الفصل الثاني

اعتدل شاهين ملقياً بسيجارته على طول ذراعه عندما رآها تخرج من مبنى المجلة تتهادى بخطواتها...
بعينيّ الخبير شعر أنها لا تبدو كربة عمله الغاضبة التي تركته منذ نصف ساعة فقط.. كانت تبدو... مختلفة..
خلعت نظاراتها الوردية في اقترابها منه وتطلعت له من بعيد بنظرات مسلطة حتى وقفت أمامه مباشرة, فتحرك بحركة آلية ليفتح لها الباب الخلفي مبعداً عينيه عن ملتقى نظراتهما..
وقفت مسمرة أمامه تتأمله بطريقة كادت تفقده رباطة جأشه, ثم تمتمت بصوت ناعم:
ـ أعطِ الأسطى محمد أجازة لباقي اليوم, وقُد أنت السيارة, أحتاجك في مشوار خاص..
أجابها بنبرة مهنية دون أن يبادلها النظرات:
ـ عفواً يا هانم.. عملي هو حارس خاص, وليس سائق لحضرتك.
تنهدت بخرخرة قطة شقية:
ـ شاهين...أنت ستقود السيارة..
تهدلت كتفاه الشامختان عندما تجاوزته لتجلس في المقعد بجوار السائق, وأغلقت الباب بانتظاره...
قبض على أصابعه وكأنه يعتصرهم... و توجه لمكان استراحة السائق, وعاد بعد لحظات يفتح باب السيارة وينزلق بنعومة غريبة على جسده الضخم الفتي...
أدار المحرك الذي زمجر قبل أن ينطلق بقوة يخترق شوارع قاهرة المعز في رشاقة...
فتحت نافذتها وتركت الهواء يضرب وجهها ويطير شعرها مستمتعة بشعورها الجارف بالحرية من كل شيء... من المشاعر.. ومن سلطة القلب... الذي لم يعد له وجود...
انتبهت لنحنحة شاهين قائلاً بصوت مكتوم:
ـ أين تريدين الذهاب يا شيرويت هانم؟...
أجابته بدلال:
ـ أختر أنت المكان... أريد أن أذهب لمكان لم أطأه من قبل... مكان جديد!!....
ـ ما رأيك بمستشفى العباسية؟!...
حدجته بنظرة نارية مفاجئة:
ـ أنا لست مجنونة يا شاهين...
باعتذار غير صادق تمتم:
ـ عفواً يا هانم... أنا هو المجنون... وماذا تسمين حالتك قبل صعودك لمبنى المجلة.. وحالك بعد النزول منها... أليس جنوناً؟؟؟.. وحالك قبل زيارة ناريمان هانم لكِ في الصباح.. وحالك بعد خروجها... ماذا تطلقين عليه إن لم يكن جنوناً؟؟؟
غامت عيناها بظلام مفاجئ:
ـ أسميه.. إعادة تأهيل... رغبة في الحياة مرة أخرى بعد تجربة محطمة...
ثم أشرقت وكأنها بفعل ساحر:
ـ هذا ما قررته يا شاهين... أن أعيش حياتي التي أهدرتها على حب فاشل...
ـ وكيف ستعيشينها؟.. إن كان يحق لي السؤال؟؟
قلبت شفتيها مع هزة من أكتافها:
ـ كما يحلو لي... كما لم يخطر على بالي من قبل... لن أعود تلك الفتاة الناعمة الهشة سهلة الكسر... أي رجل سيفكر كثيراً قبل أن يقرر تحطيمي مرة أخرى..
أخرج شاهين تنهيدة طويلة:
ـ أنا لا أمزح.. أنتِ بحاجة لطبيب نفسي...
صرخت بحدة:
ـ أنت لست ولي أمري... وأنا فقط التي أقرر ما أنا بحاجة له... قد السيارة لشارع الهرم ..
ـ لماذا؟؟
ـ أريد أن أشرب... أرقص!!...
ـ ولكنك لم تجربي هذه الأمور من قبل؟؟
رفعت حاجبيها قائلة بحزم:
ـ كان هذا في الماضي... والآن... أنا فتاة جديدة في كل شيء... ألم تسمعني؟!... هيا إلى شارع الهرم
أخرج تنهيدة ضيق:
ـ الأماكن التي ترغبين في زيارتها بشارع الهرم لا تفتح نهاراً... لذلك يطلقون عليهم ملاهٍ ليلية..
هتفت مبهوتة:
ـ ولكن لابد من مكان ما يقدم لي ما أريده...
تمتم بصوت خفيض سمعته:
ـ أخبرتك.. مستشفى العباسية
ـ أنت لست ظريف...
ـ وأنت تدمرين نفسك..
ـ وما شأنك أنت؟.. أنت مجرد حارس خاص.. بإمكاني طردك فو...
وقبل أن تنهي جملتها ضغط على المكابح فأطلقت الكفرات صرير احتكاكها بالإسفلت قبل أن تتوقف السيارة تماماً.. ثم نزع المفاتيح وألقاها لها قائلاً باستهانة:
ـ أنا مستقيل...
أمسكت المفاتيح مذهولة:
ـ لا يمكنك أن تستقيل...
ـ راقبيني ...
وهم بالخروج من السيارة بينما راحت تقدح زناد فكرها بسرعة وصاحت فجأة:
ـ لو ذهبت الآن سأتوجه لأقرب قسم شرطة بعد أن أمزق ملابسي وأتهمك بمهاجمتي ومحاولة اغتصابي... أقسم أن أفعلها يا شاهين.. وأنا لا أهدد مجرد تهديد...
ألقى نظرة من فوق كتفها ليلمح التصميم بشكل لم يشاهده أبداً من قبل في تلك التقاطيع الناعمة والأخلاق الوديعة...
كان على حق.. هذه ليست شيرويت التي يعرفها...
عاد مكانه فمدت يدها بالمفاتيح.. تجاهل النظر لها وهو يلتقطها ويعيد إدارة المحرك...
هتفت بحدة وهو ينطلق:
ـ إلى العين السخنة...
كادت تطلق ضحكة على تعبيرات ملامحه التي تجهمت وهو يستغفر الله ويأخذ الطريق للعين السخنة بدون أي نقاش...
حتى وصلا للفيلا لم ينبس أيهما ببنت شفة...
توقفت السيارة في الباحة وانتظر حتى تنزل ولكنها ظلت مكانها ترمقه بنظرات مستهجنة.. لم يفكر كثيرا ليدرك أنها بانتظاره ليفتح لها الباب... أطلق زفرة أخرى شعرت بها كأنها تخرج نيران من أنفه وهو يستدير حول السيارة ويفتح لها الباب وينحني بطريقة ساخرة:
ـ تفضلي يا هانم...
خرجت بأنف مرفوع ثم سألته:
ـ اذهب واشتري لنا طعام... أريد كباب وكفتة وأرز خلطة والسلطات...
زوى حاجبيه بعلامات استفهام:
ـ ولكنكِ لا تحبين هذه الأطعمة الحريفة..
صرت أسنانها بحدة:
ـ كنت... كنت يا شاهين.. الآن سآكل كلما يخطر على بالي.. من طعام و.... أشياء أخرى..
قالت جملتها الأخيرة وعيناها تجولان على صدره العريض المفتول بنظرات مغوية, فتصبب جبينه عرقاً وهو يتراجع خطوة للخلف يتأكد مما رأى ولكنها كانت قد ولت له ظهرها في طريقها للفيلا...
ضرب رأسه بيده معنفاً:
ـ أفق يا شاهين.. يبدو أن أحلام يقظتك تتجسد لك بالنهار.... أفق تباً لك... قبل أن تفقد ما تبقى من رشدك وسلامك العقلي...
انطلق بالسيارة مرة أخرى في سرعة بعيدة كل البعد عن الاعتدال وسؤال ملح يدور في رأسه... ما الذي حدث لها في مبنى المجلة لتتبدل أحوالها بهذا الشكل؟؟..
لو كنت أشاهد أحد أفلام الخيال العلمي لظننت أنها دخلت ثقباً أسود وخرجت من بعد مواز آخر فتاة مختلفة... ولكن هل سيدق قلبي بهذا العنف لكل شبيهة لها؟!!... بما أننا لسنا في فيلم خيالي... فلابد أن هذه الفتاة هي نفسها شيرويت... ولكن ما بالها تتصرف بهذه الطريقة!!..
ضرب المقود بكلتا يديه منفساً عن ما يشعر به من غضب تغلي مراجله في رأسه...
ودعت السيارة بنظراتها المتشفية وابتسامة ملتوية شوهت شفتيها الرقيقتان:
ـ لم تر شيئاً بعد يا شاهين!!..
وبهدوء طلبت رقم من الهاتف الجوال وانتظرت حتى جاءها صوت شاهين النافذ الصبر:
ـ تحت أمرك يا هانم..
ـ على فكرة يا شاهين.. نسيت أن أخبرك أن تحضر زجاجة وايت واين, وأيضاً شامبانيا من أفخر نوع.. النوع الوردي الذي يخرج فقاقيع على سطحه.... ينتابني إحساس احتفالي الليلة...
زمجر بعصبية:
ـ هل ستتناولين كحوليات الآن!!.. هذا فوق احتمالي!!!
ارتفعت وتيرة نبرتها بحدة:
ـ أنا لا أسألك رأيك.. أحضر ما طلبته منك بدون مناقشة...
وأغلقت الاتصال وابتسامتها تتسع باطراد:
ـ ليتك ترينني الآن يا ناريمان هانم, لتتأكدي بنفسك أن ابنتكِ تستطيع تغيير جلدها وقتما تحب... كنت بحاجة للدافع.. وها أنا ذا...
كاد شاهين يلقي بهاتفه أرضاً ليدهسه حتى يشفي غليله..
ـ هذا ما كان ينقص.. أجلب لها الخمر بنفسي...
اشترى كافة الطلبات واتخذ طريق العودة في عجالة...
أوقف السيارة في باحة الفيلا واختلس نظرة متشككة, فقد بدأت حاسته السادسة تنبئه أن الأمور عل غير ما يرام...
الشمس على وشك المغيب ورغم ذلك الهدوء مسيطر على المكان بشكلٍ مريب... حتى الأضواء مطفأة داخل الفيلا... يلفها ظلام مريب
استطاع التأكد من خلال الستائر التي تسمح بمرور بعض الضوء من خلفها, وليس كحالها الآن... تحسس مقبض سلاحه المعلق أسفل ذراعه, ثم حمل الأكياس واتجه ناحية الفيلا...
ازداد إحساسه بالخطر عندما وجد الباب مفتوح... وأطل برأسه بحذر ثم نادى عليها:
ـ آنسة شيري... شيري...
لم يجد أي استجابة لنداءاته... تقدم خطوتين بحذروهو يلعن نفسه لتركها بمفردها.. ما كان ينبغي عليه أن يخضع لغضبه اللحظي وينطلق بالسيارة متذرعاً بحجة قضاء طلباتها حتى لا ينقض عليها خنقاً أو تقبيلاً..
وضع حمولته على أقرب طاولة, وأخذ يتقدم خطوة بعد خطوة في حالة استنفار كاملة... حتى أصبح في منتصف غرفة المعيشة عندما التفت بحدة لدى سماعه صوت عود ثقاب يشتعل..
بدأت أنفاسه تعود للهدوء بالتدريج عندما رآها تضئ الشمعة بهدوء شديد البرودة:
ـ ألم تسمعينني أنادي؟؟.. لماذا لم تجيبي؟؟
أمسكت الشمعة المشتعلة وعلى ضوئها الخافت لاحظ تبرجها الصارخ, وثوبها الرقيق المفتوح من الصدر, وهي ما تزال تتقدم ناحيته حتى توقفت أمامه تماماً:
ـ الكهرباء مقطوعة... يبدو أننا نسينا أن نشحن الكارت لهذا الشهر..
فكر لحظات ثم رد مدافعاَ:
ـ هذا غير صحيح... لقد أرسلت الأسطى محمد بنفسي لشراء كارت جديد..
تنهدت وهي تضع الشمعة جواره في تمايل متعمد لترتكن على صدره:
ـ حقاً!!.. إذاً.. لابد أننا بحاجة لعامل كهرباء...
ـ ولكننا في المساء... وقد لا نجد واحداً في مثل هذا الوقت..
ـ هل سنظل نعاني من الظلام حتى الصباح.. أهذا ما تعنيه يا شاهين؟؟
أبعدها عنه بإحراج وقد شم رائحة الخمر في أنفاسها:
ـ من أين لكِ بالخمر؟؟
ابتعدت قائلة بصوت مترنح:
ـ كنت أعلم أنك لن تحقق لي طلبي.. فتدبرت أمري.. اتصلت بخدمة الزبائن وأرسلوا لي كل ما أريد حتى باب الفيلا..
أشار بزفرات مهتاجة:
ـ هذا هو طعامك.. سأذهب لأرتاح في غرفتي بالخارج..
نادته بصوت متهدج حول أعصابه لألواح من الزبد:
ـ شاهين... هل ستتركني في الظلام؟؟
أصر على أسنانه دون أن يلتفت ناحيتها:
ـ لن أبقى مع امرأة ثملة في مكان واحد...
خطى خطوتين عندما سمع نحيبها الباكي:
ـ حتى أنت يا شاهين... باسل في البداية.. ثم أنت الآن... لا أحد يحبني.. لا أحد يرغب بالبقاء معي... لا أحد.. لا أحد...
استدار بنصف التفاتة:
ـ أنتِ في غير حالتك الطبيعية... أنتِ..
اقتربت ووضعت أناملها على شفتيه مقربة أنفاسها من أنفاسه:
ـ هل تلومني؟... هل تستهين بما حدث لي؟؟؟
ـ باسل مختار لم يكن الرجل الملائم لك...
ـ ومن بظنك هو الرجل الملائم لي؟؟
أمسك كتفيها ليمنع اقترابها المطرد منه قائلاً بأنفاس متقطعة:
ـ رجل يقدر أي جوهرة هي أنتِ.. رجل يحفظك بين رموشه, لا يفرط في دمعة واحدة من دموعك الغالية... يصنع بكل قطرة رجولة في عظامه أجنحة ليطير بكِ في آخر مكان على الأرض, لو اعتقد للحظة أنكِ في خطر وشيك..
ازدردت لعابها بصعوبة وعيناها تتسعان بدهشة, خلصت أكتافها من قبضته المؤلمة وقد هزها كلامه ونفذ إلى أعماقها..
اعتذر بصدق بعدما ظن أنها تتألم من قبضته:
ـ أعتذر.. هل تسببت لكِ بأي ألم؟؟؟
وضعت يديها على أذنيها صارخة:
ـ كفى... هذا يكفي...
تراجع مجفلاً... ولكنها تماسكت عندما شعرت أنها على وشك أن تفقده, عادت لترسم ابتسامة مترددة لاحظها في ضوء الشمعة الشاحبة وهي تعود لتقترب منه وتلف ذراعيها حول عنقه فحبس أنفاسه خاصة وهي تتغنج وتتلوى على صدره:
ـ شاهين... هل ستتركني في الظلام.. وحدي... شاركني الطعام.. أنت أحضرت معك الكباب والكفتة... أليس كذلك؟؟
أومأ بحلق جاف دون أن يستطيع إخراج الكلمات من حلقه, فأردفت بضحكة رنانة:
ـ هات الطعام والحق بي.. في المطبخ المزيد من الشمع... أم نصعد لغرفتي حيث...
هتف بسرعة:
ـ لا.. المطبخ مناسب... سآتي بالطعام... أين هو؟!.. لابد أنني وضعته في مكان ما هنا!!..
ودار حول نفسه دورة كاملة تصاحبه رنات ضحكتها الساخرة...
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي