2 الفصل الثاني

حان موعد ذهاب الطبيبة سمرا لمستشفى الأمراض النفسية بالعباسية فهي تعمل هناك، بعض الأوقات نهارًا والبعض في المناوبات الليلية، واليوم ستقابل مريضة جديدة اسمها سارة.
وصلت سمرا للمستشفى وطلبت احضار سارة لها، كانت حالة سارة عجيبة فتارة تكون بكامل قواها العقلية و تتحدث كالعقلاء و تارة أخرى تكون كالمجاذيب لا سيطرة لها على تصرفاتها، كان هذا تشخيص مدير المستشفى، و كانت مهمة سمرا تقتضي معرفة تفاصيل ما أوصل سارة لهذه الحالة.
دخلت سارة بنظرة عين ثابته فخمنت سمرا أنها الآن في الحالة التي تكون فيها واعية وكانت هذه فرصة جيدة فالمرة السابقة كانت في حالة هذيان واضطراب واضح.
جلست سارة ورحبت بها سمرا وبثت في نفسها الاطمئنان:
- احكي لي حكايتك سارة منذ البداية.
- ولدت في أسره مصرية متوسطة الحال، والدي رحمة الله كان رجل يعمل في الإدارة التعليمية، إداري بإحدى المدارس، أما والدتي رحمها الله فهي ربة منزل مصرية أصيلة، تدخر القرش على القرش لتدبر المعيشة، كنا نعيش في منطقة شعبية في شقة متواضعة.
وحيدة لا إخوة لي، ليس تنظيمًا منهما، بل إنها إرادة الله التي أذعنا لها، فكأن الله وفر عليهما نفقات لم يكونا بحاجة لها، حرص والدي على تعليمي، التحقت بكلية التجارة، كنت متفوقه أتخرج كل عام بتقدير امتياز، دائمًا ما كنت الأولى على قرنائي، توقع لي الكل مستقبلًا باهرًا وبأني سأعين معيده بالكلية.
تمت خطبتي لأنور محمد، جاري في البيت المقابل لها.
أنور شاب كغالبية الشباب المصري لا شيء مميز به مجرد ملامح عادية ولكنه يمتلك روحًا مرحه، خفيفة الدم، وبه جاذبيه تجعلك لا تود مفارقته.
لقد أحببت أنور منذ أن كنا أطفالًا فوالدتي بشرى ووالدته إحسان كانتا صديقتين منذ زمان طويل، وكذلك والده محمد ووالدي بدران فوالده زميل والدي في عمله وكان لديه اثنان من الإخوة عبد العزيز الكبير وغادة الصغيرة.
منذ طفولتنا والكل يعرف بارتباطنا ببعضنا، أنور كان الحامي لي من قسوة عبودي كما كنا نطلق على عبد العزيز ومن تنمر غادة عليّ، فغادة كانت ذات شعر حريري أما أنا فكان شعري مجعدًا ودائمًا ما كانت تعيرني به، وأنور يخبرها أن شعري من جماله يلف في دوائر ولو أردت لجعلته حريريًا، أما هي فلا تستطيع أن تجعل شعرها كشعري، لم نكن أنا وأنور نفترق في المدرسة أو الدروس وحتى في المذاكرة إما أن نذاكر لديه أو لديّ ولا نفترق إلا على النوم، عندما كبرنا حاول الكل التقليل من تواجدنا سويًا لكنهم لم يفلحوا.
إلى أن أصبحنا بالثانوية العامة بالصف الثالث، وجه جارنا الجزار سلومة لوالدي انتقادًا لاذعًا، وكيف أني أصبحت عروسًا ولا يصح أبدًا أن أتجول برفقه أنور هكذا ممسكه بذراعه ولا أفارقه.
يومها أبي أعلن قرارًا بأني أصبحت كبيره ومن الآن لن تكون رؤيتي لأنور إلا عندما تتزاور والدتي مع والدته.
أعلنت رفضي، كيف أسير في الشارع بدون أنور؟ من سيدافع عني؟ لمن أشكو غادة و تنمرها عليّ بشعرها الذي لا تكف عن التفاخر به؟ من سيذاكر معي؟ لمن سأشرح الرياضيات والعلوم؟ أضربت عن الطعام، ظن والدي أنه إضراب عن وجبة أو وجبتين وسأذعن لكلامه، استمر إضرابي يومًا وأمي تترجاني لآكل
لكن والدي صمم على موقفه، فسلومة يبث سمه في أذنيه،
بعد ثلاثة أيام من امتناعي عن الطعام تمامًا وإضرابي عن الكلام أيضًا، سقطت مغشيًا عليّ، جاء الطبيب وركب لي محلولًا وظللت على رفضي للكلام والأكل ،هزلت و فقدت وزني واستمرت محاولات أمي مع أبي، إلى أن أتى محمد والد أنور ليطلب يدي رسميًا لأنور فهو لن يدعني أبدًا، وافق أبي بالطبع وتعالت الزغاريد معلنة خطبتي لأنور بدبله ذهبية لي وفضية له، ارتدينا الدبلتين بعد أن استرددت عافيتي في حفل في المنزل حضره الأهل والجيران، ليضع أبي أصابعه العشرة في وجه سلومة ذو اللسانين.
ظهرت نتيجتنا ونجحنا، دخلت أنا كليه التجارة ودخل أنور كليه الحقوق،
في سنتي الأخيرة حدثت الكارثة توفي والدي، والدتي، والد أنور في حادث عندما خرج قطار عن مساره وشاء حظهم العاثر أن يتواجدوا في نفس المكان، لم يتركني أنور أو أهله لحظة رغم أن مصابهم كمصابي.
بعد العزاء بشهر جاء عبودي متبرمًا ليجدنا أنا وأنور وغادة ووالدته إحسان مجتمعين عندي، فطالب بسرعة زفافي على أنور لأن الناس بدأت بالحديث عليَّ وهو لن يسمح بذلك أبدًا.
وقد كان تزوجنا أنا وأنور في شقتي على أثاثها القديم، فقط قام عبودي وأمي إحسان بطلاء الجدران، وإعادة رش الأثاث وإصلاح ما يحتاج لإصلاح،
وأهدتني الجارات ملابس جديده تليق بالعروس.
واتفقنا من قبل الزواج أننا سنأخر مسألة الانجاب لكي لا تلهينا عن مستقبلنا فنحن لا نملك من الحياة شيئًا، فأنا من قبل زواجي أعمل في محل للملابس على الكاشير وأنور يتدرب مع محامي، نهارًا بالتدريب ومساءًا كسكرتير له وما نتحصل عليه سيكفينا بصعوبة شديدة.
بإعلاننا زواجنا انهالت علينا من الجيران الهدايا أو النقطة كما يقولون، فهم يعرفوننا ويعرفون ظروفنا، منهم من أرسل إلينا ببقوليات، ومنهم من أرسل إلينا لحمًا، أو دجاجًا، بكل صراحه تحمل جيراننا الطيبون مسألة زواجنا، فأنا كنت محبوبة لدى الجميع، وأساعد من يحتاج منهم لمساعدة وأنور كان حلو اللسان والمعشر.
أقيمت حفلة الزفاف بالشارع، تبرع الحاج مدبولي صاحب الفراشة، بالفراشة اللازمة ،والمعلم متولي تبرع بأنوار الحفل، أما إحياء الحفل كان من نصيب صبري مطرب المنطقة وفرقته الشعبية، وتبرعت نوسه صاحبة مركز التجميل بفستان الزفاف وتزيني، لم يفت على غادة بالطبع إلقاء الملاحظات على نوسه بخصوص التصرف مع سلك الألومنيوم كما تقول على شعري، وكذلك سلامه الحلاق قام بإتمام قصة الشعر لأنور، لم أكن أريد عُرسا فكيف سأفرح بدون أبي وأمي؟ لكن الكل رفض فالحي أبقي من الميت وفرحي هذا كان سيكون قره عين والدي وأمنيتهما.
كان الحفل جميلًا وبسيطًا مليئا بالحب، مشاعر صادقه من الجميع للجميع،  
حتى سلومة ذو اللسانين أتى مباركًا لنا وسعيدًا بلم شملنا وأهدى لنا خمسه كيلو من اللحم.
في الصباح بدأت حياتنا سويًا في شقتي، كنت عملية جدًا فيما خص حياتنا
ومتطلباتها استيقظت قبل أنور، استحممت وارتديت أحد القمصان المهداة لي من الجارات ودلفت للمطبخ بالورقة والقلم، أحصي العطايا المقدمة لنا، وأنظم استهلاكنا لها، أردتها أن تكفينا لأطول فترة ممكنة لنستطيع العيش فنحن لن نحظى بعطايا كهذه مرة أخرى.
بعد ثلاثة أيام عاد كل منا لعمله وكثفنا من دراستنا في الليل فالامتحانات وشيكة،
كنت أعد طعاما يكفينا لأسبوع، أعده في يوم عطلتي لم يكن أنور يساعدني على الإطلاق في المنزل أو في تدبير المعيشة، كان يعطيني نصف راتبه ويحتفظ بالنصف الآخر وأنا أتصرف
فأنا "حلوته المدبرة التي تصنع المعجزات"
كنت أقتصد في كل شيء، أمي إحسان كانت تدعونا لتناول الطعام لديها أحيانًا، فهم أيضًا لديهم مطالب ومصروفات، وعبودي في بعض الأحيان كان يهادينا ببعض متطلبات المنزل فهو يعمل ميكانيكيًا.
ظهرت النتيجة وكان تقديري امتياز، وتم صدور قرار بتعييني معيده بالكلية، لكن بالطبع راتبي كمعيدة لم يكن ليكفي لشيء فطلبت من عميد الكلية أن يتوسط لي ليتم تعييني في البنك الذي يديره زوج أخته، وقد كان.
عملت بالبنك براتب بالنسبة لراتب المحل كان كبيرًا جدًا، أما أنور فظل كما هو يتدرب مع المحامي ويعمل كسكرتير.
وبدأ في التبرم من أكل الفول ومن الطبيخ بدون اللحم، مع أني كنت أطهو له مره في الأسبوع إما لحمًا وإما دجاجًا وإما سمكًا، ولما زاد تبرمه أصبحت أطبخه له مرتان ولا آكل معه، في البداية كان يقاسم نصيبه معي ولكنه بعد ذلك بدأ يتعلل بأنه يشقى ويدور طوال النهار ويحتاج للتغذية وكان يأكله وحده.
بعد فتره أثبت وجودي وتميزي بالبنك وقدمت اقتراحات كان من شأنها الارتقاء بمستوي الخدمة في البنك، وتمت ترقيتي، أصبحت في منصب محترم وأعلى من ذي قبل ولكني أبدًا لم أسرف في المصاريف وظللت كما أنا على اقتصادي، كنت أريد تأمين مبلغ محترم لنستقر ونستطيع الانجاب فلقد كان حلمي المؤجل أن أكون أمًا فلقد كنت عاشقة للأطفال.
ترك أنور عمله، أخبرني أن المحامي تطاول عليه لأنه رفض إعداد مذكرة لرجل هو متأكد أنه قاتل بينما المحامي يريد تبرأته.
كبر أنور في نظري، فرحت بأنه ذو مبادئ.
بحث عن عمل فتره لكنه لم يستطع الحصول على عمل وأخبرني أن المحامي هو الذي يمنعه من العمل انتقامًا منه، من حسن حظي أن البنك أرسلني في بعثة إلى أمريكا في تبادل للخبرات وسمح لي باصطحاب زوجي، فلقد كان هذا شرطي فأنا لن ابتعد أبدًا عن أنور، كان أنور يجلس أساسًا بالمنزل بدون عمل ومع ذلك لم يمد لي يد العون بتاتًا في أي شيء حتى لم يكن يرفع طبقه من على الطاولة، كنت أضع له مصروفًا يوميًا تحت الوسادة قبل نزولي للعمل، ليستطيع البحث عن عمل، سافرنا وكان مرتبي كبيرًا وكنت أدخر المال، لم استطع إيجاد عمل لأنور، وبعد إلحاح مني أن يعمل في أي عمل، نزل للعمل في مطعم، ولكنني بالطبع كنت أصرف عليه،
وأعطيه النقود، فما يقبضه كان قليلًا، توقفت عن أخذ حبوب منع الحمل، فنحن الآن بخير، وراتبي كبير، ومدخراتي أيضًا كبيره، بعد فترة لم يحدث حمل، فذهبنا للطبيبة وطلبت تحاليل منا.
في اليوم المفترض بي استلام نتيجة التحليل كان العمل كثيرًا ومضغوطًا بالبنك و هاتفت أنور ليستلم النتائج ويطمئن من الطبيبة، عدت للمنزل كلي شوق لمعرفه النتيجة ليصدمني أنور بأنني لا أنجب و رفض رفضًا قاطعًا أن أذهب للفحص عند أي طبيب آخر، كانت حالتي النفسية سيئة للغاية، لكني لم أظهر له وزدت في دلالي له، لكن أنور كان متغيرًا معي لم يعد كما كان أبدًا، أحسست أن جدارًا عازلًا يُبني بيني وبين أنور مع أني لم أتوان عن تدليله والاهتمام به، أرسلت لعبودي أطلب منه البحث عن شقة في منطقة الزمالك، وفعلًا اشترينا شقة في منتهى الروعة.
تساءل الكل عن سبب عدم انجابنا، كان رد أنور حاسمًا لم يخف عنهم السبب أو يتحجج بأي شيء بل قالها صريحة لهم:- إنها عاقر لا تنجب، إنها كالأرض البور. سمعت هذه الكلمات بأذني وهو يحدث أمي إحسان، أحسست أنه طعنني في قلبي، لكني تحاملت على نفسي واعتبرت أني فهمت خطأ، وبشرته بالشقة، قال لي مبروك بكل برود عندما علم أنني اشتريتها باسمي.
كان شغلي الشاغل عملي، فأنا كمن تدور في الساقية أشقى نهارًا في البنك وأعود للمنزل لأجد البيت في منتهى الفوضى، لم يكن أنور يساعد أبدًا، بل كان يتذمر من أنني لا أرتب المنزل كما يجب، مع أنني كنت أرتبه قبل أن أنام وآتي من العمل لأجده قد قلبه رأسًا على عقب.
وفجأة بدون مقدمات وقفت سارة ثم أخذت تلف حول نفسها في دوائر وسقطت على الأرض و انكمشت في وضع الجنين و هي تهذي:
- لا، أنور، لا عبودي، البانيو، لقد مات.
فطلبت من الممرضة حقنها بمهدئ واصطحابها للعنبر.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي