4 الفصل الرابع

توجهت سمرا لمنزلها لتنال قسطا من الراحة لكن ذكريات ماضيها المؤلم أخذت تراودها و تتدافع لمخيلتها هذه المرة بالطبع أقل إيلاما لكنها ما زالت تنغص عليها حياتها،
لم يكن حال الطبيبة سمرا يختلف كثيرًا عن حال المريضات اللواتي عانين الكثير حتى أصبح لديهن من الحزن والألم ما يثقل كواهلهن، سمرا هي ابنة سليمان المنوفي.
والدها قدم من بلدته الصغيرة في المنوفية لقاهرة المعز، حاملًا معه ما كسبه من بيع إرثه من والده حسن المنوفي، قيراطان زراعيان دخلا كردون المباني فباعهما ولم يقترب من ذلك الفدان الذي يعد من أجود الأراضي، ويقع بجوار أرض العمدة جاد ياسين، در القيراطان على سليمان مبلغا كبيرًا جدًا وقتها.
ترك سليمان المنوفية ونزح للقاهرة بحثًا عن الإنجاب فبعد مرور فترة خمسة سنوات على عدم انجابه من والدتها سكينة كان حلم حياته أن يكون له نسل من حبيبته، فأشار عليهما العمدة جاد الذي كان صديقا لسليمان بالنزول للقاهرة فمجال الطب هناك أوسع وأرحب.
ما كان والدها ليترك بابًا إلا وطرقه فهو يتوق للإنجاب من زوجته، ولم يستمع أبدًا لمن قال له اتركها وتزوج غيرها، كان يحبها جدًا وعندما نزل القاهرة ووجد أن طريق العلاج سيطول فضل المكوث في القاهرة اشترى منزلًا بأسفله دكان واتخذ من المنزل سكنًا وافتتح في الدكان بقالة لخدمة المنطقة.
المنزل كان منزلًا قديمًا يتكون من بدروم، ودكان، ودور أول به شقه كبيره، ودور ثاني
والسطوح، سكن في البدروم هريدي الصعيدي الذي كان يعمل بالمعمار وزوجته هنيه وأولادهما، وسكن والدها ووالدتها بالدور الأول، والدور الثاني سكن به سالم المنجد ونعمات الدلالة زوجته وولدها صلاح، أما السطوح فكان به غرفة للشيخ مغاوري، والباقي تربى فيه الطيور.
ومع العلاج أنجبتها والدتها، وكانت سمرا اسمًا على مسمى، فتاة سمراء البشرة جدًا، ورثت عن والدها سماره وعن والدتها دمها الخفيف.
لم تسلم سمرا من ألسنة الناس منذ كانت في مهدها، مع أن ملامح سمرا كانت جميله ومريحه ومن يراها تدخل قلبه من أول وهلة إلا أنهم كانوا يعيرونها بلون بشرتها، عاشت سمرا في كنف والديها المحبين لها أيما محبه، لم يدخر والدها جهدًا أبدًا في تلبية مطالب زوجته و ابنته، وكان دائم الزيارة للعمدة جاد صديقه العزيز لكن سكينة وسمرا لم تكونا تذهبان معه، فسكينه تعلقت بصخب القاهرة وبنعمات، تقريبًا لم تكونا لتفترقا أصبحتا صديقتين عزيزتين جدًا ومقربتين من بعضهما.
مرت الأيام عادية....
عندما بلغت سمرا السادسة توفى سالم المنجد وبقيت نعمات وحيدة مع ابنها صلاح الذي كانت سمرا تمقته بشدة، فصلاح كان دائما ما يضايقها ويعيرها بسمارها، لم يكن يناديها إلا بالسوداء ودائما ما كان يعترض طريقها عند صعودها لإطعام الطيور وكان سليمان يؤنبه على ذلك بينما يدعي صلاح البراءة.
نعمات كانت ملازمة لوالدتها دائما، تدور بجولة على المنطقة للدلالة ثم تُرابض في منزل سليمان ولا تغادره إلا على موعد النوم، وفي كثير من الأحيان كانت تتناول الطعام معهم، فهي على حد قولها لا تحب تناول الطعام مع ابنها وحيدين.
بعد مدة بدأت والدتها تمرض، وتخور قواها من أي مجهود فلازمتها نعمات أكثر وأكثر حتى أن والدها طلب منها أن تتوقف عن الدلالة وسيعطيها هو ما يكفيها لكي تظل مع والدتها لتعتني بها.
أيام تمضي وأوقات تمر......
ووالدتها يشتد عليها المرض، لم يقصر سليمان معها أبدًا وكيف يقصر معها وهي حبة العين ورفيقة الدرب وهي التي لم يهوى قلبه سواها، ذهب بها لكل الأطباء لم يعرف أحد علتها، قال بعضهم إجهاد، والبعض قال ربما ميكروب بالمعدة، وتعددت الآراء حتى أقسمت والدتها أنها اكتفت ولن تذهب لطبيب آخر أبدًا، فالشافي هو الله وإن كان أمر الله وقدرها أن تموت فهي لا تريد الموت إلا على فراشها في منزلها بجوار أحبائها، زاد الوهن على والدتها إلى أن توفت.
كان يومًا كئيبًا....
كانت سمرا بالمدرسة، فسكينة كانت تصر على تعليمها، خاصة أن سمرا كانت متفوقه وكان هذا الشيء الوحيد الذي لم تكن سكينة تستمع لنعمات فيه، كان رأي نعمات أن تجلس سمرا بالمنزل فلا تعليم للبنات فمصيرها بيت زوجها، أما سكينة فكانت ترى أن ابنتها سمرا ستكون طبيبة مشهورة.
هنا ابتسمت سمرا، و حدثت نفسها
( آه يا أمي لو كنت معي تشاركيني فرحتي، لقد حققت أملك وحلمك، وأصبحت الطبيبة النفسية سمرا)
عادت مرة أخرى لذكرياتها لتتذكر كم المصائب والمحن التي سقطت على رأسها تباعًا بلا هوادة
في الصباح بعد وفاة والدتها؛ جاءت نعمات وولدها وبدأ المعزون في الوصول، استيقظت سمرا، جلست على سريرها، أخذت تتذكر ما حدث، ودموعها تنهمر انهمارًا، دخلت نعمات احتضنتها قائلة:
- نحن بجوارك يا سمرا، لا تحملي هما يا صغيرتي.
مرت أيام العزاء ونعمات لا تفارق سمرا إلا على النوم، فجموع المعزين تتوافد على المنزل، ونعمات تعرف كل شيء، فالمنزل في إدارتها منذ فترة طويلة وهي من كانت تسيره، انشغل سليمان في دكانه وكان يترك سمرا مع نعمات.
وكان أن سمعت ذلك الحديث الذي دار بين والدها والشيخ مغاوري مصادفة؛ حين كانت تنزل الطعام لوالدها.
جاءه الشيخ مغاوري:
- كيف حالك يا سليمان؟
- نحمد الله يا شيخنا.
- هل يعجبك حالك يا سليمان؟
- وما به حالي يا شيخ؟
- أنا أراك لا ترتاح منذ موت زوجتك، إنك حتى لا تغلق الدكان لفترة الغداء وتنام قليلًا أمامه على الأريكة.
- أنا لا أريد الصعود للأعلى، فنعمات تجلس مع سمرا، ولا أريد أن أبعدها عنها، الفتاه تفتقد أمها كثيرًا، ونعمات تعوضها، ولا يصح أن أصعد ونعمات بالأعلى، فأنتظر صلاح لينهي عمله بالورشة ونصعد سويًا.
- من أجل هذا أتحدث، نعمات هي من تسير أمور المنزل منذ أن مرضت المرحومة سكينه، وسمرا تدرس، من سيعتني بكما الآن؟ وكما قلت أنت لا يصح أن تجتمع ونعمات في مكان واحد.
- إلام ترمي يا شيخنا؟ أفصح.
- أنت تعرف إلام أرمي يا سليمان.
- ولكن يا شيخنا.
- يا سليمان أنت لا ترضى أن يلوك الناس سيرة نعمات، وهي لم تفعل لكم سوى كل خير، ولقد تحملت زوجتك في مرضها، واعتنت بها، أيكون جزاؤها أن يلوك سيرتها هذا أو ذاك، هل ترضى بهذا يا سليمان؟
- لا والله يا شيخنا، لا أرضاها لها أبدًا، ولكن.
- ليس فيها من لكن يا سليمان، اعقد على نعمات، فتصون سيرتها، وتجزؤها خيرًا على صنيعها معك ومع ابنتك، وترتاح أنت، ستصعد منزلك كيفما أردت، ولا تحرم ابنتك من حضن نعمات، وصلاح يعمل طوال النهار في الورشة ولا يصعد إلا على النوم يده بيدك ينزل معك ويصعد معك فلا خوف منه على ابنتك.
- وهل ستتقبل سمرا هذا؟
- يا ولدي لم يبق لسمرا من حضن يحتويها سوى نعمات، وسأحدثها أنا في هذا الشأن وهي تستمع لكلامي.
- حسنًا شيخنا، كما تري.
أخذ الشيخ على عاتقه مهمة جمع شمل نعمات ووالدي، حدثني في الأمر وأقنعني به، و صمت على مضض فأنا لم يكن لي حق الاعتراض كما أفهمني الشيخ، إنه شرع الله و رد جميل في رقبتنا لنعمات، هكذا قال، وحدث صلاح ونعمات، وتم العقد في هدوء وأصبحت نعمات هي سيدة المنزل.
لمحت نعمات لوالدي أنها تريد أن تزوجني من صلاح ولدها، ليظل بجوارها في الشقة، فبعد زواج أمه من والدي كان يبيت في شقتهم، و يحضر لنا فقط لتناول الطعام، لكن والدي رفض ذلك لأنني ما زلت صغيرة ولأن أمامي شوطًا طويلًا أقطعه في دراستي لأحقق حلم أمي.
بدأ المرض يتملك والدي، أعراض كتلك التي انتابت والدتي قبل وفاتها، بدأ في الهزال وفقد قوته.
استيقظت بيوم ما على صراخ وولولة نعمات لأخرج من غرفتي مسرعة لأجد نعمات
وصلاح بجوار والدي ويغطي وجهه، تسمرت في مكاني ووضعت يدي على فمي مانعة نفسي من الصراخ وأخذت أهز رأسي يمنة ويسرة في عدم تصديق لما أراه.
لقد فقدته، مات، مات سندها، جلست في مكاني أبكي، حملتها النسوة لغرفتها.
انتهت أيام العزاء وبدأت المعاناة الحقيقية
- استيقظي، هيا، أستنامين اليوم بطوله؟
فركت سمرا عينيها لتجد نعمات أمامها
- صباح الخير خاله نعمات.
- خير ومن أين سيأتي الخير؟ وأنت نائمة هكذا.
- اليوم الجمعة، لا مدرسة لدي.
لتضحك نعمات ضحكة طويلة:
- مدرسة، لا مدرسة يا حلوتي، أيام الانفلات انتهت.
لتتسع عيني سمرا من دهشتها من كلام نعمات وطريقتها:
- ماذا تقولين خاله نعمات؟
- ما سمعته، انسي المدرسة، لن أتركك تروحين وتأتين والحجة المدرسة، لتجلبي لي العار، من اليوم ستعملين في المنزل، وتتعلمين كل شيء، فستكونين زوجة لصلاح.
- زوجة لصلاح، يبدو أنك تهذين خاله نعمات.
- أنا أهذي، يا عديمة الأدب.
وهوت بصفعة قوية على وجه سمرا
- تعال يا صلاح، تعال يا ولدي، أعط عديمة الأدب هذه درسًا عن كيفية معاملة
أمك.
ليدخل صلاح الغرفة كما الطاووس، ناظرًا لسمرا التي تضع يدها على خدها مكان الصفعة ويقترب منها:
- ماذا حدث يا سمرا؟
- لم أفعل شيئًا، خاله نعمات تريد منعي من المدرسة، وتريد أن تزوجني بك.
- هذا صحيح وهذا ما سيحدث، صحيح أنك سوداء، لكني سأقبل بك وأتزوجك، رأفة بكِ.
- أنا لن أتزوجك أبدا يا صلاح، سأكمل تعليمي لأصير طبيبة، كما حلمت أمي وكما أراد أبي.
- أنتِ قلتها مجرد حلم يا سمرا، أنا الواقع وستكونين لي، أنا سأصبح زوجك.
ردت بحدة:
- لن يحدث هذا أبدًا.
فكانت الصفعة الثانية ولكنها هذه المرة من صلاح
- هذه الفتاة تدللت بما يكفي، أريدها أن تتعلم كل شيء أمي، يكفيكِ تعبًا وشقاء في خدمتها.
وتركهما وغادر لتقول نعمات:
- هيا و رائي إلى المطبخ لتعدي الغداء.
قالت باكيه:
- أي غداء، أنا لا أعرف أي شيء.
- سأعلمك.
مرت الأيام والمعاناة لا تنقطع، تعمل في المنزل كالخادمة تعلمها نعمات إعداد كل شيء، لا بالأدب واللين، بل بالصفع والركل وطول اللسان وأقذع الألفاظ، حتى الطعام لم تكن تسمح لها نعمات إلا بالقليل منه.
إلا ذلك الكوب من اللبن الذي تحرص كل يوم على أن تجعلني أشربه، لأستيقظ في الصباح وجسدي مليء بكدمات وعلامات لا أعرف لها مصدر وألم لا يحتمل بمنطقتي التناسلية.
وحين أخبرتها عن الألم صفعتني وطلبت الصمت.
كانت دموع سمرا تتساقط بلا شعور وهي تتذكر ما حدث...
وفي يوم استيقظت تشعر بألم في معدتها ولم يستقر الطعام أبدًا فيها تقيأت عدة مرات إلى أن جاء صلاح ليلًا، واستمرت في القيئ، نظرت نعمات لصلاح نظرة لم تفهمها سمرا ثم قالت:
- يبدو أنه حدث يا صلاح، سأفرح بذريتك.
- أأنت متأكدة؟!
- نعم، إنها هكذا منذ الصباح.
- إذن يجب أن نعلن الخبر ونعقد، لا نريد أن يقول الناس ابن صلاح ابن حرام.
كانت سمرا تسمع الحديث وهي خارجه من دورة المياه ولا تفهم شيئًا
- هل ستتزوج يا صلاح؟
- نعم.
فرحت سمرا فلقد ظنته سيتركها في حالها:
- مبارك عليك، من العروس؟ هل نعرفها؟
- بالطبع.
- من؟
- أنتِ.
- أنا، يا صلاح لا أريد الزواج.
فعقد ذراعيه أمام صدره قائلًا:
- كما تريدين، إن لم نتزوج لن أعترف بالطفل في بطنك، وسأقول أنك خاطئة، وساعتها سيكون من حقي أن أغسل عاري وأقتلك.
ردت وهي لا تفهم:- أي طفل؟ في بطن من؟
فضحكت نعمات واقتربت منها مربتة على بطنها:
- الطفل في بطنك يا حلوتي، أنتِ حامل.
صعقت سمرا:
- أنا حامل! وكيف ذلك؟ من الهواء.
فابتسم صلاح:
- لا مني، اللبن الذي تشربينه كل يوم به منوم، منذ شهر.
جلست سمرا على الأرض من صدمتها تحدث نفسها (من شهر... الأوجاع.....العلامات.....
فضحك:
- نعم أنا سبب الأوجاع والعلامات، وسيأتي الشيخ مغاوري ليعقد لنا غدًا.
ظلت تبكي طوال الليل ولم يغمض لها جفن، في الظهيرة جاء الشيخ وعقد عليها.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي