الفصل الثالث

يقف باتريك وسط ما يقوله الكائن المرشد وهو متعجب لا يستطيع استيعاب ما قاله للتو.

-فيسأله قائلًا: محوت ذاكرتي؟ لم ذلك؟

-لا داعي لمعرفة ذلك، أما بخصوص هذا العالم فهو عالم سحري، كما أردت أن تذهب إليه يومًا، يوجد به السحر والوحوش والشياطين والأجناس الأخرى.

-يقاطعه باتريك قائلًا: أجناس أخرى؟ ما هذا.

لم يعرف باتريك يومًا عن أجناس أخرى، هو يجهل كل شيء تقريبًا وهذا التغير الكبير والمفاجيء يزيده توترًا.

-يجيبه: يطلق عليهم أشباه البشر، إنهم أجناس على شكل بشر متحورة، مثل جنس القطط أو جنس العفاريت، ولكنهم يمتازون على البشر من ناحية القوة الجسدية والسحرية، كما تختلف مدة حياتهم عن البشر.

كان هذا مثيرًا للاهتمام بالنسبة لباتريك، هذا عالم سحري غير مألوف، عالم يملك فرصة لإستكشافه والتعلم منه.

شعر باتريك ببعض الحماس، لكنه لم يكن مطمئنًا، فقد تبدأ أي كارثة ببعض الحماس، وقد كان باتريك هكذا دومًا ذو تفكير تشاؤومي ومحبط، ربما بسبب ما واجهه وبسبب الصدمات التي يحملها بداخله.

-دعك من هذا، لم قد تغير جسدي؟

-لو أنك انتظرت لسمعت الإجابة على باقي تساؤلاتك، بالنسبة إلى بعثك لهذا العالم فكان هذا بناء على أمنيتك القوية جدًا في أثناء موتك، كما كانت مثل الهدية على إنقاذك تلك الفتاة الصغيرة، كما أن هذا ممتع.

-هل بعثت روحي فقط من أجل المتعة؟

تجاهل الكائن سؤال متسطردًا: أما عن جسدك فقد كانت هذه ضريبةً لإعادة بعثك، ولكن انظر للجانب المشرق إنه جسد قوي كما طلبتَ.

شعر باتريك ببعض الريبة بسبب تجاهل الكائن لسؤاله، فلم يبدو ذلك التجاهل بدافع الضجر، بل بدا وكأنه يتجاهله في محاولة للتخفي عن شيء ما، شيء لن يحبه أو وافق عليه باتريك في حالته تلك.

-ومتى قد طلبت ذلك؟ أشعر أن رأسي سينفجر من التفكير.

-نحن بداخل رأسك بالفعل ولا يبدو كأنه على وشك الانفجار، بالنسبة "للمتطلبات" لا أظن أنك كنت في وضع يسمح لك لإدراك ما هي المتطلبات ولكنها أشياء أنت أردتها بشدة في وقت بعثتك، أي عند موتك للمرة الأولى..

-أشعر أنني أذكر ذلك، لقد كنت أريد جسدًا آخر بالفعل.

-أجل ولكن ليس هذا فقط، بل بالإضافة إلى قوة سحرية قابلة للزيادة لذا فقد منحت مهارة تجعل زيادتك في القوة أعلى من الطبيعي إلى حد ما، ويبدو أنني هنا بسبب متطلب الآخر.

-مهلا لحظة ماذا كنت تقصد سابقًا بضريبة إعادة البعث؟ وما هو المتطلب الآخر؟

-ابتسم الكائن ابتسامته المخيفة ثم قال: لأن جسدك هذا قد يكون قويًا ولكنه في نفس الوقت نقمة قد تجلب لك الأهوال.

عقد باتريك حاجبيه في حيرة:
-نقمة؟ كيف له أن يكون نقمة؟

-ستعرف لم هو نقمة بنفسك، أما الطلب الآخر فيبدو أنك أردت قوى تمكنك من التحليل والإدراك، لذا اكتسبت قدرة تدعى "لاسفيل" تلك القدرة تمكنك من تحليل بعض المهارات الخاصة والتعاويذ السحرية، ومن خلال ذلك تستطيع استخدام القدرات المحللة بل أيضًا يمكنك التعديل عليها..

-وكيف لذلك بأن يجعلنا نلتقي هنا؟

-يبدو أن تلك القدرة قد حللت طريقة الاتصال بيننا سابقًا، والتي كانت عن طريق قناة خاصة لا تفتح سوى مرة واحدة واستطاعت بذلك فتح قنوات أخرى مثلها تمكنني من التواصل معك مثل الآن، ولكن

-ولكن ماذا؟ لم لا تكمل حديثك تباعًا؟.

-دار ذلك الكائن حوله وهو يضحك ثم قال: يبدو أن ذلك قد حدث لا إراديًا منك، فرد فعلك عند التقائنا لا يوحي بأنك من فعلها متعمدًا.

نظر باتريك له وقد اشتد حنقه:
-وما الذي علي فعله الآن؟

-يرد عليه: يمكنك القول أنني كنت "المرشد" الخاص بك أي المسؤول عن عملية نقلك، ولكن لا يمكنني إملاء ما عليك فعله، فلتقرر بنفسك ما تفعله، هذه حياتك الجديدة اصنع ما شئت، مهمتي هي مراقبتك وإعطاؤك بعض النصائح فقط.

أجل، هذا منطقي، ماذا توقع باتريك؟ أن يقدم له ذلك الكائن قائمة بالمهام مثلًا؟ ربما ذلك الكائن يعرف كل شيء وأكثر من باتريك لكن ذلك لا يعني أنه طيب أو سيقدم يد العون له، فالآن تبدأ رحلة فردية أخرى لباتريك.

وباتريك يمكنه القيام بذلك. فلطالما عاش بتلك الطريقة، الأمر الوحيد الذي يختلف الآن أن بعض الخيال قد تدخل في الصورة.

-يجيبه باتريك: أظن أنني أحتاج إلى بعض الوقت لاستيعاب كل هذا الجنون ولكن.. أيمكنني سؤالك عن شيء؟

-تفضل.

-ما الذي حدث بيننا في المقابلة الأولى؟ ولماذا تحتم عليك محو ذاكرتي؟

-أجابه بطريقة خالية من المشاعر: لا يمكنني إخبارك بذلك يا باتريك، هذا محظور.

أجل، شيء آخر بديهي وعرفه باتريك، لكنه فقط قرر أن يجرب ويسأل.

-قال باتريك بشيء من الهدوء: يبدو أن هناك سببًا لعدم إخباري، ولكن ذلك الشيء الذي ذكرته بخصوص حياتي السابقة، ألا تجد أن الجزء الأخير متحيز بعض الشيء ولا يمثلني؟ فلم أكن بائسًا إلى هذا الحد.

-يجيبه مبتسمًا: لقد قلت ما رأيته فقط، لا يجب عليك التصرف بصبيانية وإنكار ذلك أيها البائس.

-لا أعلم ماذا تكون ولكنك وغد غريب كاذب، كما أن ما ذكرته لم يكن جميعه صحيحًا، فتلك الفتاة التي تدعى ريليكا، لم يحدث بيننا أي تواصل ولم تتقدم علاقتنا قط، بل أننا لم نتحدث فيما بيننا حتى.

-أجل أعلم، ذلك لم يحدث في حياتك السابقة، كما أنها لم تكن تمتلك ذلك الماضي، ولكنني كنت أقصد حياتك الجديدة، يبدو أنه اختلط الأمر علىّ بين العالمين وأنا أقص عليك ذلك.

-حياتي الجديدة؟ ماذا تقصد؟

لم يجبه ذلك الكائن بشيء، فقط أخبره بأن يحذر مما هو قادم، وخرجت من تلك العين يد وأشارت إلى قلب باتريك قائلًا "ستجد إجاباتك هنا أولًا، ثم هنا تاليًا -أشار إلى رأسه في التالية-، ولا تظن أن كل شيء سيسير على ما يرام فلا يمكنك الاعتماد علي دائمًا".

لم يفهم باتريك رسالة ذلك الكائن له ولكنه يستعيد وعيه ليجد نفسه أمام تلك البركة بعد أن كان ينظر إلى انعكاسه متعجبًا من التغيرات التي حدثت متتابعة.

-قال باتريك وهو يرمي الصخور في الماء تنفيسًا عن غضبه: تبا لذلك الكائن، دائما يذهب قبل أن يخبرني بكل شيء، ماذا يكون أصلًا؟ وما هذا؟ بعث وحياة أخرى؟ عالم سحري؟ فتاة تشبه ريليكا؟ لا أشعر أن هذا حقيقي ولكن يمكنني إدراك أنه ليس بحلم.

انفرد باتريك بنفسه كما أعتاد أن ينفرد في غرفته للرسم وحدق في المياه تسير في رفق بعيدًا وانشغل عقله بالتفكير في كل ما حدث.

هو يحاول استيعاب كل ما قاله ذلك المجهول القبيح، هو يحاول تذكر ما قيل أنه مُحيّ، ويحاول أن يعثر على طريق لطرف الخيط ليفهم كيف تسري الأمور هذا العالم.

ويا للسخرية! فالبشر بطبيعتهم يشتكون ويتذمرون من الحياة الروتينية بشكل يومي، لكن بمجرد أن تتغير حياتهم وتتخذ مسارًا غير المألوف والروتيني حتى يبدأون في الشكوى والبحث عن هدوء الروتين مجددًا.

لذا بدلاً من الجلوس والتفكير دون جدوى قرر باتريك أن يقف ويتحرك ويستكشف هذا المكان في سبيل العثور على أي مسار يساعده وبالفعل أخذ يسير بينما يتفحص المكان من حوله.

يدلف للغابة بين أشجار شاهقة في الطول ورائحة العشب القوية وصوت الفحيح الممتزج مع صوت تتدفق المياه.

في أثناء سيره في تلك الغابة يستمع إلى صوت همس بقرب أذنيه يقول له "أنقذني"، ولكن مهما بحث باتريك من حوله لا يجد شيئًا.

إنها غابة كثيفة الأشجار تنتهي بحقل كبير، لا أثر لأي شيء بجواره، فمن أين يأتي ذلك الصوت، هل من داخل عقله؟ هل جن جنونه؟ وربما أُسِر في كابوسٍ لا يقظة له وهذا كله من فعل عقله المريض.

لكن إن لم يكن كذلك فما تفسير تلك الأصوات؟ وما مصدرها؟ بعد أن بحث باتريك لبعض الوقت يقرر أن يتجاهل الأمر، خاصًة أنه الصوت توقف عن طلب المساعدة ولم يعد مرة أخرى.

يهمّ باتريك للذهاب إلى أقرب مدينة من الغابة، ولكن يرتابه بعض الخوف، فقد لا يُسمح له بعبور البوابات لعدم وجود ما يدعم هويته، كما يخشى عدم قدرته على التحدث بلغة هذا العالم مما قد يسبب صعوبة التواصل.

ظل يفكر باتريك كثيرًا ولكنه اتخذ قراره بالذهاب، فليس له أن يجني شيء من مكوثه بين الأشجار.

في أثناء سيره على الطريق المؤدي إلى المدينة، عبر من السهل ليشد ناظريه فتاة تلبس فستانًا وقبعة تحاول التقاط التفاح الذي سقط من سلتها، حتى كانت متشتتة في أي اتجاه تذهب، فقد تبعثر التفاح في كل مكان.

يذهب باتريك لكي يساعد تلك الفتاة المسكينة، يمسك تفاحة وينظر إلى الفتاة ليحاول سؤالها إن كانت تحتاج إلى المساعدة، ولكن تجحظ عينيه في مكانها من شدة التعجب.

-ثم قال لها بلا وعي: ريليكا!

فوقع في صدمة قوية من مظهرها الشبيه بتلك الفتاة ريليكا، بل إنها لتكاد تصبح نسخة منها.

-قالت له وهي متعجبة: عذرًا؟ ماذا يعني هذا؟

يتبع..
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي