غبار كسبيال

yasmin92480`بقلم

  • الأعمال الأصلية

    النوع
  • 2023-02-25ضع على الرف
  • 52.2K

    جارِ التحديث(كلمات)
تم إنتاج هذا الكتاب وتوزيعه إلكترونياً بواسطة أدب كوكب
حقوق النشر محفوظة، يجب التحقيق من عدم التعدي.

الفصل الأول مختلف عقليا

(١)

"مختلف عقليا"


توغل وسط العنابر البيضاء الباهتة، المتراصة برواق طويل ممتد، يهيم المرضى أمامها بشرود وملامح متجهمة، بجسد نحيل متواري في ملابس كانت يوما ما بيضاء حتى أصابها الشحوب كوجوههم..

صعد سلالم مبنى المشفى وهو يبتسم لزملائه المتعجبين من وجوده بينهم، والذي لم يكن بيده حقيقة، دلف إلى مكتب مدير المشفى مباشرة وقال له بمداعبة:
_هل تلك الحالة معقدة بهذا الشكل؟!

وقف الدكتور شاكر أمامه تاركا الملف من يده على المكتب وقال بابتسامة متسعة:
_ وكيف عرفت أنها معقدة إذا؟!

أجابه ببديهية وهو يغلق الباب خلفه ويسير ناحيته:
_ صحيح لم أرى الأوراق، ولكن وجهك ترجم ما بها.

تصافحا بود بينما قال شاكر بهدوء:
_ تفضل يا حسن .

جلس حسن أمامه وهو ينتظر أن يتحدث معه، أو أن يفهمه عن سبب استدعائه الغريب، تحدث شاكر وهو يعقد كفيه أمامه على سطح المكتب قائلا بعملية:
_ أحتاجك بشدة يا حسن، معنا هنا نزيل توقفنا جميعا عنده ولم يستطع أيا منا تشخيصه.

ضيق حسن عينيه وقال باندهاش جلي على ملامحه:
_ حتى أنت؟!

أومأ شاكر برأسه مؤكدا وقال بتنهيدة يائسة:
_ حتى أنا، وكي أزيدك من الشعر بيتاً لكل منا تشخيص مختلف تماما عن الآخر، وعندما استدعيناك يأسنا.

صمت حسن لثواني وهو يحك ذقنه بسبابته مفكرا قليلا، ثم تطلع بشاكر وقال:
_ لا أريد أي معلومات عنه، ولا رؤية أي ملف كتبه طبيب، أنا أريد أن أراه بنفسي أولا كي أبني فكرتي الخاصة عنه دون أي مؤثرات خارجية.

حرك شاكر كتفيه بتسليم وأغلق الملف الذي كان يقرأه وقال بهدوء:
_ كما تريد، فقط سأخبرك أن هذا الشخص صحفي مرموق وكاتب كبير، قتلت زوجته وابنته الوحيدة ومن حينها وقد أصيب بصدمة عصبية جعلته يدخل في غيبوبة استمررت لمدة شهر كامل..

وكنا علي شفا أن نزيل عنه الأجهزة والتنفس ظنا منا أن مخه قد تضرر من عدم وصول الأكسجين إليه وأن قلبه هو ما يعمل فقط، حتي عاد بيوم للحياة بشكل غير طبيعي وكل أجهزته الحيوية تعمل بطريقة غير عقلانية، ويظن أنه شخصا آخر.

ابتسم حسن بسخرية ظنا منه أن الأمر يسير، ولم يكن يستوجب استدعاءهم له، وقال بثقة عمياء في قدراته:
_ الأمر يبدو بسيطا لا تقلق، سأجلس معه ونتحاور أنا مبدأيا كونت فكرة عامة عن تلك الحالة.

أسرع شاكر قائلا:
_ لا تتسرع، فما ستراه وتسمعه لم يمر على أياً منا، وكنا نعتقد كما طاف بخاطرك أن الأمر هين، لكن تلك الحالة أغرب من وصفها.

أومأ حسن برأسه وقال بتفهم:
_ حسنا، هل سأراه الآن؟!

ضغط شاكر زر موضوع أمامه على المكتب وقال:
_ كما تريد، سأعطي خبرا ليحيي فهو المسئول عن حالته، وإذا احتجت شيئا سيساعدك.

دلفت سيدة فقال لها شاكر بجدية:
_ اصطحبي الدكتور حسن لغرفة الدكتور يحيي من فضلك.

أشارت بيدها وقالت بانصياع:
_ حسنا، تفضل يا دكتور حسن.

وقف حسن وأغلق سترته قائلا بحماس:
_ هيا بنا لنرى تلك الحالة التي حيرت الجميع.

ترك حسن مكتب شاكر وسار خلف تلك السيدة وهو مازال يبتسم مرحبا بالجميع، توقفت أمام غرفة ما وأشارت عليها قائلة:
_ الدكتور يحيي في جلسة مع ذلك الزائر الذي استدعوك من أجله.

رفع حسن حاجبيه وقال بتعجب:
_ وهل الجميع مثلك يعرف سبب استدعائي؟!

تنحنحت السيدة بخجل وقالت بارتباك:
_ كل ما يخص تلك الحالة الجميع مهتم به، تفضل.

تركته وانصرفت؛ فأدار مقبض الباب ودلف للداخل، وجد يحيي يجلس على مقعد خشبي ويدون بعض العبارات في دفتره، رفع حسن رأسه ناحية ذلك الشخص الذي يطالعه بتحفز و بعينيه القويتان نظرة جعلته يبتلع ريقه بتوتر..

اقترب حسن منهم شاعرا بالراحة أن المسافة التي بينه وبين المريض كبيرة، بالرغم من أنهم قيدو يديه حول صدره وربط القيد خلف ظهره، خرج صوته أخيرا وقال:
_ صباح الخير يا يحيي.

التفت يحيي برأسه ناحيته، و وقف مسرعا وهو يبتسم بسعادة ثم اقترب منه قائلا بود:
_ حسن، لقد اشتقت اليك كثيرا يا صديقي.

ربت حسن على ظهره وقال وهو مازالت نظراته متعلقة بذلك الجالس بعيدا:
_ أعتقد أنك ستمل مني تلك الفترة، ومن المؤكد أنك تعرف بأمر استدعائي.

قهقه يحيي وهو يقول بمزاح ساخر:
_ بل أنا من طلبت استدعائك إلى هنا، بل وشددت على ذلك.

حرك حسن كتفيه بتسليم وقال:
_ لا عليك، فالأمر هنا يبدو غريبا، لم كل هذا الاستنفار من أجل نزيل؟!

يبدو أن كلمات حسن ضايقت ذلك المكبل الذي زمجر بقوة وهو يطالعه بغضب؛ فأسرع يحيي قائلا:
_ ليس نزيلا ولا مريضا، إنه الأمير آن ويشرفنا وجوده معنا وبيننا، ونحن هنا كي نساعده أن يعود إلى مملكة كوسابال .

وقف المريض نافشا جسده القوي العريض، وقال بصوت جاهوری قوي:
_ مملكة "كسبيال"، إنها أرض حجر الفلاسفة يا جهلاء.

تمسكا حسن ويحيي ببعضهما من الفزع، بينما قال حسن بهمس خافت:
_ مملكة ماذا؟!

ابتعد يحيي عنه وقال معتذرا:
_ أنا أعتذر، كما قلت أنني جاهل ولم أقصد التقليل من مملكتك العظيمة بالطبع.

جلس المريض مرة آخري، وهو يقول بزهو وفخر:
_ ليست مملكتي، أنا أمير مملكة "أوزغور" القوية.

ضيق حسن عينيه واقترب من يحيي برأسه قائلا بسخرية:
_ خياله خصب، فأسماء المملكتين بدا وكأنهما من مسلسل ألف ليلة وليلة.

لملم يحيي أوراقه التي تناثرت على الأرضية وقال بجدية:
_ نعم القوية، حماها الله وحماك يا آن، سأتركك الآن ترتاح قليلا طالما أنك ترفض الحديث الآن، وسآتي إليك لاحقا.

دفع يحيي حسن أمامه حتى خرجا من الغرفة وأغلق خلفه الباب الحديدي وقال براحة:
_ أعتقد أنني بسبب نوبات الفزع تلك لن أنجب يوما.

ضحك حسن ضحكة عالية وقال بنبرة متسلية:
_ تعال معي وأطلعني فقط على الرؤوس الأساسية لشخصية هذا الكاتب، خاصة بعدما استفاق من غيبوبته.

مالت الشمس فإنزاح النقاب عن وجهها بحياء، فأضاءت شرفات القصر، جلست العرافة وجد في ديوانها بوقار، حيث كانت ترتدي رداءً مرصعًا بالجواهر تتدلى منه سلسلة ذهبية مطعمة بالأحجار الكريمة، ثيابها البيضاء الواسعة تشعر من يراها بمهابة وسكينة ..

كانت تلف رأسها بوشاح أبيض وقد انسدل من فوق رأسها شال طويل غطى كتفيها وقد لفته باحتشام على صدرها عجوز كانت .. لكنها جميلة..

استأذن أحد رجال الديوان وقال بعد أن حياها بإجلال:
_ مولاتي، شغب بعض الجند في المنطقة الجنوبية ناحية مملكة أوزغور، ماذا سنفعل؟

أشارت العرافة وجد للكاتب الذي كان جالسًا بالقرب منها، وعلى يمينه الدواة والقلم وأمامه الأوراق متأهبا ليكتب ما ستقوله وقالت:
_ لا تطاوعوهم على الشغب، ولا يلبوا فيما بعد إلى الطلب.

هز رجال الديوان رءوسهم وهمهموا موافقين، مرّت لحظات ناقشوا فيها كيف يستطيعون إذابة تلك الحواجز التي بنيت بين جيش مملكة "أوزغور" ومملكة "كسبيال"، حتى يتفرغوا لما هو أهم وهو حماية "مملكة أرض الفردوس" من الأعداء، ثم قال أحدهم:

_ إن أهل المنطقة الشمالية "بكسبيال" يتأهبون دائما لما قد يفعله الأمير ينار ملك أوزغور.

أشارت العرافة وجد مرة أخرى للكاتب ليدون خلفها وقالت:
_أرسل لهم، عيني تراكم وقلبي يرعاكم، ولن يحدث شيء بأمر الله، ثم أرسل خطابا سريعا للأميرة أوسيلين أن تأتي إلي بأقرب وقت.

وأمرت وجد بإرسال من يتحقق من الأمر ويعود إليها، ثم التفتت إلى أحد رجال القضاء الذي قال وهو يرنو لرجل يقف بعيدا يراهم ولا يكاد يسمعهم:
_ مولاتي لقد قمت باستدعاء والي المنطقة الجنوبية كما أمرت وهو يستأذن بالدخول.

أذنت جود له بالدخول، وبعد أن ألقى عليها السلام، قالت بحزم:
_ أتريد أن تخرب البلاد، وتهلك العباد أنت وينار؟

فقال الوالي مرتبكا:
_ إنه يبحث عن أخيه آن يا مولاتي، وبعض الكلمات تتناثر في البلاط الملكي أن الأمير سنمار قد أعد له مكيدة للتخلص منه.

فكرت العرافة جود قليلا وقالت بحكمة:
_ سأبعث لمملكة "كسبيال" من يتحرى أمر آن لأتأكد، وأنتما لن أتهاون معكما تلك المرة.

أسرع الوالي قائلا بدهائه المعهود:
_ يا مولاتي ما تحبين أن يفعل الله بكِ إذا وقفت بين يديه؟!
فقالت وجد ببديهية:
_العفو والصفح.

قال الوالي بلهجة يشوبها الضعف:
_ فافعلي بغيرك ما تختارين أن يُفعل بك.

صمتت العرافة وجد لوهلة ثم قالت:
-  قد فعلت، ارجع إلى مملكتك وأخبر ينار أن يهدأ ويتوقف عن ذلك الشجار الدائم بينه وبين سنمار .

أسرع الوالي بالانصراف وتتبعه رجال الديوان بأعينهم ثم قال أحدهم فور مغادرته:
_ حقا يا مولاتي إنّك من أفضل حكام المملكة حلما، "أرض الفردوس" في عهدك يملأها السلام.

عادت العرافة وجد وجلست ببهاء في عرشها وقالت بتنهيدة مقتضبة:
_ وأنا والله أستلذ العفو حتى أخاف ألا أؤجر عليه.

فرغ الرجال من باقي مراسيمهم وشكواهم، وانتهى وقت الديوان وعادت العرافة وجد لقصرها واتجهت إلى تلك الغرفة التي يقف على بابها أسدين شديدين، لا يمرران أحداً سواها، ودلفت للداخل مغلقة ورائها الباب ..

سارت حتى تلك الطاولة التي تضيء بما وضع فوقها وتنفسن براحة وقالت:
_ "غبار كسبيال" .


قطع حسن الغرفة ذهابا وإيابا وهو يفكر بعمق، قطع يحيي حركته قائلا بتساؤل حذر:
_ بعد ما قلته لك ما هو تشخيصك لتلك الحالة؟!

وقف حسن بعد أن لاحظ علامات التوتر التي تطل من عينيه وقال:
_ كيف لمريض نفسي ظل بغيبوبة كاملة لمدة شهر وقد ذبل جسده كما الصور التي أريتني إياها أن يستيقظ بهذه الضخامة، والبنيان الجسدي القوي؟!

رفع يحيي صوته وهو يوقع على كل كلمة بنبرته الحادة:
_ ناهيك عن تغير نبرة صوته أيضا لذلك الصوت الجاهوري العميق.

التفت حسن ورمق يحي بنظرات ذات معني، همهم يحيي وعقد حاجبيه قبل أن يقول بتسليم:
_ نعم أعرف أن أي شخص بإمكانه تغير طبقة صوته كما يشاء، ولكن ليس بهذا المنحني في التحول.

ابتسم حسن بسخرية وقال:
_ نحن لسنا أمام حالة مريض نفسي وفقط، بل نحن نتعامل ع عقل كاتب خدع الجميع لسنوات بأمور تخص الجن والمردة وتواصله معهم ورؤيته لهم، بل والتحكم بهم؛ لذا الأمر مختلف نحن نجابه عقلا فاذاً.

وقف يحيي أمامه وقال ببساطة:
_ إنه مجرد مريض متخلف عقليا لا يدرك ما يفعله ولا ما يقوله.

لمعت عيني حسن وقال بثقة:
_ ليس متخلف عقليا، بل "مختلف عقليا" وهذا أخطر بالطبع.

سأله يحيي بفضول:
_ هل ستحتاجني معك عند جلستك معه ؟! أم ستخلو به بمفردك؟

أجابه حسن وهو يمسح وجهه بكفيه:
_ لا، أريد أن أبقى معه بمفردي، أهم شيء سأبدأ به هو أن أحصل على ثقته كي يخبرني بما يدور بعقله.

حرك يحيي كتفيه وقال بجدية:
_ كما تريد، ولكنه اليوم ليس بمزاج رائق، لقد رفض التحدث معي إلا عندما دخلت أنت.

أومأ حسن برأسه وقال:
_ سأذهب لملاقاته، تمنى لي التوفيق.

تركه حسن وخرج، سار حتى غرفة رامي ووقف أمامها قائلا للعسكري الواقف أمامها:
_ أنا الطبيب المعالج لحالة رامي.

أجابه العسكري قائلا:
_ مرحبا بك، أريد أن ألفت انتباهك لأن هذا المجرم خطير لقد قتل زوجته وابنته وادعى المرض، ثم ادعى الجنون، لا تحاول فك ذراعيه لأنه قوي للغاية.

أومأ حسن برأسه وقال:
_ حسناً، هلا فتحت الباب.

فتح العسكري الباب وأشار بيده لحسن أن يدخل، سحب حسن نفساً طويلا ودلف مستعينا بالله، لم يتطلع ناحية رامي لكنه سحب المقعد الخلفي واقترب منه متخطيا الحذر وجلس قائلا بعملية:
_ أنا الطبيب حسن، كلفت بمعالجتك وأرجو أن تتقبلني من البداية لأنني آخر أمل لك بالمساعدة.

كان رامي يجلس علي فراش بآخر الغرفة وملتصق بالحائط، ويطالع حسن بنظرات متعمقة قوية كلها بهاء وترفع وقال:
_ لا أعتقد أنه بإمكانك مساعدتي.

وضع حسن ساقا فوق الآخرى ليجابه كبريائه وقال بثقة:
_ سنرى إن كنت أستطيع أو لا، رغم ثقتي الكبيرة بقدراتي كطبيب.

أغمض رامي عينيه وقال بفقدان صبر:
_ لست مريضا كي يُمَرضني طبيب بائس مثلك.

سأله حسن مباشرة وهو يتغاضى عن إساءته:
_ يقولون أنك قتلت زوجتك وابنتك الوحيدة، هل هذا صحيح؟!

ضحك رامي ضحكة عالية وقال بسخرية:
_ لست متزوجاً كي أنجب وأقتلهما، من تتحدث عنه ليس أنا.
_ ومن أنت إذا إن لم تكن رامي سيد الكاتب المعروف.

نفث رامي بقوة وقال بعدما اعتدل في جلسته متململ من عقدة ذراعيه خلف ظهره:
_ إسمي آن، أمير مملكة "أوزغور" وأعلم أنك لن تصدقني لذا كفاك أسئلة لا فائدة منها.

فكر حسن قليلا وسأله بجدية:
_ وإن ثبت صدق كلامك، أخبرني كيف تركت مملكتك وتحولت بجسد شخصاً غيرك؟!

صمت لبرهة، ثم قال ببديهية ولم تتحرك حدقتي عينيه:
_ تحولت بفعل "غبار كسبيال".

انتفض قلب حسن في محجره وتساءل مسرعاً بتعجب:
_ ما هو "غبار كسبيال" ذاك؟!

زفر رامي بضيق وقال على مضض:
_ تلك شئون داخلية لمملكتنا، لا يصح أن أخبرك بها.

أنزل حسن ساقه وطالعه باهتمام وهو يقول بهدوء متزن:
_ لن أخفي عليك أن جملة "غبار كسبيال" تلك جعلت قلبي يرتجف، وكأنك قلت شيئاً ذو شأن كبير.

ابتسم رامي بسخرية وقال:
_ وكأن قلبك يري مالم يستطيع عقلك تصديقه.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي