الفصل الثاني

- "باتريك فينهارت"، شاب في الواحد والعشرين من عمره، يعيش حياته باعتدال بين ثنايا الدراسة والعمل، بالإضافة إلى العمل بدوام جزئي ليغطي تكاليف حياته ومعيشته.
 
يقولها ذلك الصوت الغريب الذي قال لباتريك أنه تم بعثه إلى عالم آخر.
 
يفيق باتريك ليجد أنه في مكان لا ملامح له، عالم من اللون الأبيض ولا ترى له أي بدايات، لا حوائط ولا أعمدة ولا حتى سقف، فراغ ممتد إلى ما لا نهاية. 
 
كان باتريك يقف مجردًا من ملابسه (عارٍ تمامًا)، لا يجد شيئًا حوله سوى كيان غريب لا يستطيع تمييز ملامحه من غرابته، يصدر منه ذلك الصوت منذ قليل.
 
يجد باتريك أنه لا يستطيع التحدث بينما يقول الكائن:
-كان يعول باتريك على نفسه، حيث قد طرد من منزل عائلته بسبب مشاكل قد حدثت في الماضي، مما دفعه لأن يقسم حينها بأنه لن يعود مجددًا إلى ذلك المنزل.
 
ثم يرفع يديه ليكمل قوله: يا لهذا البؤس، فالحياة دون مأوى يشارك به عائلة محبة مبهجة وداعمة، كالحياة دون معرفة سبيلك وهدفك والعيش كيتيم بعد أن ولدت ابنًا يجعلك تجرب مرارة الخسران والفقد عكس أن تولد وحيدًا، فليس بوسع الانسان أن يخسر ما لم يملك يومًا.
 
يتحرك الكائن يمينًا ويسارًا كمن يحدث نفسه قائلًا:
ذلك الفتى بدأ يعتني بنفسه وحيدًا منذ أن كان في سنته الثانية من المدرسة العليا (الثانوية) أي في المرحلة الحادية عشر، مع عمر يناهز السبعة عشر عامًا، لقد تعرض لمشاق عديدة حتى فقد شغفه في حياته وأصبح متجهمًا معظم الوقت.
 
يتلوى الكائن على نفسه وهو يقول: آه كم هذا محزن، فقد كان هذا هو العمر الذي يرى به الفرد بداية سبيله نحو النضج ومرحلة الشباب وكم كانت تلك الرؤية غير محمودة، والأشد قسوة أنها البداية فحسب وكلما سار أكثر في ذلك السبيل كلما إشتد حزنه وفقد شغفه ونضُج وحيدًا وكئيبًا حتى بات شخصًا لم يكن ليحب أن يكون عليه منذ طفولته.
 
يرد على نفسه بصوت مختلف: حين ينضج البشر، يعلمون الحقيقة وأنه حتى إن كنت مستعدًا للتضحية بكل ما تملك من روح وجسد في سبيل تحقيق أحلامك لن يكُن هذا كافيًا في بعض الأحيان.
 
 ليجيب على نفسه أيضًا: أجل، فلم يكن هذا كافيًا في حالة بطلنا الوحيد، لذا بعدما خسر شغفه، خسر إيمانه بنفسه أيضًا، وظن أن حتى روحه وجسده بلا معنى أو جدوى.
 
تابع ذلك الكائن الغريب سرد ماضي باتريك ليخبرنا بعد ذلك عن تخرج باتريك من مدرسته العليا ودخوله إلى الجامعة بتخصص الفنون.
 
 فقد كان يهوى الفن بأنواعه وخصوصًا الرسم لسببين، الأول أنه كان يجد بعض الراحة في الرسم والهروب من تعقيدات الحياة.

والسبب الآخر هو تعلقه بالألعاب والرسوم المتحركة، حتى كان يطلق عليه البعض لقب "المهووس" أو "الأوتاكو".
 
وكان هذا الشغف مجرد وسيلة أو سبيل ليتهرب به من ظلمة الواقع ومرارة الحياة، فكلما أحس بأن الظلام يتناوله كلما دلف لغرفته وانفرد بفنونه وشخصياته المفضلة، كانت عزلة من النوع المحمود.
 
التحق بنادي الرسم في جامعته حيث المكان الذي تعرف فيه على فتاة جميلة ذات شعر أشقر وعينين زرقاوين، كانت محط أنظارٍ بسبب جمالها ورقتها، هذا وبالإضافة إلى أنها متفوقة في دروسها ورسامة متمكنة.
 
أعجب بها باتريك من النظرة الأولى، ولكنه لم يكن ذلك النوع من الرجال الذي قد يفكر مطولًا بشأن امرأة، وربما يرجع الأمر لانشغاله في معظم أوقات يومه مما لا يجعل له متسعًا من الوقت لكي يفكر في غيره.
 
حدث بينهما تواصل خفيف في أوقات أنشطة للنادي، في مرة اجتمع كلاهما كفريق في مشروع للنادي.
 
آنذاك تبادلا عناوين الهاتف وتواصلا فيما بينهما حتى امتد ذلك بعض الأحيان إلى منتصف الليل.
 
اشتعل بينهما فتيل شعور رائع محترق، قد يكون ثقة متبادلة أو صداقة ممزوجة بإعجاب، وربما يكون هذا فتيل الحب.
 
ولكن كان كلاهما دائمًا يضع مسافة أمام الآخرين، فهم يخافون معرفة الناس لماضيهم وحقيقتهم، فكما يخبئ باتريك فعلته الشنيعة مع عائلته، كانت ريليكا (الفتاة) تخبئ في ماضيها الكثير.
 
كان الجميع يحسدها على ما تملكه، فهي شديدة الذكاء ورياضية وفي قمة الجمال، ولكن لم يعلم أحد ما تحمله في نفسها وراء ذلك، لذا صدقت مقولة لا تحكم على الكتاب من غلافه.
 
فربما يكون غلافه ركيكًا لكن يحمل في ثناياه أعظم ما قد يقرأه فمك وأروع ما تبصره عينك.
 
وربما يكون الغلاف مثاليًا وشديد الجمال، ولكن ما بداخله حسرة وبؤس كاتب كانت حياته جحيمًا فحاول قدر الإمكان الحفاظ على مظهره الخارجي ومنع نفسه من الانهيار.
 
تقدمت علاقة باتريك وريليكا تدريجيًا حتى أفصحت عما بداخلها، توقعت هي آنذاك أن باتريك سيتركها وحيدة بعدما عرف حقيقتها، ولكن الأمر ليس كذلك، بل ما حدث أن باتريك ازداد تعلقًا بها.
 
أغلب الظن أنه وجد أخيرًا من الناس من يشابهه وربما يستطيع أن يثق به، فعاد هذا على نفسه بالتفكير فيها أكثر من ذي قبل والرغبة في كونه معا.
 
ولكن يعترض طريقهم عدة عوائق تجعل من ذلك مستحيلًا، هذا وبالإضافة إلى وضع باتريك الصعب والمجهول، بل حتى إنه رغم ما شعر به تجاهها لم يخبرها بحقيقة ماضيه.
 
لقد قرر أن ما حدث آنذاك مجرد صفحة من كتاب حياته قد قطعت منذ زمن بعيد وعفى عنها الزمن (نُسيت).
 
حتى صديقه المقرب ومن يحيطون به لم يخبرهم بشيء وكان متزمتًا وحيدًا محبًا للألعاب منعزلًا عن العالم، ذلك الانطوائي البائس الذي لم يجد له سوى غرفته ملاذًا آمنا بعدما سئم من الناس وأمورهم.
 
عاش متوحدًا دون أن يمتلك لحياته أي طعم خاص أو معنى، فقد أصبح شخصًا لا فائدة ترجى منه.
 
نظر الكائن إلى باتريك ليجده يحاول التحدث فيبعث إليه بشيء غريب يشبه الضوء يجعل باتريك قادرًا على التحدث.
 
-يحدثه الكائن: يبدوا أنك استيقظت، في أثناء سردي لماضيك، هكذا كانت حياتك صحيح؟
 
-يسأله باتريك بعدما تمكن أخيرًا من التحدث: من أنت؟ وأنى لك أن تعرف عن ماضيّ الذي أخبئه؟

-يرد عليه ذلك الكائن: ها قد التقينا للمرة الثانية، يبدو أنك لا تتذكرني ولكنني لست متعجبًا من ذلك.
 
-يجيبه باتريك متعجبًا: المرة الثانية؟ هذه المرة الأولى التي أراك فيها الكائن الغريب، ما هذا المكان وماذا تريد مني؟ وكيف لك أن تعرف ماضيّ؟ كما أن بعض ما قلته بخصوص ذلك خاطئ تمامًا.

-يجيبه: بالطبع لن تتذكر ما حدث في المرة السابقة، ولكن كما قلت عندما استفقت في آركادينا، أنا هو من كان مسؤولًا عن نقل روحك إلى هذا العالم، أما عن هذا المكان فهو بؤرة ما في داخل عقلك البائس، وشكلي هذا تجسيد غير حقيقي.

-يرد عليه: وهل يمكنك توضيح ما الذي جاء بي إلى هنا؟ أقصد ماذا جاء بك إلى عقلي؟ وكيف لي أن يتم نقلي إلى عالم آخر ولم قد تغير جسدي؟ وماذا تكون أنت على كل حال؟.

يضحك ذلك الكائن ضحكة مزعجة قليلًا، بشكله الذي يبدو مثل العين الكبيرة التي يتوسطها فمّ مرعب، والذي فُتح عندما ضحك حتى ظهرت أسنانه الكثيرة والمخيفة.

-أجابه: يمكنك الهدوء يا باتريك وسأجيبك على جميع تساؤلاتك، لقد قلت لك سابقًا أنني لن أستطيع التواصل معك مجددًا ولكن يبدو أن في إمكاني التواصل معك بين الحين والآخر لذا انتهزت هذه الفرصة لكي أوضح لك ماذا يجري، فقد شعرت بأنني مدين لك بتوضيحٍ بعد أن محوت ذكرياتك.

يتبع..
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي