1 الفصل الأول
كيف تطيب الحياة؟ لقلب ما له نجاة، بحزن وجراح، وجع ونواح وعيون لم تنم، وآهات لم تسمع، وعبرات مخنوقة، سائرون بلا هدي، لا نعرف القادم، ولا نعلم المكتوب، دروب تأخذنا، مواقف تصقلنا، وتبقى الدائرة تدور، لم تحتفظ كل القلوب بالطيبة، فبعضها دنسته الشياطين، وتحالفت معه الأبالسة، وتستمر مطارق الحياة بالطرق فوق رؤوسنا، فلا هي تتوقف، ولا نحن نستسلم، لن تكون كل النهايات سعيدة، ولكن ينتصر الخير دائمًا، بصورة ما، إنها الحياة.
على شيزلونج الطبيب النفسي تتوالى الحقائق، الاعترافات، مهما حاول المرضى اللف والدوران يجدون نفسهم دائمًا مجبرين على مواجهة الحقيقة.
في الدور السادس بالعقار رقم عشرين في شارع خمسه وأربعين، تقع عيادة الطبيبة سمرا الطبيبة النفسية.
دخلت رضوى العيادة حسب ميعادها، ألقت التحية على سعاد مساعدة الطبيبة وبادلتها الابتسامة التي ترسمها سعاد دائمًا، ودخلت للطبيبة.
- السلام عليكم طبيبة سمرا.
- وعليكم السلام رضوى، كيف حالك اليوم؟
ابتسمت ابتسامة مبهمة، وقالت:
- قادمة لطبيب نفسي فهل تعتقدين أنني بخير؟
بادلتها الابتسامة بابتسامة هادئة:
- وهل يجب أن تكوني في حال سيء لتزوري الطبيب النفسي، الطبيب النفسي صديق لا يبوح بالأسرار هذا كل ما في الأمر.
- من أين ابدأ رواية ما يعتمل في نفسي؟
- من حيث ما أردتِ، تمددي هنا على الشيزلونج، وأغمضي عينيك، واروي ما تريدين.
قامت لتتمدد على الشيزلونج بينما هدأت الطبيب سمرا من شدة الإضاءة وقامت بتشغيل موسيقى كلاسيكية هادئة.
تنفست رضوى نفسًا طويلًا ثم زفرته، و بدأت تروي:
- أنا رضوى واصف ابنة رجل الأعمال المصري واصف السوهاجي ذو الأصول الصعيدية، الذي أمضى معظم حياته في لبنان متزوجًا هناك بميرا نادر ومنجبًا ثلاثة فتيات رضوى ورفيف ورنا، أنا أكبرهم.
أمضى واصف معظم حياته بلبنان فهو أقام هناك منذ بلوغ الثانية والعشرين من عمره وعندما قد بلغ الخامسة والأربعين، فجأة صدمنا بوجوب عودته لوطنه مصر.
كان ذلك القرار محل جدل من ناحية أمي أولًا فلقد ارتعبت أن يكون وراء هذه العودة المفاجئة مشاكل في العمل، أو أنه ارتكب ذنبًا ما ويهرب منه.
كانت رضوى تتحدث والطبيبة سمرا تستمع باصغاء وتدون بضعة كلمات في دفترها.
استمرت رضوى في الحديث:
- يومها دخلت لأسمع ذلك الخبر الذي يزفه بسعادة لوالدتي برجوعنا لمصر وسألت
- ما هو الذي سيحدث في وقت قريب؟
فقال لي: أهلًا صغيرتي.
تأففت قائلة:- أخبرتك أنني لا أحب هذا التدليل، لم أعد صغيرة، أنا الآن سيدة أعمال ناجحة يشار لي بالبنان، لا يصح أن تدللني بصغيرتي.
ابتسم:- حسنًا سيدة الأعمال، ما سيكون قريبًا هو عودتنا للقاهرة.
- أي قاهرة؟
- وهل هناك قاهرة غيرها بنيتي، إنها موطني.
تهكمت:- وأين كنت من موطنك هذا منذ زمن سحيق؟ أم أنه ظهر فجأة في خريطة حياتك.
اعترض :- تأدبي رضوى، لم أربك لتخاطبيني هكذا يا سيدة الأعمال.
تبرمت قائلة:- آسفة والدي، لكن حقًا ما الذي يدفعك لهذه المغادرة؟
- يدفعنا رضوى، يدفعنا.
- ماذا تقصد؟ أليست زيارة عابرة؟
اقتربت مني أمي واضعة يدها على كتفي:- ليست زيارة عابرة رضوتي، سينقل والدك نشاط الشركة للقاهرة!
صحت مستنكرة:- ما هذا؟ وكيف أكون آخر من يعلم؟ ألستُ عضوًا بمجلس إدارة الشركة التي تنوي نقل نشاطها؟
- صغيرتي ها أنا ذا اخبرك، واليوم بدأنا الإجراءات أنا وسادن.
ثرت واعترضت فكيف يكون سادن على علم وأنا لا.
قاطعتها سمرا:- ومن هو سادن؟
- سادن هو عنوان الاحترام، دائمًا ما تعجبت كيف لهذان أن يكونا صديقان، ثم إنهما ليسا مجرد صديقان فسادن بالنسبة لواصف هو تجسيد لقول رب أخ لك لم تلده أمك، وبالنسبة لي كان سادن هو رمز الرجولة، دائما ما تطلعت نحو سادن باحترام كبير، أعشق أدبه وتعامله الوقور مع السيدات، لم أره مرة يرفع نظره ليطلع على أنثى كما كان واصف يفعل، لم أره مرة مع أنثي، أو أسمع أنه ارتبط، ولولا دقته ومثاليته هذه لربما ظننت به الظنون، لكنه رجل لم أجد له مثيلًا، كان المثال والقدوة، أما واصف فكان نقمة كان لا يدع مؤنث إلا ووضع البصمة الواصفية عليها، كثيرًا ما ضبطته بالجرم المشهود مع العديد من العميلات أو مالكات الشركات وبالأخص السكرتيرات اللاتي كن يختفين الواحدة تلو الأخرى إلى أن قررت أن تكون وظيفة السكرتارية للذكور فقط وعند اعتراضه هددته أن اخبر أمي فرضخ، كان غريبًا بحق، يخونها وفي نفس الوقت يحبها، لا يتحمل أن تغضب منه، و طاما هي لا تعرف فليفعل ما يحلو له، المهم ألا تعلم، مع أني أعتقد أنها كانت تعلم، لا كنت متأكدة لكنها كانت صامتة لم تتطرق لهذه النقطة معي أبدًا وأنا لم أكن لأجرؤ على فتح مثل هذا الموضوع معها، أمي كانت كالبسكويتة الهشة الرقيقة.
لنعود لقصة حضورنا لمصر، ساعتها اعترضت وقلت له:- لا زلت غير متقبلة لهذه الفكرة وأنا غير موافقة عليها.
لأجد رنا ورفيف مرحبتين بالفكرة، وصل سادن وثرت على الجميع وتركتهم وصعدت غرفتي، كنت في قمة اضطرابي، القاهرة موطن كسرة قلبي، وحلمي الذي تبدد، كنت أحب دالي ضابط مصري تعرفت عليه أثناء وجوده في لبنان، تقاربنا جدًا وأصبح دالي هو كل ما أصبو له في الحياة، كنت سأقيم معه في القاهرة، بيوم عقد القران لم يحضر، انتظرته طويلًا، ليصلني خبر وفاته في أثناء تنفيذه إحدى العمليات، أتصدق سويعات قليلة كانت تفصلني عن حمل اسمه، وانتهى كل شيء، فترة طويلة مرت عليّ إلى أن استطعت الوقوف على قدمي ومواصلة الحياة، ويريدون مني أن أعود لبلده، وعدنا فكيف سأواجههم جميعا كان القرار قد صدر.
تنحنحت سمرا قائلة:- ما رأيك أن نكتفي بهذا القدر اليوم كبداية ونكمل بالجلسة القادمة؟
ابتسمت رضوى فقد انتهى الوقت المخصص لها:
- حسنًا.
وغادرت رضوى.
وما هي إلا نصف ساعه حتى حضرت شيماء حسب موعدها الذي حجزته بالهاتف،
و دخلت للطبيبة سمرا، ما أن ألقت عليها السلام وجلست حتى قالت:
- ربما ما سأرويه لم يحدث لي مباشرة لكنه يدمي قلبي و يؤلمني حد الموت، نعم لم يحدث لي لكنه يمسني ويمس من كان أحب الناس لقلبي، أنا بحاجة للحديث عنه.
ابتسم سمرا:- وأنا كلي آذان صاغيه.
قالت:- أنا لا أحب جلسة الشيزلونج سأروي وأنا جالسة في مكاني.
ابتسمت:- كما تريدين.
بدأت شيماء تروي ما لديها:
- أحداث قد عشتها وأحداث وذكريات قد رويت لي بلسان أصحابها، آن الأوان أن أرويها لأزيح ثقل تلك الذكريات عن كاهلي.
أحمد ابن الشيخ عبدالله الرفاعي يعمل في تجاره الأخشاب بالإسكندرية مع أخيه محمود، ورثا ذلك العمل أبًا عن جد فوالدهما عبد الله وجدهما الرفاعي من أكابر تجار الأخشاب.
اختار الحاج عبد الله لولديه عروستان من خيره بنات بحري وهما، نسرين ولبنى بنات الحاج عبد الرحمن منصور، نسرين عروسًا لأحمد ولبنى عروسًا لمحمود.
في ذلك الوقت كان مجال التعارف بين العرسان ضيقا قبل ليله الزفاف، أو ربما يكون معدومًا.
اختارت الحاجه درية رأفت هاتان العروستان فهي صديقه والدتهما الحاجه صفية خطاب سليلة العائلات التركية.
كان أحمد ومحمود يتساءلان فيما بينهما عن شكل العروستين فلقد رفضت والدتهما أن يريهما ولا رأي بعد رأيها.
وكانت المفاجأة من نصيب كليهما ليلة الزفاف فالعروستين فائقتا الحسن،
كانت إقامتهم في نفس المنزل بالطبع مع والدهما الشيخ عبد الله لكن كان لكل منهما شقة منفصلة للنوم، وكانت إقامتهما طوال النهار في شقة والدهما.
ذاب أحمد عشقًا في نسرين وكذلك محمود سقط في غرام لبنى.
منذ اليوم الأول للزواج كانت درية واضحة صريحة في أنها بعد تسعة أشهر من يوم الزفاف تريد حفيدًا بين ذراعيها.
حملت لبنى سريعًا أما نسرين فتأخر حملها، وكانت درية دائمًا ما تضايقها.
أنجبت لبنى ذلك الصبي الأسمر الذي أسماه أحمد عمه بالأدهم.
أما نسرين كانت درية لا تتركها بحالها وذهبت بها لكل الدايات اللوات أكدن لها أن نسرين سليمة لا عيب فيها، لكن مع عدم حملها لم تقتنع درية؛ حتى أنها ذهبت بها للأطباء مع أن ذلك وقتها كان صعبًا ومستهجنًا من قِبل أحمد، أعطى الطبيب لنسرين أدوية لتتناولها، في هذه الأثناء كان أدهم هو حبة قلب أحمد لا يتركه أبدًا، وكذلك نسرين كانت تحبه جدًا وكأنه ابنها، واتفق أحمد ومحمود على أن أحمد إذا أنجب بنتًا فستكون هي عروس أدهم.
مع عدم حمل نسرين طالبت دريه أحمد أن يتزوج، لكنه رفض رفضًا قاطعًا، لم تشأ دريه أن تخسره فسكتت على مضض، لكن سكوتها لم يخلو من اللوم والتقريع لنسرين.
مرت خمسة سنوات على نسرين بدون أن تحمل، إلى أن أمر الله بحملها، وكانت فرحة الكل فرحة عارمة وذبحت الذبائح احتفالًا بخبر الحمل، خاصه أن لبنى هي الأخرى كانت حاملًا.
وكفت دريه عن تقريع نسرين وكانت كما يقولون تحملها من على الأرض حملًا وتخشى عليها من نسيم الهواء.
أنجبت نسرين فتاه كالبدر في تمامه أسماها محمود عشق وقال إنها عروس أدهم وانجبت لبني فتاه أسماها أحمد شيماء.
إنها أنا شيماء الرفاعي ولدت أنا وعشق في نفس اليوم، كنا كالأختين، لو كان لي أخت شقيقه لم أكن لأحبها هكذا وهي أيضًا كانت تحبني فلم يكن لديها سواي كنا كروح واحده في جسدين، وأنا أخت أدهم الذي لم يكن لي مجرد أخ أكبر، أدهم كان أنيسي وأبي وأمي وكل ما لي في الحياه،
تربينا سويًا في بيت جدي والقاصي والداني يعلم أن عشق لأدهم وأدهم لعشق.
أدهم كان درعنا الحامي أنا وعشق بحكم أنه أكبر منا بخمس سنوات، كان يحبنا جدًا ويخاف علينا فلم يكن لديه سوانا، فأمي وخالتي لم تنجبا بعدنا، مع أن جدتي جعلتهما تذهبان لكل الأطباء لعل وعسى، لكن الله لم يأذن لهما بالحمل مرة أخرى.
كبرنا وكرهنا المدرسة التي أبعدت أدهم عنا، كان أدهم متفوقًا فهو دائمًا الأول على المدرسة، دخلنا أنا وعشق المدرسة، أدهم دائمًا ما كان يوصلنا للمدرسة صباحًا و ينتظرنا عند الخروج.
سنوات مرت وأصبحنا فتاتين رسميًا وتوالت التحذيرات من أمي وخالتي وقبلهما جدتي إياكما واللعب مع الأولاد (وهل نعرف أولادًا بالأصل لنلعب معهم؟)
احترسا جيدًا، إياكما أن يقربكما أحد، عندما خرطنا خراط البنات كما يقولون أصبحنا فاتنتين طويلتا القامه ذواتا شعر مسترسل ناعم كان شعري أسود وشعر عشق كان بلون البندق، بيضاويتي البشرة.
ثلاثي القوه النسائي في المنزل كما كنا نطلق على أمي وخالتي وجدتي لم يدعننا نخرج من المنزل ولا حتى مرة بدون طقوس الرقية والبخور لدرء العين والحسد،
لم نكن نذهب للدروس خارج المنزل فكيف تخرج هاتان الجميلتان وحدهما فبالتأكيد أدهم لن يكون متفرغًا طوال الوقت لإيصالنا، لديه هو الآخر واجبات ودروس فكانت المدرسات تأتين لنا في المنزل لإعطائنا الدروس.
كانت الإجازة بالنسبة لنا هي المتنفس الحقيقي لنخرج يوميًا ونستمتع بالحياة.
أدهم أو (دومي) كما كنا ناديه تحببًا لم يدع مكانًا بالإسكندرية ولم يأخذنا له،
محطه الرمل، قصر المجوهرات، القلعة، المنتزه، كل المطاعم، لم يبق مكان لم نزره أو شارع لم ندخله، لكن مكاننا المفضل كان دائمًا بئر مسعود والشاطئ القريب منه، مشهد غروب الشمس هناك كنا عاشقين له.
منذ أن فتحت عشق عيناها على الدنيا لم تكن تسمع سوى أن أدهم لعشق وعشق لأدهم فأحبت أدهم وكانت تهتم بكل تفصيله لأدهم، ماذا يحب أن يأكل؟ ماذا يشرب؟ ألوان ملابسه، عطره المفضل، كل شيء.
كان الثلاثي دائمًا ما يستغل هذه النقطة.
قاطعتها سمرا:- الجلسة القادمة تخبريني كيف كان الثلاثي يستغل هذه النقطة.
- حسنًا إلى الجلسة القادمة.
على شيزلونج الطبيب النفسي تتوالى الحقائق، الاعترافات، مهما حاول المرضى اللف والدوران يجدون نفسهم دائمًا مجبرين على مواجهة الحقيقة.
في الدور السادس بالعقار رقم عشرين في شارع خمسه وأربعين، تقع عيادة الطبيبة سمرا الطبيبة النفسية.
دخلت رضوى العيادة حسب ميعادها، ألقت التحية على سعاد مساعدة الطبيبة وبادلتها الابتسامة التي ترسمها سعاد دائمًا، ودخلت للطبيبة.
- السلام عليكم طبيبة سمرا.
- وعليكم السلام رضوى، كيف حالك اليوم؟
ابتسمت ابتسامة مبهمة، وقالت:
- قادمة لطبيب نفسي فهل تعتقدين أنني بخير؟
بادلتها الابتسامة بابتسامة هادئة:
- وهل يجب أن تكوني في حال سيء لتزوري الطبيب النفسي، الطبيب النفسي صديق لا يبوح بالأسرار هذا كل ما في الأمر.
- من أين ابدأ رواية ما يعتمل في نفسي؟
- من حيث ما أردتِ، تمددي هنا على الشيزلونج، وأغمضي عينيك، واروي ما تريدين.
قامت لتتمدد على الشيزلونج بينما هدأت الطبيب سمرا من شدة الإضاءة وقامت بتشغيل موسيقى كلاسيكية هادئة.
تنفست رضوى نفسًا طويلًا ثم زفرته، و بدأت تروي:
- أنا رضوى واصف ابنة رجل الأعمال المصري واصف السوهاجي ذو الأصول الصعيدية، الذي أمضى معظم حياته في لبنان متزوجًا هناك بميرا نادر ومنجبًا ثلاثة فتيات رضوى ورفيف ورنا، أنا أكبرهم.
أمضى واصف معظم حياته بلبنان فهو أقام هناك منذ بلوغ الثانية والعشرين من عمره وعندما قد بلغ الخامسة والأربعين، فجأة صدمنا بوجوب عودته لوطنه مصر.
كان ذلك القرار محل جدل من ناحية أمي أولًا فلقد ارتعبت أن يكون وراء هذه العودة المفاجئة مشاكل في العمل، أو أنه ارتكب ذنبًا ما ويهرب منه.
كانت رضوى تتحدث والطبيبة سمرا تستمع باصغاء وتدون بضعة كلمات في دفترها.
استمرت رضوى في الحديث:
- يومها دخلت لأسمع ذلك الخبر الذي يزفه بسعادة لوالدتي برجوعنا لمصر وسألت
- ما هو الذي سيحدث في وقت قريب؟
فقال لي: أهلًا صغيرتي.
تأففت قائلة:- أخبرتك أنني لا أحب هذا التدليل، لم أعد صغيرة، أنا الآن سيدة أعمال ناجحة يشار لي بالبنان، لا يصح أن تدللني بصغيرتي.
ابتسم:- حسنًا سيدة الأعمال، ما سيكون قريبًا هو عودتنا للقاهرة.
- أي قاهرة؟
- وهل هناك قاهرة غيرها بنيتي، إنها موطني.
تهكمت:- وأين كنت من موطنك هذا منذ زمن سحيق؟ أم أنه ظهر فجأة في خريطة حياتك.
اعترض :- تأدبي رضوى، لم أربك لتخاطبيني هكذا يا سيدة الأعمال.
تبرمت قائلة:- آسفة والدي، لكن حقًا ما الذي يدفعك لهذه المغادرة؟
- يدفعنا رضوى، يدفعنا.
- ماذا تقصد؟ أليست زيارة عابرة؟
اقتربت مني أمي واضعة يدها على كتفي:- ليست زيارة عابرة رضوتي، سينقل والدك نشاط الشركة للقاهرة!
صحت مستنكرة:- ما هذا؟ وكيف أكون آخر من يعلم؟ ألستُ عضوًا بمجلس إدارة الشركة التي تنوي نقل نشاطها؟
- صغيرتي ها أنا ذا اخبرك، واليوم بدأنا الإجراءات أنا وسادن.
ثرت واعترضت فكيف يكون سادن على علم وأنا لا.
قاطعتها سمرا:- ومن هو سادن؟
- سادن هو عنوان الاحترام، دائمًا ما تعجبت كيف لهذان أن يكونا صديقان، ثم إنهما ليسا مجرد صديقان فسادن بالنسبة لواصف هو تجسيد لقول رب أخ لك لم تلده أمك، وبالنسبة لي كان سادن هو رمز الرجولة، دائما ما تطلعت نحو سادن باحترام كبير، أعشق أدبه وتعامله الوقور مع السيدات، لم أره مرة يرفع نظره ليطلع على أنثى كما كان واصف يفعل، لم أره مرة مع أنثي، أو أسمع أنه ارتبط، ولولا دقته ومثاليته هذه لربما ظننت به الظنون، لكنه رجل لم أجد له مثيلًا، كان المثال والقدوة، أما واصف فكان نقمة كان لا يدع مؤنث إلا ووضع البصمة الواصفية عليها، كثيرًا ما ضبطته بالجرم المشهود مع العديد من العميلات أو مالكات الشركات وبالأخص السكرتيرات اللاتي كن يختفين الواحدة تلو الأخرى إلى أن قررت أن تكون وظيفة السكرتارية للذكور فقط وعند اعتراضه هددته أن اخبر أمي فرضخ، كان غريبًا بحق، يخونها وفي نفس الوقت يحبها، لا يتحمل أن تغضب منه، و طاما هي لا تعرف فليفعل ما يحلو له، المهم ألا تعلم، مع أني أعتقد أنها كانت تعلم، لا كنت متأكدة لكنها كانت صامتة لم تتطرق لهذه النقطة معي أبدًا وأنا لم أكن لأجرؤ على فتح مثل هذا الموضوع معها، أمي كانت كالبسكويتة الهشة الرقيقة.
لنعود لقصة حضورنا لمصر، ساعتها اعترضت وقلت له:- لا زلت غير متقبلة لهذه الفكرة وأنا غير موافقة عليها.
لأجد رنا ورفيف مرحبتين بالفكرة، وصل سادن وثرت على الجميع وتركتهم وصعدت غرفتي، كنت في قمة اضطرابي، القاهرة موطن كسرة قلبي، وحلمي الذي تبدد، كنت أحب دالي ضابط مصري تعرفت عليه أثناء وجوده في لبنان، تقاربنا جدًا وأصبح دالي هو كل ما أصبو له في الحياة، كنت سأقيم معه في القاهرة، بيوم عقد القران لم يحضر، انتظرته طويلًا، ليصلني خبر وفاته في أثناء تنفيذه إحدى العمليات، أتصدق سويعات قليلة كانت تفصلني عن حمل اسمه، وانتهى كل شيء، فترة طويلة مرت عليّ إلى أن استطعت الوقوف على قدمي ومواصلة الحياة، ويريدون مني أن أعود لبلده، وعدنا فكيف سأواجههم جميعا كان القرار قد صدر.
تنحنحت سمرا قائلة:- ما رأيك أن نكتفي بهذا القدر اليوم كبداية ونكمل بالجلسة القادمة؟
ابتسمت رضوى فقد انتهى الوقت المخصص لها:
- حسنًا.
وغادرت رضوى.
وما هي إلا نصف ساعه حتى حضرت شيماء حسب موعدها الذي حجزته بالهاتف،
و دخلت للطبيبة سمرا، ما أن ألقت عليها السلام وجلست حتى قالت:
- ربما ما سأرويه لم يحدث لي مباشرة لكنه يدمي قلبي و يؤلمني حد الموت، نعم لم يحدث لي لكنه يمسني ويمس من كان أحب الناس لقلبي، أنا بحاجة للحديث عنه.
ابتسم سمرا:- وأنا كلي آذان صاغيه.
قالت:- أنا لا أحب جلسة الشيزلونج سأروي وأنا جالسة في مكاني.
ابتسمت:- كما تريدين.
بدأت شيماء تروي ما لديها:
- أحداث قد عشتها وأحداث وذكريات قد رويت لي بلسان أصحابها، آن الأوان أن أرويها لأزيح ثقل تلك الذكريات عن كاهلي.
أحمد ابن الشيخ عبدالله الرفاعي يعمل في تجاره الأخشاب بالإسكندرية مع أخيه محمود، ورثا ذلك العمل أبًا عن جد فوالدهما عبد الله وجدهما الرفاعي من أكابر تجار الأخشاب.
اختار الحاج عبد الله لولديه عروستان من خيره بنات بحري وهما، نسرين ولبنى بنات الحاج عبد الرحمن منصور، نسرين عروسًا لأحمد ولبنى عروسًا لمحمود.
في ذلك الوقت كان مجال التعارف بين العرسان ضيقا قبل ليله الزفاف، أو ربما يكون معدومًا.
اختارت الحاجه درية رأفت هاتان العروستان فهي صديقه والدتهما الحاجه صفية خطاب سليلة العائلات التركية.
كان أحمد ومحمود يتساءلان فيما بينهما عن شكل العروستين فلقد رفضت والدتهما أن يريهما ولا رأي بعد رأيها.
وكانت المفاجأة من نصيب كليهما ليلة الزفاف فالعروستين فائقتا الحسن،
كانت إقامتهم في نفس المنزل بالطبع مع والدهما الشيخ عبد الله لكن كان لكل منهما شقة منفصلة للنوم، وكانت إقامتهما طوال النهار في شقة والدهما.
ذاب أحمد عشقًا في نسرين وكذلك محمود سقط في غرام لبنى.
منذ اليوم الأول للزواج كانت درية واضحة صريحة في أنها بعد تسعة أشهر من يوم الزفاف تريد حفيدًا بين ذراعيها.
حملت لبنى سريعًا أما نسرين فتأخر حملها، وكانت درية دائمًا ما تضايقها.
أنجبت لبنى ذلك الصبي الأسمر الذي أسماه أحمد عمه بالأدهم.
أما نسرين كانت درية لا تتركها بحالها وذهبت بها لكل الدايات اللوات أكدن لها أن نسرين سليمة لا عيب فيها، لكن مع عدم حملها لم تقتنع درية؛ حتى أنها ذهبت بها للأطباء مع أن ذلك وقتها كان صعبًا ومستهجنًا من قِبل أحمد، أعطى الطبيب لنسرين أدوية لتتناولها، في هذه الأثناء كان أدهم هو حبة قلب أحمد لا يتركه أبدًا، وكذلك نسرين كانت تحبه جدًا وكأنه ابنها، واتفق أحمد ومحمود على أن أحمد إذا أنجب بنتًا فستكون هي عروس أدهم.
مع عدم حمل نسرين طالبت دريه أحمد أن يتزوج، لكنه رفض رفضًا قاطعًا، لم تشأ دريه أن تخسره فسكتت على مضض، لكن سكوتها لم يخلو من اللوم والتقريع لنسرين.
مرت خمسة سنوات على نسرين بدون أن تحمل، إلى أن أمر الله بحملها، وكانت فرحة الكل فرحة عارمة وذبحت الذبائح احتفالًا بخبر الحمل، خاصه أن لبنى هي الأخرى كانت حاملًا.
وكفت دريه عن تقريع نسرين وكانت كما يقولون تحملها من على الأرض حملًا وتخشى عليها من نسيم الهواء.
أنجبت نسرين فتاه كالبدر في تمامه أسماها محمود عشق وقال إنها عروس أدهم وانجبت لبني فتاه أسماها أحمد شيماء.
إنها أنا شيماء الرفاعي ولدت أنا وعشق في نفس اليوم، كنا كالأختين، لو كان لي أخت شقيقه لم أكن لأحبها هكذا وهي أيضًا كانت تحبني فلم يكن لديها سواي كنا كروح واحده في جسدين، وأنا أخت أدهم الذي لم يكن لي مجرد أخ أكبر، أدهم كان أنيسي وأبي وأمي وكل ما لي في الحياه،
تربينا سويًا في بيت جدي والقاصي والداني يعلم أن عشق لأدهم وأدهم لعشق.
أدهم كان درعنا الحامي أنا وعشق بحكم أنه أكبر منا بخمس سنوات، كان يحبنا جدًا ويخاف علينا فلم يكن لديه سوانا، فأمي وخالتي لم تنجبا بعدنا، مع أن جدتي جعلتهما تذهبان لكل الأطباء لعل وعسى، لكن الله لم يأذن لهما بالحمل مرة أخرى.
كبرنا وكرهنا المدرسة التي أبعدت أدهم عنا، كان أدهم متفوقًا فهو دائمًا الأول على المدرسة، دخلنا أنا وعشق المدرسة، أدهم دائمًا ما كان يوصلنا للمدرسة صباحًا و ينتظرنا عند الخروج.
سنوات مرت وأصبحنا فتاتين رسميًا وتوالت التحذيرات من أمي وخالتي وقبلهما جدتي إياكما واللعب مع الأولاد (وهل نعرف أولادًا بالأصل لنلعب معهم؟)
احترسا جيدًا، إياكما أن يقربكما أحد، عندما خرطنا خراط البنات كما يقولون أصبحنا فاتنتين طويلتا القامه ذواتا شعر مسترسل ناعم كان شعري أسود وشعر عشق كان بلون البندق، بيضاويتي البشرة.
ثلاثي القوه النسائي في المنزل كما كنا نطلق على أمي وخالتي وجدتي لم يدعننا نخرج من المنزل ولا حتى مرة بدون طقوس الرقية والبخور لدرء العين والحسد،
لم نكن نذهب للدروس خارج المنزل فكيف تخرج هاتان الجميلتان وحدهما فبالتأكيد أدهم لن يكون متفرغًا طوال الوقت لإيصالنا، لديه هو الآخر واجبات ودروس فكانت المدرسات تأتين لنا في المنزل لإعطائنا الدروس.
كانت الإجازة بالنسبة لنا هي المتنفس الحقيقي لنخرج يوميًا ونستمتع بالحياة.
أدهم أو (دومي) كما كنا ناديه تحببًا لم يدع مكانًا بالإسكندرية ولم يأخذنا له،
محطه الرمل، قصر المجوهرات، القلعة، المنتزه، كل المطاعم، لم يبق مكان لم نزره أو شارع لم ندخله، لكن مكاننا المفضل كان دائمًا بئر مسعود والشاطئ القريب منه، مشهد غروب الشمس هناك كنا عاشقين له.
منذ أن فتحت عشق عيناها على الدنيا لم تكن تسمع سوى أن أدهم لعشق وعشق لأدهم فأحبت أدهم وكانت تهتم بكل تفصيله لأدهم، ماذا يحب أن يأكل؟ ماذا يشرب؟ ألوان ملابسه، عطره المفضل، كل شيء.
كان الثلاثي دائمًا ما يستغل هذه النقطة.
قاطعتها سمرا:- الجلسة القادمة تخبريني كيف كان الثلاثي يستغل هذه النقطة.
- حسنًا إلى الجلسة القادمة.