الفصل الرابع

كانت إحدى الأمسيات في شهر فبراير عندما رافقنى خادم كبير السن فقط - لأن باربرا لم تكن مدرجة في الدعوة - عبرت لأول مرة عتبة منزل مارتن فريزر، وقد ساد جو من السلام العميق المسكن، دخلت إلى هناك بقلق غامض ومضطرب بسبب عدم اللياقة حيث بقي مضيفي في صالة المدخل، وبينما كنت في طريقي إلى المكتبة، سرقني شعور بالخجل مما دفعني إلى التراجع، ولكن مع تذكر أنني كنت أرتدي أفضل ثيابي، استعدت ثقتي وتقدمت مبتسمة إلى الغرفة؛ كانت غرفة منخفضة، مغطاة بألواح خشبية قاتمة، بها أثاث عتيق ضخم ألقى بظلال عميقة وفضولية حولها، و في ضوء وميض النار الذي وقفت قربه لوسي فريزر، تلك التى لم أتوقع أن ألتقي بها، وهى طفلة صغيرة جذابة، ترتدي زي امرأة، وتتمتع بملكية الذات للمرأة وسهولة التصرف، قالت وهي تتقدم لمقابلتي وتمد يدها لتقودني إلى المقعد بعد أن أمسكت يدي بقوة غريبة تشبه المشبك، وهى تتمتع بالرشد على عكس الجبن العادي أو الخمول الذي يتسم به سلوك الأطفال، و قربتنى إلى كرسي أمام النار ثم جلست أمامي تقريبًا.

-أنا سعيدة جدا برؤيتك.

لاحظت بها بعض الملاحظات المحرجة التى تردت عليها، ثم لاحظت في الخفاء وفي صمت، المسترد ( كلب مستكشف أسود ضخم) يرقد بلا حراك عند قدميها فى الكرسي الذي استقرت عليه، وهو مغطي بطيات الفستان الطويل الشبيه بالرداء الذي كانت ترتديه، وكانت هناك تعبيرات عن الهدوء، والتأمل قليلاً، على ملامحها الصغيرة زادتها جمالا كعادة غريبة تتمثل في إغلاق العينين ، والتي نادرًا ما تُرى عند الأطفال، ودائمًا ما تمنحهم مظهرًا متماثلاً، وبدا الأمر كما لو أنها انسحبت إلى تواصل ذاتي منعزل، لا يمكن التعبير عنه بالكلمات أو النظرات حتى لقد صرت خائفة من المخلوق الصامت الغريب الجالس دون أنفاس أو حركة ظاهرية في ضوء النار الراقص اسفل قدميها، وكم كنت سعيدًه عندما انفتح الباب، ودخل الشخص الذي أسعى إليه.
نظرت إليه بفضول، فقد تعافيت من إحساسي بالخجل، وكان من دواعي سروري أن أفكر في مدى عدم وعيه بخططنا المحددة المتعلقة به حتى ذلك الحين، كل الشباب الذين قابلتهم يخافون من أن يُقبض عليهم أكبر من رغبتي في الإمساك بهم، لذلك كانت منافستنا مفتوحة ومتساوية، لكن مارتن فريزر لا يعرف شيئًا عن حيل المرأة..

تذكرت أن شعري البني سقط في تجعيد الشعر حول وجهي، وأن عيني الزرقاء الغامقة كانت معبرة، عندما نظرت إلى الأعلى لألتقي بنظرته، لكنه واجهني بوجه يشبه الموتى من الانشغال الشديد واللامبالاة التي لم تسمح له بملاحظة سحري الشخصي، وارتجفت لتذكرى أن كل ما أعرفه عن علم الفلك هو ما تعلمته في المدرسة في أسئلة مانغول.

قال الرجل المخيف الصارم :

والدي، السيد فريزر، مقيد تمامًا في غرفته الخاصة، لكنه يرغب في زيارة منك، و يشرفني أن أريكم ما تريدون رؤيته من خلال التلسكوب، وأثناء ما أقوم بتعديله، هل يمكنك التحدث معه لبضع دقائق ؟ و سوف ترافقك لوسي فريزر .

نهضت الطفلة، وأخذت يدي مرة أخرى في قبضتها القوية، وقادتني إلى غرفة جلوس الرجل العجوز، الذي قال بعد أن نظر إلي طويلاً:

أنت مثل والدتك أيتها الطفلة، لديك وجهها وعينيها ؛ وليس لك مثقال ذرة من أختك باربرا، تعرفين كيف سُميت ، ستيلا؟
وأجبته بأن والدي قد أسماني على اسم متسابق مفضل لديه، وللمرة الأولى أخبر أحداً بالمعنى المشتق منه اسمي.

ضحك الرجل العجوز وقال "مثله تمامًا" أتذكر الحصان جيدًا، كنت أعرف والدك كما عرفت ابني مارتن، هل رأيت ابني أيتها الشابة؟

-نعم اعتقد ذلك.

-هذه حفيدتي لوسي فريزر آخر فرد من الأسرة القديمة، لأن ابني ليس رجلاً متزوجًا، وقد تبنيناها وريثة لنا، وعليها أن تحافظ دائمًا على اسمها، وأن تكون مؤسسًا لمجموعة أخرى من جماعة فريزر.

وقفت الطفلة بعيون متأملة ومكتئبة، وكأنها تنحني بالفعل بسبب ثقل همومها ومسؤولياتها؛ فيما تجاذب الرجل العجوز أطراف حديثه، حتى دوى صوت أرنغ ( آله مموسيقية )عميق في المنزل عندها قالت لي

-عمي جاهز لنا.

توقفنا عند باب المكتبة، لأنني وضعت يدي بشكل ما على كتف لوسي فريزر لأوقفها لبعض الوقت، وقفت مستمعة إلى الموسيقى الرائعة التي تتنساب من الأورغن، ومثل تلك الموسيقى لم أسمع بها من قبل؛ لقد كانت تحدث هديراً مرتفعاً مثل موج البحر المتواصل، وكان هناك نغمة عويل واحدة بدت وكأنها تخترقني بألم لا يوصف، عندما انتهى الأمر وقفت أمام مارتن فريزر صامتًة وخاشعة .

تم وضع التلسكوب عند نهاية الشرفة، بحيث لا يمكن للمنزل أن يعترض رؤيتنا؛ وهناك تابعت أنا ولوسي فريزر عالم الفلك، وقفنا على أعلى نقطة في أرض مرتفعة بشكل غير محسوس ، كان أفقها على بعد عشرين إلى أربعين ميلاً، وتم توسيع قبة السماء اللانهائية فوقنا، إن محيطاً من السماء لا يمكن تصوره من قبل سكان المنازل والجبال سوى تصور ضئيل، قوات النجوم المتلألئة، الليل المظلم كالقبر، الأصوات غير المعتادة لرفاقي، كل تلك الأشياء عمقت الرهبة التي كانت اجتاحتني،

وعندما وقفت بينهم أصبحت جادة ومشغولة مثلهم؛ لقد نسيت كل شيء ما عدا عظمة الكون غير المفهومة التي كشفت لي، والاكتساح المهيب للكواكب عبر مجال التلسكوب، يا لها من نضارة وكم من الرهبة والبهجة أتت عليّ، ويا لها من فيضانات فكرية جاءت موجة تلو موجة عبر ذهني، وكم شعرت بالضألة وأنا أقف قبل هذه البرية من العوالم.

وتساءلت مثل الأطفال -لأن كل التكلف كان قد أختفى منى - إذا ما كان بإمكاني العودة قريبًا؟

نظر مارتن فريزر بعينيّ المرتفعة بنظرة ثاقبة وثاقبة، أنا لم أخمن ما خلفها، لأنني كنت أفكر في النجوم فقط، وبينما كان ينظر، استرخى فمه في ابتسامة سعيدة ولطيفة.

أجاب: "سنكون سعداء دائمًا برؤيتك".

كانت باربرا جالسة من أجلي عندما عدت، وكانت على وشك مخاطبتي ببعض الملاحظات التأملية الدنيوية، عندما قاطعتها بسرعة قائلة

"لا أريد سماع كلمة واحدة باربرا، ولا سؤال واحد، أو إنني لن أقترب من هولمز مرة أخرى"

لا أستطيع الإسهاب في التفاصيل، ولكن كنت أذهب إلى المنزل كثيرًا ومن خلال الروتين الممل لحياة السيد فريزر ولوسي، كنت (على ما أظن) مثل خيط من أشعة الشمس، أو كسحابة مضيئة تزحف عليهم لتنير لكليهما ، جلبت لهما الإثارة والفرح، ولذا أصبحت عزيزة وضرورية لهما، لكن عن نفسي حدث تغيير كبير ولا يصدق.

لقد كنت تافهة تبحث عن ذاتها، كنت بلا روح لكن الدراسة الجادة التي بدأتها وتبعتها بدراسات أخرى جاءت متتابعة أيقظتني من الجنون، واخذتني إلى حياة النشاط العقلي حتى نسيت هدفي تمامًا، ولقد أدركت في الحال أن مارتن فريزر كان بعيدًا ومتوازنًا مثل النجم القطبي لذلك أصبحت له مجرد تلميذة مجتهده ونهمه، ولم يكن بالنسبة لي سوى معلم وسيد مخيف وصارم، أستمتع به من خلال إجلالي العميق في كل مرة عبرت فيها عتبة منزله الهادئ، سقطت من روحي كل الأخطاء الدنيوية والغنج الذي كان من طبيعتي أصبح مثل ثوب غير لائق ، ودخلت إلى هيكل بسيط وحقيقي كمتعبدة .

مضى الصيف السعيد، وتسلل الخريف، ولثمانية أشهر كنت أزور آل فريزر باستمرار، ولم أخدعهم أبدًا عن قصد بالكلام أو المظهر أو النبرة، كنت أنا ولوسي فريزر نتطلع منذ فترة طويلة إلى حدوث كسوف للقمر، والذي كان مرئيًا في وقت مبكر من شهر أكتوبر، تركت منزلي وحدي في شفق ذلك المساء، وعقلي يتفكر في المتعة القادمة ، عندما اقتربت من هولمز، فاجأني أحد الشباب الذين كنت قد واعدتهم في الأوقات السابقة وقد بدا لي صوته مألوفًا :

مساء الخير ، ستيلا لم أرك منذ فترة طويلة، آه ! أنت تتابعي لعبة أخرى على ما أظن ؛ لكن هل أنت الأن تطمحين إلى مستوى أعلى من اللازم هذه المرة!!

حسنًا، أنت محظوة الآن، لأنه إذا لم يتقدم لك مارتن فريزر، فهناك جورج يورك، وقد عاد للتو من أستراليا بثروة هائلة، وهو يتوق لتذكيرك ببعض التفاصيل الدقيقة بينكما قبل سفره، لقد كان يرينا خصلة من شعرك بعد العشاء في التاج أمس.

لقد استمعت إلى هذا الخطاب بدون مظاهر خارجية، لكن واقع مذلتي وإهانتي كان ينهشني، فأسرعت إلى ملاذي، بحثت عن حضور صغيرتي لوسي فريزر.

قلت :-لقد ارتكبت خطأ اليوم، لقد كنت مخادعة، أعتقد أنني يجب أن أخبرك ، حتى لا تفكري بى بصورة سيئة ؛ إنني أريدك أن تحبيني أكثر من أي وقت مضى لأنني لم أحكى قصة ، لكني قمت بتمثيل واحدة .

وضعت لوسي فريزر أصابعها الصغيرة على جبينها، وأغلقت عيناها في قراءة ذاتية صامتة.

ظلت تبحث للحظة ، وتحمر خجلاً مثل المرأة ثم قالت

-لقد قال عمي أن النساء، ربما كن أقل صدقًا من الرجال، لأنهم لا يستطيعون فعل الأشياء بالقوة، ولهذا يفعلونها بالمك، إنهم يعيشون زورا، إنهم يخدعون أنفسهم، أحيانًا تخدع النساء من أجل التسلية؛ لقد علمني بعض الكلمات التي سأفهمها بشكل أفضل يومًا ما (لتمتلك نفسك كن صادقا، وسيأتي الأمر مثل الليل والنهار ، فلا يمكنك حينئذٍ أن تكون رجلاً كاذبًا) .

وقفت أمام الطفله خجوله وصامتًه ، مستمعًه بخدين محترقين فيما تابعت.

أراني جدي آية في الكتاب المقدس كانت مروعة بالنسبة لي تقول بأن هناك مرارة أكثر من الموت ، وأن المرأة التي يكون قلبها أفخاخًا وشباكًا ،ويداها عصابات فإن من يرضي الله يهرب منها ، ولكن الخاطئ فقط هو من ستأخذه.

خبأت وجهي في يدي على الرغم من عدم وجود عين علي ؛ لأن لوسي فريزر كانت محجبة بأغطيتها مرتعشة، وبينما وقفت مرتبكة ومتهمة نفسي ، وجدت من وضع يداً على ذراعي ، وقال صوت مارتن فريزر:

- "الكسوف ، ستيلا!"

بدأ هذا الكلام بأسمى الأول، والذي لم ينطق به من قب، شعرت بالقلق التام خاصة عندما وجدت أن لوسي فريزر لن ترافقنا إلى الشرفة عندما انحنى مارتن فريزر ليرى ما إذا كان التلسكوب قد تم تعديله بشكل صحيح لاستخدامي ، انكمشت منه فصاح قائلاً :

-ما معنى هذا يا ستيلا؟

وعندها انفجرت في البكاء، فقال:

-هل أتحدث معك الآن ستيلا؟ بينما لا يزال هناك وقت قبل أن تغادرينا، إنني أتساءل هل يتشبث قلبك بنا كما تتشبث قلوبنا بك حتى أننا لا نجرؤ على التفكير في الفراغ الذي سيكون في منزلنا عندما تذهبي؟ ما نشعر به الأن نحن لم نعايشه من قبل أن نعرفك.

-أنت صحتنا وحياتنا، لقد رأيتك كما لم أرى امرأة من قبل ، ولم أجد خطأ فيك ، لؤلؤتي، جوهرتي، نجمتي؛ حتى الآن كانت المرأة والخداع مرتبطين بشكل لا ينفصم في ذهني، لكن قلبك البريء هو بيت الحق، أعلم أنك لم تفكري في هذا ، وأن شدتي تزعجك ؛ لكن قولي لي بوضوح إذا كنت تستطيعين أن تحبيني ؟
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي