الفصل الثاني

- انتظري يا ونس
وقفت مكانها حالما سمعت صوته الحازم، تكاد تترجى الارض ان تنشق و تبتلعها من نظرات من حولهم، و من رؤيته بالداخل فهي لم تركز في حرف واحد مما قال، لقد كان يومها الاول بالتدريب و هو المهندس المختص في تعليمهم، فقد قسمتهم الجامعة إلى فرق و حظها كان مع ضياء الذي لا تعلم متى و اين سلك منهج التدريس و حصل على الدكتوراة في الهندسة، هي بالاحرى لا تعلم عنه شيئا
- سأوصلك
قالها حالما وقف امامها لتجيبه و هي تختلس النظر لشهد الهائمة
- شكرا لك، و لكن سأرحل مع شهد
- ‏سأوصلكما معا
قالها ببساطة مغيظة فأخذت تنظر لزملائها حولهم الذين يناظرونهم بفضول فأجابته بضيق
- شهد لن...
و لم تكمل جملتها لتقاطعها شهد
- موافقة، انا موافقة يا ونس
فأشار بيده ليتقدماه قائلا
- اذا هيا
لتسيرا معا امامه
و عندما وصلتا للسيارة كانت على وشك ان تفتح الباب الخلفي ليفاجأها بأن فتح لها باب المقعد الامامي فناظرته بإستفهام ليقول مغيظا
- لست سائقكم لتجلسوا في المقعد الخلفي و تتراكني اجلس بمفردي
كتمت غيظها و هي ترى عيناه من خلف نظارته و اقسمت ان عيناه تضحك الان فقالت شهد التي تتابع وقفتهم امام بعضهم ببعض التسلية
- هيا يا ونس اركبي، و ان لم تريدي يمكننا تبديل المقاعد
فناظرتها بنظرات نارية قبل ان تركب و يغلق هو الباب خلفها و لم تلمح هي تلك الابتسامة التي ظهرت على وجهه

و في طريقهم و بعدما اوصلوا شهد تنحنح ليسألها
- كيف حالك
كانت شاردة في حالها، تنظر للطريق الخالي حولهم من زجاج سيارته بينما يلفحها الهواء البارد فتأملها و هو يوزع نظراته بينها و بين الطريق، وجهها الذي يمزج البراءة بالاغواء، و حجابها المنمق حول وجهها الممتلئ، انزل نظراته لفستانها الربيعي بألوانه الزاهية ليجد انثى بهيئة طفلة
استغفر الله سرا و عاتب نفسه على نظراته و نظر امامه
كيف ينظر لونس هكذا؟ و نس التي لم تعد طفلة
لذلك اجلى حنجرته ليتحدث بصوت عالي كي تفيق
- كيف حالك يا ونس؟
اضطرب قلبها، انها في سيارة ضياء حقا، كيف تعمقت بأفكارها و نسيت وجوده و لكنه كان ايضا في افكارها
- بخير، و انت كيف حالك يا باشمهندس
- ‏بخير يا باشمهندسة
و ابتسم بعمق لتناظره و هي تبحث في وجهه عن غمازته و لكنها لم تراها بسبب كثافة لحيته و لكن رأت موج عيناه الازرق، لتخفض نظراتها فسمعته يسألها
- و كيف كانت الدراسة، تحدثي عن سنينك و ماذا فعلتي خلال تلك السنوات
- ‏انت لم تكن متواجدا لذلك لا يحق لك السؤال
قالتها بإندفاع ممتزج بالغيظ، أيحق له السؤال بعدما نفى نفسه عنها مسبقا
تجهم وجهه من طريقتها المندفعة ليقول
- ألا يحق للاخ الاكبر ان يسأل اخته عن اخبارها؟
ابتلعت غصه حلقها ببعض الاسى
فليفتح قلبها و يرى الرابط بينهم اذا
- نعم يحق، انا متوترة اليوم قليلا
- لماذا
سألها بحنانه المعهود
- لا احب اليوم الاول في اي شئ فخوفي يغلب حماسي
- ‏مازلت اتذكرك طفلة تحكي لي عن يومها الاول في المدرسة بشعرها البني ذو الضفائر و عيناها المتوهجه و تخبرني بذات الجملة " كنت خائفة في اول يوم يا ضياء و لكنني تحمست في باقي الايام "
دمعت عيناها دون ارادتها و هو يقص عليها ما لن تتذكره لصغر سنها
كانا قد اقتربا من الحي الذي يسكنان فيه، فهو جارها لتشتت تفكيرها و هي تسأله
- اين تبقى ونس في هذا الوقت
- ‏لقد جلبت احدى المربيات لها
فناظرته بدهشة
- ماذا؟ اتترك طفلة صغيرة مع واحده لا تعرفها
- ‏لا تقلقي، فأنا اضع الكاميرات في غرفة الصغيرة و المطبخ و غرفة المعيشة لاراقب البيت و انا بعيد عنه، و الى الان لم يصدر منها اي شئ غير اخلاقي
- ‏هل تجلس مع..
و تلعثمت من فرط خجلها و لكن غيرتها تغلبها
- اقصد
- ‏بالطبع لا، عندما احضر الى المنزل ترحل هي فورا، لا تقلقي
- ‏لم اقلق
و وقفت السيارة امام منزلهم و لكن قبل ان تترجل اخبرته بحزم
- لم اود احراجك اليوم، و لكنني لا احبذ ان توصلني بسيارتك، اليوم استثناء و اتمنى ان تتفهم موقفي
و لم تنتظر رده لقد ترجلت من السيارة امام نظراته سريعا لتدخل منزلها و لترتسم على وجهه ابتسامة فخر

" " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " "

و في المساء حالما اغلقت الهاتف مع شهد التي حاولت سبر اغوارها، و لكن ونس كتومة كيف لها ان تحكي عن حبها، مشاعرها، شوقها له
حب ضياء يجب ان يبقى في القلب.. للابد
لن تحكي عنه لأحد، يكفي انها تحكي للقمر مثلما تفعل الان
كانت تقف في شرفتها بحجابها المتطاير اثر نسمات الهواء، تستمتع بهدوء الشارع شبه الخالي من الناس، تغمض عيناها و تستنشق الهواء الرطبه لعله يهدئ من شوقها له، حتى الان لا تصدق انه هنا، انها تراه رغم غيابه لشهر و نصف من يوم العيد و مقابلتها له اليوم

" على قد ما كنت اتمنى لقاك
و فضلت اعد انا في الايام
اه من اللي انا شوفته حبيبي معاك
مش قادرة اغمض عيني و انام"

سمعتها من البقالة المقابله لهم لتفتح عيناها و هي تناظرها
لترتفع وتيره انفاسها و هي تجده واقفا امام البقالة و في يده ونس الصغيرة، يناظرها بعيناه المضيئة لتسبل اهدابها بخفوت و ترفع يدها بالتحية فترك يد ابنته بعدما اخبرها بشئ ما فدخلت لمنزلهم، و مازال هو واقفا يتطلع لها بهيئته المهيبه

" مشيت ورا احساسي
لقيتك حبايبي و ناسي
لقيتك حنين كتير عليا، و انا اللي فكراك قاسي"

تتردد كلمات الاغنية في الخلفية بينما تتحدث اعينهم من تلك المسافة التي تجزم انه يراها من اضاءة الشارع الخافتة، و في عاصفة افكارها سمعت صوت الجرس لتهرول بقلب خافق و تفتحه هي سريعا قبل وصول لاحد لتجد ونس الصغيرة التي قالت لها بصوتها الرقيق
- مساء الخير، جلب لكِ ابي هذه
و اعطتها كيسا صغيرا ففتحته من شده فضولها لتتسع عيناها بدهشة و من ثم اغلقته سريعا لتحافظ على معالم وجهها و من ثم تلقفت الصغيرة بين يداها لتغرق وجهها بالقبلات قائله
- لماذا لا تأتين عندنا
- ‏مازلت صغيرة و لا اعرف الطريق
- ‏جواب مقنع
و اخذت تدغدغ وجنتها بأسنانها لتضحك الصغيرة بصوت عالي فشاركتها هي الضحك ليستمعان لصوته و هو يقف امامهم
- كنت اتساءل عن سبب تأخيرها، الان عرفته
- ‏نحن نضحك يا أبي
اثر سماعها كلمة أبي
شعرت ونس برغبة حارقه في البكاء و ضرب وجهه و من ثم الارتماء على صدره
تلقف من بين ذراعيها الصغيرة التي كانت تخبئ بيجامتها ذات الرسومات الطفولية فإحمرت وجنتاها بخجل و هي تعدل حجابها
و كان هو امامها مستمتعا بخجلها ذاك، ونس التي كانت تجلس على قدمه كبرت و اصبحت تخجل منه، و نظر ليدها التي تقبض على الكيس البلاستيكي بسعادة، لقد تحجج بإبنته و تركها تصعد اولا كي يأتي خلفها، كان يتجنبها من يوم العيد، حركت فيه الكثير من المشاعر التي ظن انه لن يحياها و خاف عليها من نفسه لذلك ابتعد و لكن لقائهم و حديثهم اليوم اشعل به تلك المشاعر مره اخرى
فسمع من خلفها صوت والدها الحازم الذي يسألها
- ماذا تفعلين عندك يا ونس
ابتلعت ريقها ببطئ لتجيبه ببعض الخوف
- انه الباشمهندس ضياء يا ابي
ليرد والدها بفظاظة احمر لها وجهها و هو يقترب من الباب
- و ماذا يفعل عندك في هذه الساعة
تلاشت كل الاسباب من عقلها ليرد هو بكياسته المعتاده
- ارادت ونس ان تبيت معها اليوم لذلك احضرتها، و اتمنى ان لا يسبب لكم هذا اي ازعاج
- ‏اهلا بكما في اي وقت، خذي الفتاة و اغلقي الباب يا ونس
قالها و هو يوليه ظهره ذاهبا لغرفته مره اخرى
ليشفق عليها من احمرار وجهها قائلا ببعض الندم
- اعتذر عن ما سببته الان بعدم تفكير...
قاطعته لتأخذ الصغيرة قائله ببعض الحزم
- لن اذهب للجامعة غدا، و ليس لدي تدريب و كنت سأطلب بنفسي ان تبيت معي ونس
فنظر لابنته نظرة ذات معزى لمعرفة رغبتها فهزت رأسها بنعم فقال هو ببعض الحرج
- ‏حسنا، شكرا لكِ، تصبحان على خير
- و انت من اهل الخير
و اغلقت هي الباب خلفه ليستدير راحلا

و في داخل غرفتها كانت الصغيرة تلعب بالدمى خاصتها بينما جلست هي على السرير لتفتح الكيس البلاستيكي و تخرج منه حلوى على شكل فاكهة كان يجلبها لها في طفولتها، لم تهتم بالبحث عنها بعدما رحل و كأن حلاوة الدنيا تلاشت مع رحيله
فتحت واحده لتتذوقها و اغمضت عيناها لتستشعر نفسها صغيرة، اختلفت عن المذاق الحلو في طفولتها لتصبح ألذع مثلما اختلف كل شيء و لم يختلف ضياء
نظرت لطفلته الهادئة التي تجلس امامها، تلعب بهدوء، أكانت هادئة هي الاخرى في طفولتها
- هل انتِ جائعة يا ونس
- ‏لا، شكرا لكِ
لماذا تسألها فلتجلب لها شيئا لتأكله دون سؤالها
خرجت من الغرفة لبعض دقائق و من ثم حضرت و في يدها صينية تحمل عليها بعض الاطباق المختلفة لتجلس امامها على الارض قائله
- انا جائعة للغايه و لا احب الاكل بمفردي، هل من الممكن ان تشاركيني
اومأت الصغيرة برأسها فتركت الدمية التي تلعب بها جانبا و من ثم اعتدل لتجلس ظقابل ونس التي سألتها و هي تفتح الخبز بفتحة جانبيه
- اخبريني عنك، اين اصدقائك، ماذا تفعلين هنا، اخبريني كل شيء
- ‏ليس لدي اصدقاء، صديقي هو ابي
تلك الفتاة تتحدث بحديث اكبر من سنها، ربما هي هكذا لانها لم تخطلت بأحد الاطفال و طبع عليها اسلوب ضياء
- ‏ستذهبين بعد ايام للروضة القريبة، سأخبر اباكِ و ستحصلين على الكثير من الاصدقاء
- حقا
قالتها الصغيرة بمرح و هي تمضغ الشطيرة التي اعدتها لها ونس فقالت بإبتسامة و هي تتطلع فيما تأكله ونس
- انتِ تأكلين البيض بالجبن مثل ابي
- ‏حقا
تصنعت عدم المعرفة، رغم انها احبت هذا الخليط بفضله، ضياء معها في كل تفاصيلها مهما انكرت

حان وقت النوم فأخذتها بين احضانها و هي تمشط شعرها بيدها و تحكي لها حكاية ما قبل النوم فقالت لها الصغيرة قبل ان تغط في النوم
- اخبرني ابي بأنه سيحضرك لتبقين في بيتنا و تحكين لي القصص هكذا
تطلعت لها ونس بدهشة متسائله و سألتها برفق
- ماذا قال والدك
و لكنها سمعت انتظام انفاس الصغيرة، فعلمت انها تهلوس، ام ان ضياء قال هكذا حقا
اضطرب قلبها فضغطت عليه برفق
أيعقل ان يحبها ضياء؟
و ظل هذا السؤال يتردد في عقلها حتى استسلمت للنوم و كان بطل احلامها كالعاده.. ضياء

" نهاية الفصل الثاني "
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي