الفصل الثاني

وضعت إيلي يدها على شفتها وقالت في نفسها بفؤاد لا يتوقف عن الخفقان:

"ما خطب نظراته ؟ كأنني رأيت حدفي و اليوم حصاد رأسي، أي البيئات استوطن فيها؟ علي أن أسيطر على نفسي و ردود أفعالي، تذكري يا أنا فأنت إيلي الهادئة، وهذا هو ديلان الطاغية، علي ألا أحارب النار بالماء بل بشعلة نار أضخم وأكثر تأثيراً، هذا الرجل.. آه منه، عندما أفكر بكيفية التعامل معه عقلي يتوقف عن العمل"




أسرعت إيلي وتغطت بالملاءة فهي لا تود رؤية وجهه على الأقل في هذه الليلة، بعدما أنهى ديلان تنظيف نفسه، توجه صوب إيلي التي كانت تبدو أنها تمثل النوم، أخذ نفساً عميقاً وقال:

"أعلم أنك مستيقظة لا بأس بأن نتحدث الآن، أنا لست غاضباً"


نظرت إيلي من طرف الملاءة ببطء وكشفت عن وجهها، اعتدلت الجلوس مرجعة خصلات شعرها للوراء، هي تدرك أن هذه ليلة عرسها الأولى، ومن لحظة وصولها تشاجرت معه رغم كونها ليست على صواب.


ساعدها ديلان على ربط شعرها للوراء، فقد كانت تحاول تسريحه عبثاً، وقال لها بصوته العذب:

"أظنك سمعت الشائعات عني لذا تصرفك مبرر في نظري، إليزابيث هذه القلعة وجميع من فيها لا يمكنك الثقة بهم"

قاطعته إيلي قائلة:
"وحتى أنت ألا يمكنني أن أثق بك؟ "

أحكم ديلان قبضته وأجاب: "دعيني أكمل حديثي، رجاءاً "

نظرت إيلي للأسفل في خيبة، فقد أحست أن هذه المعركة ستخوضها وحيدة، لكنه رفع ذقنها و قال لها:

"القاعدة الثانية طلباتي و أوامري كلها يجب أن تكون سمعاً وطاعة، لا أريد منازعات على ما لا يسوى شيئاً، أما القاعدة الثالثة إن لاحظتي أو شككت بأمر ما عليك إعلامي بكل التفاصيل، وإن وددت البقاء على قيد الحياة فلا أنصحك بكسر قواعدي"


بدأت إيلي تغلي من الداخل قالت محادثة نفسها:
"ما هذا التصريح غير المباشر بالقتل؟ أيهددني هذا الرجل؟
من يظن نفسه؟ عبقري زمانه أم ماذا؟ كما أنه يسن القواعد و يرسم لي الحدود، لا بأس يا عزيزي سألعب لعبتك حتى أتلاعب بك كما أشاء، فقط بعض من الوقت هو ما أحتاجه، أقسم أنني سأجعلك تندم على هذه التصرفات"


نظرت إيلي إليه وتبسمت ثم قالت:

"كما تأمر"

صمتت بعدها لفترة طويلة ظلت تحدق بخاتم خطبتها، وديلان لا يزال يراقبها، لا يدرك ماذا يفعل بشأنها، تنهد ثم نهض و أطفأ الأنوار ثم غط في النوم، إلا أن إيلي لم تغمض لها عين، كانت مستيقظة تحدق بالثريا المعلقة على السقف.





مر أسبوع وسافر فيه ديلان إلى المقاطعة الشرقية داديارو في عمل سري من نوعه، كانت إيلي تدرك أنه سيتأذى إن لم يعد قبل ثلاثة أيام، وكانت تفكر في طريقة تجبره على العودة إلى القلعة فقالت محاورة ذاتها:

"علي حمايته فسفره إلى مقاطعة داديارو لن يعود عليه بالخير، معظم الذين يحقدون عليه يعسكرون هناك، سيصيبه مكروه إن لم أتدخل، ولكن كيف سأعيد نسراً إلى قفصه، لن يصدقني إن أخبرته أن حياته في خطر، سيشك في أمري وسيقتلني إن علم الحقيقة"


كانت إيلي تمشي ذهاباً وإياباً داخل الغرفة في حيرة من أمرها، ثم سمعت بعض الخادمات يتحدثن عن أن الحراس في القلعة شددوا حراستها في غياب ديلان.

هنالك تحركات مشبوهة في الغابة، حتى أن الصيادين لم يذهبوا للصيد اليوم، فجأة خطرت في بال إيلي أن تهرب ويضطر زوجها للقدوم والبحث عنها، فقالت:


"أعلم أنها فكرة غبية لكن ما باليد حيلة، و يبقى السؤال كيف سأخرج من هنا؟


إرتدت إيلي أفخم ثيابها ومجوهراتها، وتوجهت صوب البوابة، حيث طلبت من الحارس أن يجهز لها عربة، فقد قررت وبعد تفكير طويل أن عليها الذهاب لبيت والدها كحجة حتى يظنوا أنها هناك، هي تعلم أن لدى زوجها مخبرين يعلمونه بجميع تحركاتها، ومن الطيش التفكير في الهرب."


نظر الفارسان إلى بعضهما في حيرة، فقال أحدهما في أسف:

"عذراً أيتها الأرشيدوقة إليزابيث لا يمكنك الخروج، لقد حذرنا الأرشيدوق ديلان من عدم تركك تذهبين وحدك"


تقدم جد ديلان بقبعة غريبة الشكل، قطب حاجبيه محدقاً بالفارس الذي أخفض ناظريه وانحنى أمامه، ثم إبتسم جد ديلان في وجه إيلي وقال للفرسان:

"دعاها تفعل ما تريد"


صمت الفارسان و فتحا البوابة الضخمة، حيث قال جد ديلان:

"لم يتسنى لي الوقت لتبادل أطراف الحديث معك، بنيتي، كل ما أريده منك أن تعتنى بحفيدي ديلان، هو لطيف على عكس ما يبديه، سأخبره لاحقاً أنني سمحت لك بالذهاب وزيارة عائلتك"

كانت إيلي تود إخبار جد ديلان بأن حفيده في خطر، لكنها تذكرت أنه أخبرها الأ تثق بالجميع، ففضلت الصمت، وقالت في ذاتها:

"بالرغم من أنني أستطيع أن أتذكر تفاصيل أكثر عن حياة شخصية ديلان الزوجية، إلا أنه يصعب علي التعامل معه، كل ما أذكره الآن هي المؤامرات و كيفية حدوثها؟ وما هي حلولها"


سارت العربة التي بها إيلي عبر الغابة وخلفها بضع فرسان على أحصنتهم كمرافقين تم تعيينهم، القلق بدأ يسيطر عليها، فخطرت في بالها أن تذهب إليه وتحميه، إلا أن هذا خيار مستحيل.



همهمت في حزن:

"لن يسر والدي بزيارتي هذه، لكن فات الأوان على التراجع"


عندما أوشكت العربة على الخروج من الغابة، و دون سابق إنذار انحرفت عن مسارها، وصارت تجري بسرعة عالية، حتى الفرسان اختفوا، فصاحت إيلي:

" ما الخطب أيها السائق؟ أوقف العربة حالاً "

توجهت العربة صوب المنحدر، كأن لا سائق لها كانت تترنح وصهيل الخيول يعلو، فخاطبت إيلي نفسها ويدها على قلبها:

"أحدهم يحاول التخلص مني، علي إكتشاف من يكون ذلك الشخص"



بصعوبة كسرت إيلي الباب وسقطت على الأرض تدحرجت أسفل الجرف، وأصيبت بجروح طفيفة، قبل أن يغمى عليها لمحت ظلاً لكيانات غريبة الشكل، وبعد بضع دقائق.. دوريات المراقبة وصلوا ووجدوها على حال يرثى لها.


نقلها الفرسان عائدين بها للقلعة، ارتعبوا من هول تلك الحادثة فقاموا بإبلاغ الأرشيدوق ديلان، الذي لم يجعل هذه المشكلة تمر مرور الكرام، فقد أشعلت في داخله لهيب الإنتقام والوعيد، وصل ديلان إلى القلعة في مساء اليوم التالي، لا يترك له المجال التفوه بحرف واحد.


إستيقظت إيلي وجسدها بالضماد ملفوف، بجانبها الخادمة تجلس على الكرسي بعينين ناعستين، سألتها إيلي:

"ألم يعد ديلان؟"


نهضت الخادمة من فورها وركضت لتخبرهم أن إيلي إستعادت وعيها، وبعد بضع دقائق دخل عليها زوجها، بعروق بارزة من شدة الغضب، إقترب منها و بيده طرق على جبينها برفق ثم قال:

"ألا تملكين عقلاً؟ كم مرة علي تكرار الحديث معك؟"


أمسكت إيلي يده التى كانت ترتجف فقد تأثر على حالها، وقالت له:

"حياتي لا تهمني"

قاطعها ديلان قائلاً:

"إليزابيث"

هزت رأسها محاولة عدم التأثر بصراخه ثم قالت:

"إسمعني.. شعرت بالملل.. فقررت زيارة أبي، سمح لي جدك بالخروج، وعندما كنا في الطريق انحرفت العربة واختفى الفرسان، قبل أن أفقد وعيي رأيت كائنات غريبة سوداء مخيفة"



تغيرت ملامح ديلان عندما سمع عن الكيانات السوداء، وقال لها:

"اخلدي إلى النوم، دعينا نتناقش غداً."

جلس هو على طرف الفراش يمسح برفق على رأسها، فنظرت إليه ثم خاطبت ذاتها:

"الحمدلله أنه عاد سالماً، بعد شهر على حسب ما أتذكر سيقود جيوش الإمبراطور في معركة طاحنة، هناك خونة في صفوفه، ومهمتي هي الآن مساعدته في كشفهم"


كانت هي تحدق إلى الجانب الآخر صوب الضوء المنعكس على الطاولة، فهمست إيلي قائلة:

"أخبرني قليلاً عن رحلتك إلى داديارو، سمعت عن حدائقها الخلابة وفن معمارها الذي يضاهي الخيال"


لم يجب ديلان عليها فنظرت إليه لتجده نائماً بالفعل، ثم أغمضت عينيها لتخلد للنوم مجدداً.





مر أسبوعان وتحسنت إيلي، عندها أخذت إذن زوجها للدخول إلى المكتبة فقد أرادت قراءة أرشيف القلعة، كانت تزور المكتبة من حين لآخر، تبحث عن الخرائط المتوفرة لمنطقة وادي الهلاك، تدرس بعض طبيعة المنطقة لتعزز بها خطتها.

كان زوجها مشغول باجتماعاته التي لا تنتهي، في بعض الأحيان تمر خمسة ليالي لا تتقابل أعينهما.


وضعت إيلي بضع كتب على الطاولة نفضت عنها الغبار، وأخرجت أوراق رسمت عليها خريطة للمنطقة التي ستدور الحرب بها.

كانت إيلي تتذكر تفاصيل هذه المعركة فقد كانت من إحدى المعارك الفاصلة، حيث إكتشف فيها ديلان حقيقة الإمبراطور ونواياه الشريرة.


بعد انتهائها أسرعت إلى غرفة ديلان الخاصة (حيث يقيم اجتماعاته بالغة السرية)، نظرت إيلي عبر النافذة وجدته يتحدث مع رجل طويل القامة أحدب الظهر بندبة عريضة على جبهته، علمت أنه المرغريف إلياس تومسان، قالت إيلي في ذاتها وهي تطرق الباب منتظرة أن يسمح لها بالدخول:

"إنه قائد قوات دفاع المملكة، يتبع للإمبراطور آيرليناو، إنه قطعاً أحد الخونة الذين سوف يسربون خطة زوجي الحالية للأعداء، إلياس تومسان أنت تظن نفسك داهية ولكنني الدهاء بعينه"



طلب ديلان منها المكوث في الغرفة المجاورة ريثما ينهى ما بين يديه، انزعجت إيلي فهي لا تحب الإنتظار، مرت ثلاث ساعات وهي على أعصابها تحدق بالباب على أمل أن يأتي هو.

فقالت إيلي بصوت عالي:

"عليه أن يجعلني أول أولوياته، ذلك الرجل ال… "


فتح ديلان باب الغرفة ببطء، فصمتت على فورها ليبتسم ، كان وكأنه يُسعد برؤيتها تفقد أعصابها.

قال لها: "ماذا هناك؟"

إقتربت منه إيلي بوجهها العابس ثم قالت:

"عندما آتى للتحدث معك عليك الإستماع إلي وإلغاء جميع اجتماعاتك فما لدي أهم"


وضع يده على خاصرته وحدق بها لفترة من الزمن، أخبرها أن تأخذ نفساً عميقاً وتهدأ، ثم قال:

" كما تعلمين ليس لدي وقت للاستماع إليك، لا تضيعي وقتي الثمين على ترهاتك"

جلس بعدها على الكرسي، وصب لنفسه كأس نبيذ، ثم وضعت إيلي الأوراق على الطاولة أمامه، فرفع إحداها بعدما قرأ محتواها بسرعة وقال لها:

" من أين لك بهذه؟ إنه مخطط دقيق الصنع للمعركة التي نخطط لخوضها"

تبسمت ثم قالت بمكر: "ماذا عن الآن، هل ستنصت للترهات التي لدي؟!"

نهض ديلان في لمح البصر وألصقها بالجدار، كانت إيلي غير قادرة على الحركة، وضع حافة خنجره على رقبتها حتى بدأت دمائها تسيل، وتحدث بوجه متجهم قائلاً:

"من أين حصلت على هذه الأوراق؟ الحرب التي ستقام بعد بضع أيام، كانت مهمة في غاية السرية كيف تمكنت من معرفة تفاصيل كهذه"

كانت قبضته قوية، أصدرت إيلي أنين خافتاً، ومن خوفها أغمضت عينيها وقالت:

"أنا التي كتبتها، أردت مساعدتك فأنت قد أصبحت زوجي وأمرك يهمني، كما أنني عرفت عن مجريات هذه المعركة التي تخطط لها من مصادري الخاصة وأرفض الإفصاح عنها، إن وددت فيمكنك أن تقتلني فأنا لا أخشاك"


أفلتها وعاد يقرأ الأوراق بدقة، كان متفاجئ بما تراه عيناه، قال في ذاته:

" أولاً.. قدرتها على رؤية كيانات دايمان، والآن تستطيع التنبؤ بالمستقبل، هذه ليس فتاة عادية"


مسحت إيلي الدموع التي سالت من عينيها، وقالت:

"سآخذ الأوراق، آسفة على تضييع وقتك الثمين"

أمسك ديلان بذراعها وسحبها نحوه قائلاً:

"لم أسمح لك بالمغادرة، إجلسي!"

رماها على الكرسي فصارت تحدق به، ثم أنحنى يهمس في أذنها قائلاً: " تحدثي"

إقشعر جسدها وأغمضت عينيها واخذت نفساً عميقاً وقالت بعصبيه:

"لا تفصح عن هذه الخطة المضادة لأي أحد من رجالك، بعد ثلاثة أيام من الآن دعني أجتمع مع سبعة من الذين تثق بهم، حتى أطلعك على كيفية تنفيذها، إن أردت الظفر بهذه المعركة فعليك أن تثق بي"




نهض ديلان من كرسيه فهو لم يقتنع بحديثها، ولكن بعد تفكير مطول ومراجعة حساباته قرر الإستماع لما ستقوله زوجته، فسألها:

"لنفترض أنني وافقت على خطتك وعصيان الإمبراطور، ما الذي ستجنيه أنت من مساعدة شخص مثلي؟"


مسحت إيلي قطرات الدماء التي كانت على رقبتها بمنديلها، ثم نظرت إليه وقالت: "لا شيء حتى الآن"



كان الانزعاج واضحاً على وجهه، فهو قد قارب على إيذائها، علم بعدها أن اجتماعه السري الذي كان في مقاطعة داديارو ليس سوى كمين للتخلص منهم، وهو قد نجى بفضل الحادث الذي تعرضت له زوجته.


عادت إيلي إلى غرفتها، وقدميها لا يحملانها، كانت منهكة جداً، فقد سهرت معه الليل بطوله تشرح له كل تفصيل مما سيحدث في المعركة، فقالت في ذاتها:

"ديلان لا يعتذر حتى وإن كان على خطأ، كبريائه لا يسمح له بالتنازل، لما كل هذا التعالي الذي لا داعي له؟!"



بعد ثلاثة ليالي، اجتمعت إيلي بسبعة من رجال ديلان كل على حدا، اخبرت كل واحد منهم بخطة مختلفة ومن بينهم كان إلياس ذلك الذي نقل تفاصيل الخطة الخاطئة للأعداء.


مرت خمسة أيام، ودقت ساعة الصفر، العدو كان يتوقع من ديلان أن يهاجم في مساء اليوم، لكن ديلان سبق ونشر جنوده داخل وادي الهلاك، قال ديلان لأحد أعوانه:

"أطلقوا عليهم المدافع فور دخولهم المنطقة المعلمة، ستكون هذه الهجمة تمويهاً لما هو قادم، كما خططنا سابقاً بحذر نفذوا الأوامر، أخبر الرماة أن يستعدو سنتحرك الآن ليس صوب مملكة الياتيرا كما يظننا العدو أننا ذاهبون، بل إلى مقاطعة داديارو هناك حيث سنستولي عليها"


قاطعه إلياس قائلاً في دهشة:

"أيها الأرشيدوق ديلان لا يمكنك عصيان أوامر الإمبراطور وتغيير الخطة بهذه السرعة"


حشر ديلان سيفه في معدة إلياس تومسان ثم دفعه و رماه من أعلى الصرح العالي، ثم قال:

"هل لأحدكم إعتراض؟"

صمت الجنود الذين كانوا يتهامسون وتحركوا يتبعون أوامره في خوف من بطشه.


كانت إيلي تتابع تحركاته من داخل القلعة لحظة بلحظة، قالت وهي مبتسمة:

"لما علي الإنتظار خمسة عشر عاماً حتى يصبح أخي الإمبراطور و ينقذ زوجي؟ لما لا أجعل زوجي هو إمبراطور الفترة القادمة"


فجأة دخل عليها أحد الفرسان يحمل رسالة من القصر، أخذتها ثم قرأت محتواها، لقد جرد الإمبراطور زوجها ديلان من منصبه كقائد جيوش أعلى، فقالت في ذاتها:

"إنتظر فقط فهذه ليست سوى البداية، رسالتك لن تردع ديلان من الإستيلاء على داديارو أيها الإمبراطور"



يتبع...
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي