الفصل الرابع

- صباح الخير يا باشمهندسة
نظرت خلفها لمصدر الصوت لتجد " حازم" تأوهت بخفوت و هي تنظر للشارع خوفا من ظهور ضياء، فلقد ذهبت لشراء مستلزمات عيد ميلاد ونس و كانت على وشك صعود منزلها حتى اوقفها حازم فردت بهدوء مضطرب
- صباح الخير
تنحنح و هو يهرش ذقنه ببعض التوتر، فهذه المره الاولى التي يحدثها بعدما طلب يدها رسميا، وقد كان يحدثها قبلا بحديث عابر في المناسبات المشتركة بحكم صداقة والده و والدها فقال بحرج بأول ما خطر على عقله
- كنت اريد رؤيه عمي سامي
- ‏ابي غير موجود، وأظن انه مع والدك في رحلة عمل
قالتها سريعا و من ثم وبخت نفسها على فظاظتها عندما رأته و هو يبتلع ريقه بتوتر و نظر لعيناها التي مازالت تراقب الشارع فربما يمر ضياء فسألها بوضوح
- لقد طلبت يدكِ من عمي سامي و لكنه يراوغ حتى الان في رده علىّ
احمر وجهها خجلا من الموقف ككل، تنفست بإضطراب و هي تنظر للاسفل قائله بوضوح مماثل
- انا غير موافقة
- ‏هل علىّ انا بالتحديد
سألها بغموض و مازالت هي على تنكيسه رأسها فأكملت بتبرير
- لا، ليس انت بالتحديد فأنت شاب رائع و لكنك لا تناسبني و انا لا اناسبك و هذا لا يعيبنا في شيء، كل شيء قسمه و نصيب، انا اسفه لقولي هذا و لكنني غير موافقة
- ‏حسنا يا ونس، اتمنى لكِ السعادة
قالها ببساطة و كأنما لم يتم رفضه للتو فنظرت له و هو يعطيها ظهره منصرفا، وتنفست الصعداء و هي تصعد لمنزلهم
و من مكانه هناك كان ينظر لهما بعينين مرعبتين غضبا، يقبض على كيس الزينة التي احضره لها، تحترق احشاءه بذاك الشعور البغيض و هو يراها بجوار اخر، اخر يعرفه جيدا فلقد بحث عن "حازم" طويلا حتى عرفه، كان ينظر لاحمرار وجهها فتتدفق بداخله الحمم و كأنها تكويه، ضغط على معدته ببعض الالم، تلك النيران التي تندلع بداخله لن يتحملها، حتى رأها تنظر إليه و كأنما تشيع ظهره المنصرف بوداع صامت و ابتسامة مطمئنة ارتسمت على شفتيها و هي تصعد لمنزلها
تطلع حوله للشارع شبه الفارغ في هذا الوقت من الظهيرة و احتراق معدته يتزايد فعاد لمنزله القريب بقلب غاضب و كيس زينة لم تنفك عقدته

" " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " "

كانت تقف في مطبخ منزلها، تخرج مكونات كعكة عيد الميلاد بقلب خافق، يتراقص بسعادة، يتضخم بالحب
‏اصرت على صنع الكعكة بنفسها
فأخذت ‏تخلط مكونات الكعكة و كأنما تضع في كل تقليبه جزء من قلبها، تصب الخليط في قالب يأخذ شكل قلب، تبتسم بسعادة و هي تضعه في الفرن، تشكل عجينة السكر التي اخذت اللون الوردي و هو لون ونس المفضل، تحسد بداخلها كل مكون سيدخل لفمه، سيستشعره بحواسه، سيتذوق كل ما لامسته يدها
حتى اخر لمسه وضعتها كانت الابتسامة تزين محياها فقالت بصوت متخم بالسعادة
- انتهيت
و اكملت في سرها
- ستتذوق صنع يدي يا ضياء قلبي
نظرت للساعة التي اوشكت على السابعة و ناظرت القالب بفخر و هي تضعه في الثلاجة وأسرعت لتحضير نفسها

خرجت للصاله بقلب خافق بعدما تجهزت لتقف امام والدتها التي قالت بسعادة
- ابنتي الجملة، اعطني قبلة يا فتاة تعالي
امها، هي الركن الشديد اللين، الصارم الحنون، دفعات الثقة التي تعطيها لها كانت و ستظل دائما زاد ايامها في ظل فظاظة ابيها، هو اباها فقط لانه يجني المال
وسمعت صوت جدها القائل بطيبته المعهودة
- نور عيناىّ، اشعر و كأنما ابصر فقط في حضرتك
- ‏اذوب، اذوب يا "عبدو" من كلماتك تلك
و اقرنت قولها بقبلة عميقة على وجنته المتجعده ليبتسم قائلا بغموض
- غدا ستستمعين لافضل منها
- ‏متى؟ اريد معرفة الوقت المتبقي فقط
قالتها بتنهيدة شوق
شوق يريد منها الان الاتصال عليه و معرفة سبب تأخيره و كأنما ما تفكر به قد راود والدتها التي امسكت هاتفها لتتصل عليه و انتظرت و انتظرت و عيناها تنظر للهاتف بقلق، قلبها ينقبض بصورة بغيضة و امها تقول
- السلام عليكم
و استمعت للجانب الاخر ليغزو وجه امها القلق و هي تنهض مسرعه
- حسنا، لا تقلقي يا صغيرتي سنأتي إليكِ
- ‏ماذا هناك يا امي
سألتها بلهفه قلقة لترد امها
- ونس هي من حدثتني و هي تبكي قائله بأن ضياء يتألم من معدته منذ الصباح، سأذهب إليهم يا ابي
قالتها والدتها محدثة جدها هي تفتح باب منزلهم لتعاجلها بالقول
- و انا ايضا
و قبل ان تعترض والدتها سمعت صوت جدها الحازم يقولج
- خذيها معك يا كوثر

و في طريق ذهابهم من منزلها لمنزله شعرت و كأنما تمشي منذ عام على الشوك، شوك ينغز قلبها بألم فيضيق صدرها و هي تتخيل ان مكروها قد يصيبه، يضطرب تنفسها و ينقبض قلبها بشعور خانق فتضع يدها على صدرها بألم و هي تعبر بوابة منزله، رنت جرس الباب مرات متتالية لتوبخها والدتها
- ونس، انتظري قليلا
و اه لو تعلم امها مقدار حرقة قلبها، النار التي تنشب في صدرها و لن تهدأ سوى برؤيته لتقر عينها به
انفتح الباب ليظهر من خلفه ابنته الباكية
فدخلت ونس و هي تنظر للمنزل امامها و لا تعلم اين تذهب فأشارت لها ابنته على الغرفة
دخلتها هي بسرعة قبل والدتها التي تُطمئن ابنته
وجدته خائر القوى على السرير يفتح عيناه بصعوبة، ممسكا بمعدته و متأوها بخفوت و على وجهه امارات الالم، يغزو جبينه قطرات العرق المتفاعله مع احمرار وجهه، اقتربت ببطء من سريره حتى حضرت والدتها التي ما ان رأته هكذا حتى قالت
- سأتصل بعبد الله ليحضر سريعا
و عبد الله هو ابن خالتها الكبير او بالاحرى طبيب العائلة
لتجلس هي على مقعد مقابل له، تنظر لعيناه شبه المفتوحة بقلب سريع الخفقات، تود ان تشاطره نصف ألمه ان تتحمل معه وجعه ذاك، تكتم صوت بكائها بكفها، فمن المفترض ان تخبره بقوة انه سيكون بخير، و لكنها عاجزة، ضياء هو مصدر قوتها
- لا تبكي
سمعتها بصوته الواهن و كأنما تحامل على نفسه من اجل ان يطمئنها، لتزداد دموعها غزاره و هي تضغط كفها على فمها بقوة اكبر، حتى فتح عيناه مره اخرى قائلا
- لا تبكي
و كانت الكلمة موجهه هذه المره لابنته خلفها، فأخذتها ونس بين ذراعيها و هي تحتضنها ليختلط صوت بكائهما معا، كطفلتان صغيرتان تشتركان في نظرة الفزع عليه
ليغمض عيناه بعدها، على هذه الصورة التي حفظت في ذاكرته و قلبه.. للابد

" " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " " "

- لا تقلقي يا خالتي، انه بخير و لكنه مصاب بإلتهاب المعده و اجزم انه منذ فترة طويلة و تلك المسكنات التي يأخذها دون استشارة طبيب هي التي تسببت في تهيج معدته هكذا، و ربما تعرض لضغط نفسي ادى لتدهور حالته، سيفيق بعد قليل فلقد وضعت له المحلول و ونس ستسحب الابرة منه كما تعلمت، من الافضل ان لا يتناول شيئا الليله، و غدا سيكون بخير
حمدت الله سرا، تكاد تجزم ان قلبها غادرها اثناء فحصه له
- الحمد لله، شكرا يا حبيبي، لقد اتعبناك معانا
- ‏لا داعي للشكر يا خالتي، سأمر عليه غدا لافحصه مره ثانية، هل تريدان شيئا
- ‏سلامتك يا حبيبي
قالتها امها و هي تودعه، اغلقت الباب خلفه و تطلعت لها قائله
- اذهبي للبيت يا ونس من اجل جدك و لكن بعد ان تنزعي الابرة عنه، و انا سأنتظر معهم للصباح
كانت تود الاعتراض، و لكن كيف ستعترض
و جاء الاعتراض من فم الصغيرة قائله بخفوت من بين شهقاتها اثر البكاء
- اريد ان تبقى معي خالتي ونس
- حسنا خذيها معكِ للمنزل يا ونس و انا سأبقى قليلا حتى اطمئن ع....
و اعترضت الصغيرة مره اخرى
- و اريد البقاء مع ابي ايضا
و جاء قرار والدتها سريعا اشفاقا على الصغيرة
- حسنا، ابقي هنا يا ونس و انا سأخبر جدك و اجلب بعض الاغراض الناقصة، لا تفتحي الباب لاحد
قالتها و هي تتجه لباب المنزل لتفتحه بهدوء و تخرج، و وقفت ونس في منتصف منزله حائرة و بين يديها الصغيرة التي تنام على كتفها بطمئنينه، نظرت لباب غرفته، يعتصر قلبها الالم مع كل خطوة تخطوها بإتجاهه
انتفض قلبها و هي ترى عيناه المفتوحة، لقد استفاق سريعا ليطمئن قلبها، اقتربت منه بسرعة و تحدثت بصوت ملهوف
- هل انت بخير، ضياء هل انت بخير؟
- ‏بخير
و كان حقا بخير، رؤيتها بالنسبه له هي كل الخير لتتطلع له صغيرته التي قفزت من بين احضانها لتتجه إليه، تصعد سريره و يتخذ رأسها مكانه على ذراعه المفرود التي يتعلق بها المحلول، تدمع عيناها و وجهها مقابل لوجهه فتربت على وجنته بكفها الصغير بحنان، فعلتها تلك ابلغ مئات المرات من الكلمات لتدمع عيناه تأثرا و هي تغمض عيناها.. و كأنما برؤيته قد وجدت امانها المفقود
الفتيات، من لم يرزق بفتاة لم يذق حلاوة الدنيا من وجهه نظرة، ليناظر فتاته الكبيرة التي تبكي بصمت، مازال قلبه يحرقه و صورتها امام ذاك الفتى لا تمحى من خياله، فقال بصوته الضعيف نسبيا
- لا تبكي يا ونس
- ‏كدت اموت قلقا يا ضياء
قالتها دون تفكير و هي تمسح دموعها لتخذلها قدماها فجلست على المقعد المقابل له مره اخرى
- لماذا
- ‏اتسأل حقا
اغمضت عيناها و هي تلعن نفسها سرا، متهورة هي الان و عاطفية فسمعت سؤاله لتفتح عيناها بدهشة
- ماذا كان يريد منكِ حازم؟
- ‏حازم
- لا تكرري اسمه
قالها بغضب مبالغ فيه، انفعال عيناه اخافها فخافت عليه لتقول بهدوء و هي تمسح وجهها
- اهدأ يا ضياء، سأخبرك
- ‏و انا استمع
قالها و هو يعتدل من رقدته و يضع رأس ونس على الوسادة لتتطلع هي في المحلول الذي اوشك على النفاذ لتنظر إليه و عقلها يود مناورته و لكن حالته لا تسمح فقالت متنهده
- كان يسألني عن رأيي فيه، و هل انا موافقة عليه ام لا فمن الواضح ان ابي يماطله، و لكنني اجبته بوضوح و اخبرته بعدم موافقتي و هو مشكورا تقبل وضوحي برحابه صدر و غادر و هذا هو كل شيء
سماءها الصافية عادت، لم يشك بها للحظة، هو فقط يغار، يعتقد انها ستفتن جميع الرجال برقتها الساحرة، براءتها الفطرية التي تغوي طبيعه الرجل الحمائية
وقفت مكانها بذاك الفستان الساحر، بدرجات الازرق التي تشبه عيناه، ينتفخ من عند الخصر بإنتفاخ طفيف ظهر في وقفتها ليراها كالاميرات، عيناه تتعلق بلفتها العصرية لحجابها والتي اظهرت امتلاء وجنتها فيتمنى تقبيلها الان، لقد اطفئت كلماتها حريق قلبه و معدته
كانت تراقب اخر قطرات المحلول و تهرب من نظراته، ستمسك بيده الان و عند هذا الخاطر ارتجفت يدها لتقبضها بشده و تتغضن ملامح وجهها بما يشبه الالم و لكنه كان.. الشوق
و كان يراقبها، ينتظر ان تلامسه بشوق مماثل، حتى نظر ليدها التي تحركت بإتجاه يده، ارخى كفه و كأنما يود الغرق و هي المنقذه، شعور بالاكتمال سرى بين عروقه و هي تمسك يده و كأنما لم يمس امرأه قبلها قط
بينما ازدادت وتيرة انفاسها بتوتر، متأثرة بلمسته و خائفة من ارتباكها و هي تسحب الابره، حتى تنفست و قد سحبتها لتضع كفه على الوسادة مره اخرى، ابتسمت و هي تمسكها و كأنما انتصرت في احدى المعارك الضارية فشجعها قائلا
- انا فخور بك يا صغيرتي
- ‏هل انا صغيرة حقا في نظرك
اه من النساء، تغاضت عن قول فخور و تشبثت بصغيرتي و لكنه قرر مشاكستها قائلا
- سأظل اراكِ صغيرة حتى و ان اصبحتي عجوز
- ‏حتى و ان تزوجت
تجمدت ملامحه، فتكاد تقسم انها تؤثر به و لكن لماذا لا يتحدث
اطرقت برأسها بعيدا عن وجهه بينما قبض هو على كفه قائلا
- هل تحبين احدهم؟
اجفلت من سؤاله الذي لم تتوقعه، ابتلعت ريقها الجاف بصعوبة و هي تجلس مره اخرى على المقعد
- ألا يحق لي الحب
سألته بخفوت، لم ينظر لها فقد كان ينظر امامه مفكرا، يريد لها الافضل و هو ليس بالافضل و لكنه سيصبح لاجلها الافضل، ليجيبها بقوة توازي قوة نظراته التي تبتلعها
- يحق لكِ
و صمت ليكمل بنبرته الحنون
- ان تحبيني.

" نهاية الفصل الخامس "
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي