ظننت أنني متُّ حقًا ولكن كان كل ما حدث مجرد.... حلم..؟

يُفاجأ باتريك بما يراه أمام عينيه، لقد استفاق ليجد نفسه في وسط غابة كثيفة الأشجار وذات عشب أخضر، ولكن ذلك ليس كل ما في الأمر، فأكثر ما لفت انتباهه هو عندما نظر إلى يديه ليجد أنها أصبحت أكبر قليلًا ولها مظهر أكثر صلابة.

على يديه بعض الوشوم الغريبة وقدميه حافية لا حذاء عليها، والملابس على جسده بالية، يمشي قليلًا ليجد بحيرة ماء صغيرة، فيرى فيها انعكاسه، ليس هذا مظهره ولا هذا جسده.

الجسد أضخم بكثير عن سابقه والوجه أكثر وسامة من ذي قبل، والشعر مختلف اللون، وكأنه شخص آخر.

لم يفهم باتريك ما جرى، ما الذي يحدث وما خطب هذه التغييرات؟ أين هو وما حدث بعد ذلك الحادث؟ ظل يتساءل ما إن كان قد توفى وربما تكون تلك هي الجنة.

في منتصف حيرته تلك يشعر بصوت يتجلى داخل رأسه، الصوت يحاول التحدث معه.

لم يفهم باتريك ماهية ذلك الصوت، ولم يستوعب كيف يتخلل إلى دماغه، هل هو تخاطر أم أنه وهم.

-يعلو ذلك الصوت وهو يقول: استمع إلي يا أيها الشاب، لقد تم الموافقة على طلباتك وتمت إعادة بعثك بها.

-يرد عليه باتريك: عن أي طلبات تتحدث؟ من أنت وما الذي تقصده؟

-يجيبه: لا يمكنني الإجابة على ذلك ولكن يمكنك القول أنني السبب في مجيئك إلى هنا، استمع إلي لأنه ربما تكون هذه آخر مرة قد نتحدث بها، لقد تم تحقيق متطلباتك ولكن لا تظنّ أن الأمر سهل، بل هو أصعب مما قد تخيلت يومًا.

-يسأله باتريك: ما هو هذا الأمر الصعب؟ من أنت يا هذا وماذا أفعل هنا؟

-يكمل حديثه دون التفات إلى قول باتريك: قد تكون أنت الشخص المختار، مستقبلك مبهم لا ملامح له، قد تصبح الشخص الذي يجلب السلام وربما تكون أنت الكارثة التي ستدمر كل شيء، يا من أتيت إلى هذا العالم الذي يدعى آركادينا..

يتبع..
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي