2
°°°
- ثَلاثُ نِقاطٍ مِن المَحلولِ الأصفرِ وهكذا نَكونُ قَد إنتهينا..
نطقَ مَليحُ الوجهِ بإبتسامةٍ حُلوةٍ بَعد أن قامَ بتركيبِ ذلك العطر الغريب، والذي أثارَ إستغرابهُ أكثر هو أنهُ قَد إستمتعَ بشدّةٍ أثناء صُنعه، متناسياً كل شيء غريبٍ حصل معه..
بإستخدامِ الإبرةِ ذاتِ اللونِ الأصفر المُشابهِ للونِ المَحلولِ المَطلوبِ، كانَ قد وَضع ثلاث قطراتٍ مِنهُ فوقَ بَقيةِ المُكونات، ليتَحولَ لونُ السائل الذي فِي العُلبةِ مِن الأزرقِ إلى الأخضرِ الزُمرديّ..
تَنهدّ بإبتسامةٍ راضيةٍ يُعيدُ المَحلولَ الزائد في الإبرةِ إلى العُلبةِ الخاصةِ به..
يُلملمُ الأبرَ المُخصصةَ لِخلطِ العُطور، يوصِد العُلبَ يُعيدها إلى الكِيس القُماشيّ الذي كَانتْ بِه، ثُم يُخبئه في أحدِ الأدراجِ بِخزانته..
بَعد أن تَخطّى الغُرابيُّ الصَدمةَ مِما جرى مَعه وَجدَ بأنَ إمتلاكَ عِطر يُحققُ الأمنياتِ أمرٌ مُذهل!!
فإن كانَ كَلامُ السَمراء صحيحاً سَيُحقق الكَثيرَ مِن أحلامِه..
بَعد أن إنتهى مِن كُل شيء قامَ بإغلاقِ العُلبةِ الصغيرةِ التي لا تكادُ تُعادلُ حَجمَ إصبعهِ الخِنصر في يده
- إذاً مالذي عليَّ فِعلهُ الآن؟
نَظرَ في العُلبةِ الزُجاجيةِ المُزخرفةِ والسائلِ الزُمرديّ الساحِر داخِلها بشرود..
يزُمّ شفاههُ بتفكيرٍ ثُمَّ يُغمضَ عينيهِ حِينما تسللت الرائحةُ العَطرةُ إلى أنفهِ، ليستنشقها بعمقٍ ثُم يزفرَ مُتنهداً..
كانَ مَزيجاً غريباً ما بينَ العطرِ الهادئ والثقيل
رائحةٌ حادّةٌ وأخرى ناعِمة،
وكأنهُ يرى خلالها إمتزاجَ اللونِ الأحمرِ مِن جانبٍ والأزرقَ مِن جانِب آخر..
مكوناً لوناً أرجوانياً بديعاً..
- ربّاهُ إنهُ ساحرٌ حقاً كَما نَطقت تِلك المرأة..
نَطقَ بهمسٍ ذائبٍ يَشعُر برائحةِ هذا العطرِ تتغلغلُ في جسدهِ ما بينَ عروقِهِ وأصغر شرايينه..
ما بينَ مساماتِ جلدِه الدقيقةِ وحتى بينَ كُل عظمةِ في جسدهِ وأُختِها..
- سآخذُ حماماً ثُمّ أضعُ القليلَ مِنه..
حتى إن لَم يَكُن يُحقق الأمنيات كما قالت، على الأقلّ رائحتهُ مُذهلةٌ حَقاً.
وضعَ العُلبةَ الزجاجيةَ بحرصٍ على الطاولةِ الخاصةِ بمرآتهِ، ثُم قامَ بإخراجِ بِنطالٍ قُطنيّ رماديّ وقميص بذات اللون..
ثم هرولَ بحماسٍ لأخذِ حَمامٍ مُنعشٍ في هذا الجُو شديد الحرارة بالنسبة له، فهو أكبر كاره للأجواء الحارّة، يعشق الأجواءَ الباردة ويحبُ تأمل الثلوج..
بَعد عشرةِ دقائقَ تَقريباً كانَ المُونِقُ قَد خرجَ مِن حمامهِ.. يُجففُ شعرهُ الطويلَ الداكنَ بمنشفةٍ سُكريّةِ اللونِ يَكادُ جَسدهُ يُكونُ أكثرَ نُصوعاً مِنها..
تقدّمَ ناحيةَ مرآتِه يَنظرُ إلى إنعكاسِه مُبعداً المِنشفةَ يَرميها جانِباً بإهمالٍ..
خُصلاتهُ الغرابيةُ لَم تُجفف جَيداً كَما يُحبُّ هو..
تقطُرُ بعض المياهِ على جبينهِ، رقبتهِ وكَتفيه
تمرُ على حبةِ الخالِ التي تُزينُ جانبَ عُنقهِ الناصِع..
تَنهدَّ بخفةٍ يُعيدُ خصلاتهِ الطويلةَ للخلفِ بَينَما يتأملُ عَضلاتِ يَديهِ التي لَم تتغيّر مُبتسماً..
نَظرَ للعِطرِ الموضوعِ أمامهُ يقومَ بفتحِ الغطاءِ المُغرقِ بهِ ثُم يضعَ على مِعصمهِ القليلَ مِنهُ ثُمّ القليلَ على جانبيّ عُنقه ويعيد الغطاء إلى مَكانِه..
دَمج مِعصميهِ مع بعضِهما يَمسحُ عليهما بلُطف ثُمَّ فصلهما يَمسحُ بكُلِّ مِعصمٍ جانِباً مِن عُنقهِ مُغمضَ العينين..
ثُم يسيرُ بكفّيهّ ببطءٍ حَتى كتفيهِ فَصدرهِ إلى مَعدتهِ مُتنهداً بِعُمق..
غَرقَ جَسدهُ برائحةِ العِطرِ ليُخللَ كَفّهُ التي لا يَزالُ بعضُ العطرِ عالقاً بِها فِي خُصلاتِ شَعرهِ مُبعثراً إياها.. ثُمَ مُعيداً تَرتيبها دونَ أن يقومَ بتمشيطها أو تَجفيفِها حتى..
- أليسَ عيباً أن أمتلكَ كُلَ هَذهِ الفتنةِ ولا أملكَ مَن يَفتتنُ بِي..
نطقَ بإبتسامةٍ طَفيفةٍ والقليلِ مِن النَرجسيّةِ التي لا تُلائم سِواه على أيّ حال..
لِتَزولَ إبتسامَتُه تَدريجياً حينَما تَذكرَ بأنهُ يكادُ يُكملُ خمسةً وعشرينَ عاماً دونَ أيّ علاقةٍ مُستقرّة
عائلتهُ بعيدةٌ عنهُ لكونهِ مُقيماً في روسيا مِن أجلِ إكمالِ دراسَته للفنونِ في أكثرِ الأكاديمياتِ المَشهورة وأكثرها عراقة..
أصدقائهُ بَعيدونَ عَنهُ كذلك سِوى 'إدريان' والذي يَمتلكُ حياةً مُستقرّةً أكثرَ مِنه..
فَهوَ يدرسُ ويَعملُ في الوقتِ ذاتهِ كَما أنهُ يزورُ عائلتهُ كُلَّ فترةٍ ويمتلكُ حبيبةً أيضاً..
وسيُقيمانِ خِطبتَهما قَريباً بَينَما لا يزالُ هوَ في مَكانه
كانَ مُعجباً بإحدى الفتياتِ في النادي الرياضي
لَكنهُ لَم يَمتلِك الجُرأةَ للحَديثِ مَعها، وحينَما قامَ صديقه بدَفعهِ للتحدث معها تَحتَ مُحاولاتهِ للهرب..
رأيا شاباً يدخُل إلى المَكانِ ببذلةٍ عَسكريةٍ فيما إمتلئت عَينيّ الفتاةِ بدموعها وهرعَت لعناقهِ أمامَ الجميعِ بِشغف
كانَ هُنالكَ مَن يصرُخُ مشجعاً وهنالكَ مَن يصفرُ ويُصفق، وهُنالكَ مَن أشاحَ بِعينيهِ عَن ذلكَ المَنظر بغصّةٍ تَملكت حُنجرته وصديقهُ بقربه هو الوحيدُ الذي لاحظَ ذلك يواسيهِ بِصمت..
تنهدَّ الغرابيُّ بعمقٍ ليهمِسَ بصوتٍ خافِت..
- أتَمنى لَو أعود لرؤيةِ أنجليكا وأن تَقعَ لِي ولا أهتمَ لها كَما فَعلَت هِيَ مَعي سابقاً..
نَطقَ حِينَما تَذكَر بأنها كَنَت سَبب تَركهِ للنادي، إبتسمَ بِحُزنٍ مُقرراً الرَسمَ قَليلاً علّه يُخففُ مِن الفراغِ الذي يَشعُر بهِ..
اليَومُ أجازةٌ مِن جامِعتهِ وإدريان أخبرهُ بألا يُزعجهُ لأنهُ سَيخرُج في مُوعد مع حبيبتهِ ويُفاجئها بِطَلبِ يَدها للزواج..
قلبَ الأدعجُ عينيهِ بخفةٍ.. بينَما يُثبتُ اللوحةَ القُماشيةَ على حاملِ اللوحاتِ ثم يُخرجُ الألوانَ والريشَ الخاضةَ بالرسمِ مُتخذاً مَجلساً لهُ على الكُرسيّ الخشبي القصير المُقابِل للوحَة..
ليُفاجِئه صوتُ هاتفهِ مِن على المِنضدةِ المُجاورةِ لَه.. فيُلقي بالعديدِ مِن الشتائم للشخَصِ الذي قاطَعَ وَقتَ راحِتهِ مَع مَحبوبتِه الأولى.. وَهي فُرشاتهُ ولوحاتُه..
إلتقطَ هاتفهُ مُقطب الجَبين ليرى بأنّ المُتصلَ صديقُه الوَحيد كَما هُو مُتوقَع..
- ماذا تُريد؟ ألَم تَطلُب مِنّي عَدَم إزعاجِك معَ حبيبتِك.. لِما تُزعِجُني أنت الآن؟
قهقهَ الآخرُ بِخفةٍ بنَبرتِه العَميقةِ، لِيُجيبَ صَديقَهُ المُستاءَ بنَبرةٍ مُستَمتِعة..
- أوه أيُها العازِبُ المِسكينُ الوَحيد، هَل تشعُر بالغيرةَ؟
قلَبَ الأدعجُ عَينيهِ ليَعودَ للجُلوسِ مَكانهُ يَضعُ الهاتِف على مُكبر الصوتِ..بينما بدأُ بِخَطِ بَعضِ الخُطوطِ المَبدأيةِ عَلى لوحَتهِ بقَلمِ الفَحم..
- ها ها ها يا لكَ مِن شَخص مُضحكٍ إدريان..
ما دُمتَ عاشقاً ولهاناً لِما تتحدثُ مَعي ألا يُفترضُ بكَ أن تَكونَ مَع زَوجَتكَ المُستقبليةِ الآن..
ضَحكَ صديقه الأسمرُ بشدةٍ مِن الطرفِ الآخر..
إغاضةُ الأدعجِ أحدُ أكثرِ الأمور المُمتعةِ في العالمِ بالنسبةِ إليه..
- لَقد ذَهبت أميرتي لتَجربةِ بعضِ الثياب..
نحنُ في المَركزِ التجاري الآن، أعلمُ بأنها ستأخذُ وقتاً طَويلاً لِذا قررتُ إزعاجكَ حتى يَقِلَ تَوتري..
هَمهمَ الغُرابيّ فِي حينِ كانَ يَخُطّ على لَوحتِه عَينين
واسعَتينِ لوزيتين مَع أهدابٍ كَثيفةٍ بِلَمعةٍ بَريئة..
- لوكاس أشعُر بالتُوتر، أتعتقدُ بأنها سَترفُضُني؟
ماذا إن لَم تَكُن تَرغبُ بالزُواجِ الآن؟
تَحدثَ الأسمرُ بِجديةٍ هذهِ المَرة، وَصوتُه يُوضحُ التَوتُرَ الذي يَمُر بِه.
تَنهدَّ الأدعجُ يَضعُ القلمَ جانباً يتأملُ ما خطّت يداهُ للحظةٍ راضياً بالنتيجةٍ الأولية..
ليُعطيَ كامِل إهتمامهِ تالياً لِرفيقِه المُتوتر..
- لا تُفكرّ في الأمر على هذا النحوِ إدريان..
هيذر تُحبكَ كَثيراً سَيكونُ هذا أسعدَ يومٍ في حياتها
كَما أنها إن رَفضتَك فَلن تَخسرها ستُؤجلانِ فِكرةَ الزواجِ لِوقتٍ آخرَ فَحسب..الأمر بسيط هون عليك.
إستطاعَ سماعَ تَنهيدةِ الأسمرِ المُثقَلَةِ بَعدَ حديثه.
ليَزُمّ شفتيهِ بِخفّة، هُو أكثرُ مَن يَعلمُ بِتعلقُ صديقهِ بِتلكَ الفتاةَ..
لا يَتمنى الأدعجُ في أعماقِه سِوى أن تَكونَ هذهِ الفتاةُ تَستحقُ شخصاً مِثله، هُو طَيبُ القلبِ وعَاطفيٌّ كَثيراً مَهما حاوَلَ إظهارَ البرودِ واللا مُبالاة..
كَما أنهُ مُستعدٌ لِتقديمِ حَياتهِ حَرفياً لأيّ شَخصٍ غالٍ عليهِ، وَهذا ما يَجعلُ الغرابيَّ فِي قَلقٍ دائمٍ على صَديقهِ الأسمرِ مِن تلكَ الفتاة..
- أتعلمُ ماذا لوك، أنتَ تَمتلكُ الكَثيرَ مِن الأفكارِ الشاعريةِ بالنسبةِ لشخصٍ أعزب لَم يَدخُل أي علاقةٍ حقيقيةٍ مِن قَبل..
نبسَ الأسمرُ ذو الخصلاتِ الفضيةِ مُحاولاً كَتمَ ضحكتهِ.. ليأخذَ الغرابيُّ نفساً عَميقاً ثُم ينطقَ بهدوء :
- أتعلمُ ماذا إيدي؟
نطقَ بإبتسامةٍ صفراءٍ وبصوتٍ ناعمٍ ليَصرخَ تالياً بحدةٍ في الهاتفِ بعلّو صوته :
- أتمَنى أن تتعرضَ هيذر لِحادثٍ قبلَ أن تَطلبَ الزواجَ مِنها وتَأتيَ إليَّ باكياً أيها الأرعن..
إرتفعَ صوتُ قَهقهاتِ الأسمرِ بَعد أن وَصلَ الغرابيُّ إلى أقصى مَراحلِ الحَنق.. ليَنطقَ بصوتٍ هادئٍ بَعدَ أن تأتأ بحُزنٍ مُصطنع..
- تُؤ تؤ أليسَ هذا قاسياً قَليلاً؟
لا تَقلقَ هذا لَن يَحصُل لأنني مَع حبيبَتي وسوف أتلَقى الحادِثَ عَنها وأموتُ بسعادةٍ إن كان الثمن إنقاذِها..
قَلبَ الغرابيُّ عينيهِ بِخفةٍ ليتَناولَ الهاتفَ ثُمَ يَنطقَ بِتَملمُل :
- لِتَحترِقا فِي الجَحيمِ معاً لا أهتَم، والآن أغرُب عَنّي وإلا قُمتُ بِتَعجيلِ وصُولِكُما للجَحيمِ معاً بطريقةٍ مَضمونة..
أنهى الغرابيُّ حَديثهُ بإغلاقِ المُكالمةِ في وجهِ صديقهِ مُبتسماً.. بَعدَ أن إستَمعَ لِضحكاتِ الأسمرِ المُبتهِجة..
لِيُقررَ إكمالَ لَوحتهِ البَسيطة..
قامَ بِمزجِ الألوانِ يَقومُ بإفراغِ كُل طاقتهِ السَلبيّةِ خِلالَ هَذهِ الفُرشاةِ والألوانِ التي يُشكلها كَيفما شاءَ وأحَب..
تَوضحت مَلامِحُ الفَتاةِ أكثرَ بَعدَ تِلكَ الألوان..
حَيثُ كانَت ببشرةٍ تُقاربُ لَونَ بَشرتِه، وعيونٍ بُندقيةٍ لَوزيّةٍ وحاجِبينِ مُتقوسين رفيعين ..
بشَعرٍ غُرابيّ يُشابهُ شَعره، شعرها طَويلٌ يُغطي القليلَ مِن ملامحها وتقاسيمِ جَسدها..
وَجنتينِ مُمتَلئتينِ بِخفةٍ ومُتَورِدتينِ مَع أنفٍ صَغيرٍ مُحمرِّ الأرنبةِ.. مما أضفى إلى مَلامِحها رِقّةً ولُطفاً إضافيّ..
ثُمّ وأخيراً شِفاهُها الكَرزيةُ البَريئة..
وكَلمسةٍ إضافيةٍ هوَ رسمَ بَعضَ النُجومِ حَولها
وَهي قَمرهُنّ..
هذا ما فَكّر بِه..
وَصلَ في تَلوينِه إلى نُحلِ كَتفيها مُقرراً إضافةَ حَبتيّ خالٍ في كَتِفها وواحدةٌ على بِدايةِ عِظامِ تُرقوتِها اليُسرى..
تَلطَخت يَديهِ بالألوانِ كَما لَطخّ القليلَ مِن أكتافِه وذراعيه بِسببِ عَدمِ ثباتهُ والقليلَ من الألوانِ على وَجنتهِ وَفَكّه حينما قامِ بحكّه دُون إنتباه..
كانَ مُركزاً بشدّةٍ فيما يَرسُمُ.. يَعقدُ حاجببهِ بخفةٍ تَكادُ حتّى تلكَ الفتاةُ التي في لَوحتِهِ تَهرُبُ خَجلاً مِن نظراتهِ الثَقيلةِ..
تَنهدّ بِعُمقٍ حِينَما رَنَّ جَرسُ البابِ مُقاطعاً إياهُ عَن خَلوَتِه مع لوحتِه، ألقى نَظرةً أخيرةً لِلفتاةِ الَتي رَسمها تواً ليَبتَسمَ بخفةٍ ويَنطقَ بِهَمسٍ لنَفسه..
- أتمنى لَو كُنتِ حَقيقةً لأحببتُكِ بجنون وأعطَيتُكِ العالَم أجمع..
أنهى جُملتهُ مُستَقيماً حتى بابِ شِقتِه ليَفتحهُ فَتظهرَ مِن خَلفهِ تلكَ الفَتاةُ التي كانَ مُعجباً بِها سابِقاً في الناديّ الرياضيّ، أنجليكا..
لتتسعَّ مُقلتَي الفتاةِ الزُمرديةُ بَينَما تتأملُ الغرابيّ المُبهرِ وملامحهُ الوَسيمةً مُلطخةً بالألوان..
تَلعثمت ليعقدَ الغُرابيُّ ذراعيهِ إلى صدره ثُم يرفعَ أحدَ حاجبيهِ بتساءُلٍ بَينَما يرسِمُ ملامحَ باردةً على وَجهه..
كانت الفتاة في حالة يرثى لها، وكأنها مريضةٌ أو ما شابه، تَسارعت أنفاسُ الشقراءِ التي تُقابلهُ حينما حَدقت في ملامحهِ..
- إنه، إنه.. كنت أود سؤالك فقط.. انتَ لوكـ..
نَطقَت بِتلعثُمٍ دون أن تعلم م ستقوله، فيرفع هو حاجبيه بتساؤل يحثها على الحديث، فتَنقلبُ عَينيها للخلفِ مُغمضةً إياها فجأة ليَنتهيَ الأمرُ بها فاقدةً الوَعيَ على الأرضيةِ أمامه..
رَمشَ الغرابيُّ عِدّةَ مَراتٍ فاغراً فاههُ بِصَدمة..
ليَنحنيَ يَنظُر إليها عَن قُربٍ ثُمَّ.. يبتَسمَ بِخفّة !
لَو كان في مَوقفٍ ومكَانٍ آخر ومَع فتاةِ أخرى..
لَكانَ هلِعَ بشدةٍ وحاولَ بِشتّى الطُرقِ مُساعدتها.
إلا أنهُ لَم يَكترث وشَعرَ فجأةً بأنهُ فقدَ إهتمامهُ القَديمَ بِها.. وكانَ فَخوراً بِذاتهِ لأنهُ السببُ بِما حَصل مَعها أو كونه جزء منه فحسب..
لَكنهُ لَم يَترُكها مَكانها على أيّ حال..
إنما إتصلَ بالإسعافِ وأعطاهُم العُنوانَ ليأخذوها..
ثُم ذَهب إلى الداخِل لإكمالِ لَوحتِه العَزيزة يغلق الباب خلفهُ ببساطة..
يا لَهُ مِن شَخصٌ شَهمٍ ونَبيلْ..
°°°
في صَباحِ اليَومِ التالي إستيقَظ الغرابيُّ على أصواتٍ غَريبةٍ في شَقته..
إستعدلَ بجلوسهِ مُتنهداً بِعُمق،
لا يزال مُلطخاً بالألوانِ التي جَفّت على جَسدهِ ليتثاءب حتى دَمعت أطرفُ عَينيه..
إستقامَ مِن سريرهِ مُتجهاً إلى المَطبخِ ماراً بِقُربِ لَوحتهِ التي رَسمها أمس حَيثُ تَركها في الصالةِ..
دَخلَ إلى المَطبخِ يَنظُر إلى مُحتَوياتِ ثَلاجته..
عدة قواريرٍ مِن المياه، بَعض الأطعمةِ التي فَسدَت دونَ أن يأكُلها.. وبعض المثلجات وعصير البرتقال فحسب..
تَنهدَّ بعمقٍ يضعُ ملاحظةً في رأسهِ بأن يَذهبَ للتَبضُع فَهو بحاجةٍ ماسّةٍ للغِذاء الصحي والطعامِ المُعد في المَنزل..
أخرجَ إحدى قواريرِ المياهِ مُقرراً شُربَ بَعضِ القهوة أولاً، ثُم الذَهاب إلى مَطعمٍ ما لِتناولِ إفطاره وإحضار بعض الخضار واللحوم في طريق عودته..
إستَمعَ لِصوتِ سقوطِ شيء ما في الصالةِ.. ليعقِدَ حاجِبيهِ بخفةٍ مُتجهاً إلى هُناك بِسُرعة..
توسَعت عيناه حينَما رأى بأنَّ اللوحةَ التي رَسمها أمس قَد وَقعَت أرضاً، يهرَع إليها يُحاوِلُ إقامَتها.
ليتوقفَ بملامحَ مَصدومةٍ حِينما رأى اللوحةَ وما حَلّ بِها..
لَقد كانَت فارغةً تَماماً سِوى مِن النُجومِ والخَلفيةِ الداكنةِ التي رَسمها ليصيحَ بِصدمة :
- أينَ أختفَت اللوحة؟
- اللوحة؟
جَفلَ الغرابيُ للِصُراخِ الذي ظَهرَ مِن خَلفهِ فَجأة..
بِنبرةٍ ناعِمةٍ وصوتٍ أُنثَوي..
وَحينَ إلتفتَ تَوسعَت عَينيهِ وسَقطَ فَكّهُ أرضاً..
حيِنما كانَت الفَتاةُ التي رَسَمها في اللوحةِ
تَجلسُ خلفهُ أرضاً وتَنظرُ إليهِ بِعينيها الواسعةِ ذاتِ اللمعةِ البَريئة..
────────────────┈ ✦
- إنتهى ~
- ثَلاثُ نِقاطٍ مِن المَحلولِ الأصفرِ وهكذا نَكونُ قَد إنتهينا..
نطقَ مَليحُ الوجهِ بإبتسامةٍ حُلوةٍ بَعد أن قامَ بتركيبِ ذلك العطر الغريب، والذي أثارَ إستغرابهُ أكثر هو أنهُ قَد إستمتعَ بشدّةٍ أثناء صُنعه، متناسياً كل شيء غريبٍ حصل معه..
بإستخدامِ الإبرةِ ذاتِ اللونِ الأصفر المُشابهِ للونِ المَحلولِ المَطلوبِ، كانَ قد وَضع ثلاث قطراتٍ مِنهُ فوقَ بَقيةِ المُكونات، ليتَحولَ لونُ السائل الذي فِي العُلبةِ مِن الأزرقِ إلى الأخضرِ الزُمرديّ..
تَنهدّ بإبتسامةٍ راضيةٍ يُعيدُ المَحلولَ الزائد في الإبرةِ إلى العُلبةِ الخاصةِ به..
يُلملمُ الأبرَ المُخصصةَ لِخلطِ العُطور، يوصِد العُلبَ يُعيدها إلى الكِيس القُماشيّ الذي كَانتْ بِه، ثُم يُخبئه في أحدِ الأدراجِ بِخزانته..
بَعد أن تَخطّى الغُرابيُّ الصَدمةَ مِما جرى مَعه وَجدَ بأنَ إمتلاكَ عِطر يُحققُ الأمنياتِ أمرٌ مُذهل!!
فإن كانَ كَلامُ السَمراء صحيحاً سَيُحقق الكَثيرَ مِن أحلامِه..
بَعد أن إنتهى مِن كُل شيء قامَ بإغلاقِ العُلبةِ الصغيرةِ التي لا تكادُ تُعادلُ حَجمَ إصبعهِ الخِنصر في يده
- إذاً مالذي عليَّ فِعلهُ الآن؟
نَظرَ في العُلبةِ الزُجاجيةِ المُزخرفةِ والسائلِ الزُمرديّ الساحِر داخِلها بشرود..
يزُمّ شفاههُ بتفكيرٍ ثُمَّ يُغمضَ عينيهِ حِينما تسللت الرائحةُ العَطرةُ إلى أنفهِ، ليستنشقها بعمقٍ ثُم يزفرَ مُتنهداً..
كانَ مَزيجاً غريباً ما بينَ العطرِ الهادئ والثقيل
رائحةٌ حادّةٌ وأخرى ناعِمة،
وكأنهُ يرى خلالها إمتزاجَ اللونِ الأحمرِ مِن جانبٍ والأزرقَ مِن جانِب آخر..
مكوناً لوناً أرجوانياً بديعاً..
- ربّاهُ إنهُ ساحرٌ حقاً كَما نَطقت تِلك المرأة..
نَطقَ بهمسٍ ذائبٍ يَشعُر برائحةِ هذا العطرِ تتغلغلُ في جسدهِ ما بينَ عروقِهِ وأصغر شرايينه..
ما بينَ مساماتِ جلدِه الدقيقةِ وحتى بينَ كُل عظمةِ في جسدهِ وأُختِها..
- سآخذُ حماماً ثُمّ أضعُ القليلَ مِنه..
حتى إن لَم يَكُن يُحقق الأمنيات كما قالت، على الأقلّ رائحتهُ مُذهلةٌ حَقاً.
وضعَ العُلبةَ الزجاجيةَ بحرصٍ على الطاولةِ الخاصةِ بمرآتهِ، ثُم قامَ بإخراجِ بِنطالٍ قُطنيّ رماديّ وقميص بذات اللون..
ثم هرولَ بحماسٍ لأخذِ حَمامٍ مُنعشٍ في هذا الجُو شديد الحرارة بالنسبة له، فهو أكبر كاره للأجواء الحارّة، يعشق الأجواءَ الباردة ويحبُ تأمل الثلوج..
بَعد عشرةِ دقائقَ تَقريباً كانَ المُونِقُ قَد خرجَ مِن حمامهِ.. يُجففُ شعرهُ الطويلَ الداكنَ بمنشفةٍ سُكريّةِ اللونِ يَكادُ جَسدهُ يُكونُ أكثرَ نُصوعاً مِنها..
تقدّمَ ناحيةَ مرآتِه يَنظرُ إلى إنعكاسِه مُبعداً المِنشفةَ يَرميها جانِباً بإهمالٍ..
خُصلاتهُ الغرابيةُ لَم تُجفف جَيداً كَما يُحبُّ هو..
تقطُرُ بعض المياهِ على جبينهِ، رقبتهِ وكَتفيه
تمرُ على حبةِ الخالِ التي تُزينُ جانبَ عُنقهِ الناصِع..
تَنهدَّ بخفةٍ يُعيدُ خصلاتهِ الطويلةَ للخلفِ بَينَما يتأملُ عَضلاتِ يَديهِ التي لَم تتغيّر مُبتسماً..
نَظرَ للعِطرِ الموضوعِ أمامهُ يقومَ بفتحِ الغطاءِ المُغرقِ بهِ ثُم يضعَ على مِعصمهِ القليلَ مِنهُ ثُمّ القليلَ على جانبيّ عُنقه ويعيد الغطاء إلى مَكانِه..
دَمج مِعصميهِ مع بعضِهما يَمسحُ عليهما بلُطف ثُمَّ فصلهما يَمسحُ بكُلِّ مِعصمٍ جانِباً مِن عُنقهِ مُغمضَ العينين..
ثُم يسيرُ بكفّيهّ ببطءٍ حَتى كتفيهِ فَصدرهِ إلى مَعدتهِ مُتنهداً بِعُمق..
غَرقَ جَسدهُ برائحةِ العِطرِ ليُخللَ كَفّهُ التي لا يَزالُ بعضُ العطرِ عالقاً بِها فِي خُصلاتِ شَعرهِ مُبعثراً إياها.. ثُمَ مُعيداً تَرتيبها دونَ أن يقومَ بتمشيطها أو تَجفيفِها حتى..
- أليسَ عيباً أن أمتلكَ كُلَ هَذهِ الفتنةِ ولا أملكَ مَن يَفتتنُ بِي..
نطقَ بإبتسامةٍ طَفيفةٍ والقليلِ مِن النَرجسيّةِ التي لا تُلائم سِواه على أيّ حال..
لِتَزولَ إبتسامَتُه تَدريجياً حينَما تَذكرَ بأنهُ يكادُ يُكملُ خمسةً وعشرينَ عاماً دونَ أيّ علاقةٍ مُستقرّة
عائلتهُ بعيدةٌ عنهُ لكونهِ مُقيماً في روسيا مِن أجلِ إكمالِ دراسَته للفنونِ في أكثرِ الأكاديمياتِ المَشهورة وأكثرها عراقة..
أصدقائهُ بَعيدونَ عَنهُ كذلك سِوى 'إدريان' والذي يَمتلكُ حياةً مُستقرّةً أكثرَ مِنه..
فَهوَ يدرسُ ويَعملُ في الوقتِ ذاتهِ كَما أنهُ يزورُ عائلتهُ كُلَّ فترةٍ ويمتلكُ حبيبةً أيضاً..
وسيُقيمانِ خِطبتَهما قَريباً بَينَما لا يزالُ هوَ في مَكانه
كانَ مُعجباً بإحدى الفتياتِ في النادي الرياضي
لَكنهُ لَم يَمتلِك الجُرأةَ للحَديثِ مَعها، وحينَما قامَ صديقه بدَفعهِ للتحدث معها تَحتَ مُحاولاتهِ للهرب..
رأيا شاباً يدخُل إلى المَكانِ ببذلةٍ عَسكريةٍ فيما إمتلئت عَينيّ الفتاةِ بدموعها وهرعَت لعناقهِ أمامَ الجميعِ بِشغف
كانَ هُنالكَ مَن يصرُخُ مشجعاً وهنالكَ مَن يصفرُ ويُصفق، وهُنالكَ مَن أشاحَ بِعينيهِ عَن ذلكَ المَنظر بغصّةٍ تَملكت حُنجرته وصديقهُ بقربه هو الوحيدُ الذي لاحظَ ذلك يواسيهِ بِصمت..
تنهدَّ الغرابيُّ بعمقٍ ليهمِسَ بصوتٍ خافِت..
- أتَمنى لَو أعود لرؤيةِ أنجليكا وأن تَقعَ لِي ولا أهتمَ لها كَما فَعلَت هِيَ مَعي سابقاً..
نَطقَ حِينَما تَذكَر بأنها كَنَت سَبب تَركهِ للنادي، إبتسمَ بِحُزنٍ مُقرراً الرَسمَ قَليلاً علّه يُخففُ مِن الفراغِ الذي يَشعُر بهِ..
اليَومُ أجازةٌ مِن جامِعتهِ وإدريان أخبرهُ بألا يُزعجهُ لأنهُ سَيخرُج في مُوعد مع حبيبتهِ ويُفاجئها بِطَلبِ يَدها للزواج..
قلبَ الأدعجُ عينيهِ بخفةٍ.. بينَما يُثبتُ اللوحةَ القُماشيةَ على حاملِ اللوحاتِ ثم يُخرجُ الألوانَ والريشَ الخاضةَ بالرسمِ مُتخذاً مَجلساً لهُ على الكُرسيّ الخشبي القصير المُقابِل للوحَة..
ليُفاجِئه صوتُ هاتفهِ مِن على المِنضدةِ المُجاورةِ لَه.. فيُلقي بالعديدِ مِن الشتائم للشخَصِ الذي قاطَعَ وَقتَ راحِتهِ مَع مَحبوبتِه الأولى.. وَهي فُرشاتهُ ولوحاتُه..
إلتقطَ هاتفهُ مُقطب الجَبين ليرى بأنّ المُتصلَ صديقُه الوَحيد كَما هُو مُتوقَع..
- ماذا تُريد؟ ألَم تَطلُب مِنّي عَدَم إزعاجِك معَ حبيبتِك.. لِما تُزعِجُني أنت الآن؟
قهقهَ الآخرُ بِخفةٍ بنَبرتِه العَميقةِ، لِيُجيبَ صَديقَهُ المُستاءَ بنَبرةٍ مُستَمتِعة..
- أوه أيُها العازِبُ المِسكينُ الوَحيد، هَل تشعُر بالغيرةَ؟
قلَبَ الأدعجُ عَينيهِ ليَعودَ للجُلوسِ مَكانهُ يَضعُ الهاتِف على مُكبر الصوتِ..بينما بدأُ بِخَطِ بَعضِ الخُطوطِ المَبدأيةِ عَلى لوحَتهِ بقَلمِ الفَحم..
- ها ها ها يا لكَ مِن شَخص مُضحكٍ إدريان..
ما دُمتَ عاشقاً ولهاناً لِما تتحدثُ مَعي ألا يُفترضُ بكَ أن تَكونَ مَع زَوجَتكَ المُستقبليةِ الآن..
ضَحكَ صديقه الأسمرُ بشدةٍ مِن الطرفِ الآخر..
إغاضةُ الأدعجِ أحدُ أكثرِ الأمور المُمتعةِ في العالمِ بالنسبةِ إليه..
- لَقد ذَهبت أميرتي لتَجربةِ بعضِ الثياب..
نحنُ في المَركزِ التجاري الآن، أعلمُ بأنها ستأخذُ وقتاً طَويلاً لِذا قررتُ إزعاجكَ حتى يَقِلَ تَوتري..
هَمهمَ الغُرابيّ فِي حينِ كانَ يَخُطّ على لَوحتِه عَينين
واسعَتينِ لوزيتين مَع أهدابٍ كَثيفةٍ بِلَمعةٍ بَريئة..
- لوكاس أشعُر بالتُوتر، أتعتقدُ بأنها سَترفُضُني؟
ماذا إن لَم تَكُن تَرغبُ بالزُواجِ الآن؟
تَحدثَ الأسمرُ بِجديةٍ هذهِ المَرة، وَصوتُه يُوضحُ التَوتُرَ الذي يَمُر بِه.
تَنهدَّ الأدعجُ يَضعُ القلمَ جانباً يتأملُ ما خطّت يداهُ للحظةٍ راضياً بالنتيجةٍ الأولية..
ليُعطيَ كامِل إهتمامهِ تالياً لِرفيقِه المُتوتر..
- لا تُفكرّ في الأمر على هذا النحوِ إدريان..
هيذر تُحبكَ كَثيراً سَيكونُ هذا أسعدَ يومٍ في حياتها
كَما أنها إن رَفضتَك فَلن تَخسرها ستُؤجلانِ فِكرةَ الزواجِ لِوقتٍ آخرَ فَحسب..الأمر بسيط هون عليك.
إستطاعَ سماعَ تَنهيدةِ الأسمرِ المُثقَلَةِ بَعدَ حديثه.
ليَزُمّ شفتيهِ بِخفّة، هُو أكثرُ مَن يَعلمُ بِتعلقُ صديقهِ بِتلكَ الفتاةَ..
لا يَتمنى الأدعجُ في أعماقِه سِوى أن تَكونَ هذهِ الفتاةُ تَستحقُ شخصاً مِثله، هُو طَيبُ القلبِ وعَاطفيٌّ كَثيراً مَهما حاوَلَ إظهارَ البرودِ واللا مُبالاة..
كَما أنهُ مُستعدٌ لِتقديمِ حَياتهِ حَرفياً لأيّ شَخصٍ غالٍ عليهِ، وَهذا ما يَجعلُ الغرابيَّ فِي قَلقٍ دائمٍ على صَديقهِ الأسمرِ مِن تلكَ الفتاة..
- أتعلمُ ماذا لوك، أنتَ تَمتلكُ الكَثيرَ مِن الأفكارِ الشاعريةِ بالنسبةِ لشخصٍ أعزب لَم يَدخُل أي علاقةٍ حقيقيةٍ مِن قَبل..
نبسَ الأسمرُ ذو الخصلاتِ الفضيةِ مُحاولاً كَتمَ ضحكتهِ.. ليأخذَ الغرابيُّ نفساً عَميقاً ثُم ينطقَ بهدوء :
- أتعلمُ ماذا إيدي؟
نطقَ بإبتسامةٍ صفراءٍ وبصوتٍ ناعمٍ ليَصرخَ تالياً بحدةٍ في الهاتفِ بعلّو صوته :
- أتمَنى أن تتعرضَ هيذر لِحادثٍ قبلَ أن تَطلبَ الزواجَ مِنها وتَأتيَ إليَّ باكياً أيها الأرعن..
إرتفعَ صوتُ قَهقهاتِ الأسمرِ بَعد أن وَصلَ الغرابيُّ إلى أقصى مَراحلِ الحَنق.. ليَنطقَ بصوتٍ هادئٍ بَعدَ أن تأتأ بحُزنٍ مُصطنع..
- تُؤ تؤ أليسَ هذا قاسياً قَليلاً؟
لا تَقلقَ هذا لَن يَحصُل لأنني مَع حبيبَتي وسوف أتلَقى الحادِثَ عَنها وأموتُ بسعادةٍ إن كان الثمن إنقاذِها..
قَلبَ الغرابيُّ عينيهِ بِخفةٍ ليتَناولَ الهاتفَ ثُمَ يَنطقَ بِتَملمُل :
- لِتَحترِقا فِي الجَحيمِ معاً لا أهتَم، والآن أغرُب عَنّي وإلا قُمتُ بِتَعجيلِ وصُولِكُما للجَحيمِ معاً بطريقةٍ مَضمونة..
أنهى الغرابيُّ حَديثهُ بإغلاقِ المُكالمةِ في وجهِ صديقهِ مُبتسماً.. بَعدَ أن إستَمعَ لِضحكاتِ الأسمرِ المُبتهِجة..
لِيُقررَ إكمالَ لَوحتهِ البَسيطة..
قامَ بِمزجِ الألوانِ يَقومُ بإفراغِ كُل طاقتهِ السَلبيّةِ خِلالَ هَذهِ الفُرشاةِ والألوانِ التي يُشكلها كَيفما شاءَ وأحَب..
تَوضحت مَلامِحُ الفَتاةِ أكثرَ بَعدَ تِلكَ الألوان..
حَيثُ كانَت ببشرةٍ تُقاربُ لَونَ بَشرتِه، وعيونٍ بُندقيةٍ لَوزيّةٍ وحاجِبينِ مُتقوسين رفيعين ..
بشَعرٍ غُرابيّ يُشابهُ شَعره، شعرها طَويلٌ يُغطي القليلَ مِن ملامحها وتقاسيمِ جَسدها..
وَجنتينِ مُمتَلئتينِ بِخفةٍ ومُتَورِدتينِ مَع أنفٍ صَغيرٍ مُحمرِّ الأرنبةِ.. مما أضفى إلى مَلامِحها رِقّةً ولُطفاً إضافيّ..
ثُمّ وأخيراً شِفاهُها الكَرزيةُ البَريئة..
وكَلمسةٍ إضافيةٍ هوَ رسمَ بَعضَ النُجومِ حَولها
وَهي قَمرهُنّ..
هذا ما فَكّر بِه..
وَصلَ في تَلوينِه إلى نُحلِ كَتفيها مُقرراً إضافةَ حَبتيّ خالٍ في كَتِفها وواحدةٌ على بِدايةِ عِظامِ تُرقوتِها اليُسرى..
تَلطَخت يَديهِ بالألوانِ كَما لَطخّ القليلَ مِن أكتافِه وذراعيه بِسببِ عَدمِ ثباتهُ والقليلَ من الألوانِ على وَجنتهِ وَفَكّه حينما قامِ بحكّه دُون إنتباه..
كانَ مُركزاً بشدّةٍ فيما يَرسُمُ.. يَعقدُ حاجببهِ بخفةٍ تَكادُ حتّى تلكَ الفتاةُ التي في لَوحتِهِ تَهرُبُ خَجلاً مِن نظراتهِ الثَقيلةِ..
تَنهدّ بِعُمقٍ حِينَما رَنَّ جَرسُ البابِ مُقاطعاً إياهُ عَن خَلوَتِه مع لوحتِه، ألقى نَظرةً أخيرةً لِلفتاةِ الَتي رَسمها تواً ليَبتَسمَ بخفةٍ ويَنطقَ بِهَمسٍ لنَفسه..
- أتمنى لَو كُنتِ حَقيقةً لأحببتُكِ بجنون وأعطَيتُكِ العالَم أجمع..
أنهى جُملتهُ مُستَقيماً حتى بابِ شِقتِه ليَفتحهُ فَتظهرَ مِن خَلفهِ تلكَ الفَتاةُ التي كانَ مُعجباً بِها سابِقاً في الناديّ الرياضيّ، أنجليكا..
لتتسعَّ مُقلتَي الفتاةِ الزُمرديةُ بَينَما تتأملُ الغرابيّ المُبهرِ وملامحهُ الوَسيمةً مُلطخةً بالألوان..
تَلعثمت ليعقدَ الغُرابيُّ ذراعيهِ إلى صدره ثُم يرفعَ أحدَ حاجبيهِ بتساءُلٍ بَينَما يرسِمُ ملامحَ باردةً على وَجهه..
كانت الفتاة في حالة يرثى لها، وكأنها مريضةٌ أو ما شابه، تَسارعت أنفاسُ الشقراءِ التي تُقابلهُ حينما حَدقت في ملامحهِ..
- إنه، إنه.. كنت أود سؤالك فقط.. انتَ لوكـ..
نَطقَت بِتلعثُمٍ دون أن تعلم م ستقوله، فيرفع هو حاجبيه بتساؤل يحثها على الحديث، فتَنقلبُ عَينيها للخلفِ مُغمضةً إياها فجأة ليَنتهيَ الأمرُ بها فاقدةً الوَعيَ على الأرضيةِ أمامه..
رَمشَ الغرابيُّ عِدّةَ مَراتٍ فاغراً فاههُ بِصَدمة..
ليَنحنيَ يَنظُر إليها عَن قُربٍ ثُمَّ.. يبتَسمَ بِخفّة !
لَو كان في مَوقفٍ ومكَانٍ آخر ومَع فتاةِ أخرى..
لَكانَ هلِعَ بشدةٍ وحاولَ بِشتّى الطُرقِ مُساعدتها.
إلا أنهُ لَم يَكترث وشَعرَ فجأةً بأنهُ فقدَ إهتمامهُ القَديمَ بِها.. وكانَ فَخوراً بِذاتهِ لأنهُ السببُ بِما حَصل مَعها أو كونه جزء منه فحسب..
لَكنهُ لَم يَترُكها مَكانها على أيّ حال..
إنما إتصلَ بالإسعافِ وأعطاهُم العُنوانَ ليأخذوها..
ثُم ذَهب إلى الداخِل لإكمالِ لَوحتِه العَزيزة يغلق الباب خلفهُ ببساطة..
يا لَهُ مِن شَخصٌ شَهمٍ ونَبيلْ..
°°°
في صَباحِ اليَومِ التالي إستيقَظ الغرابيُّ على أصواتٍ غَريبةٍ في شَقته..
إستعدلَ بجلوسهِ مُتنهداً بِعُمق،
لا يزال مُلطخاً بالألوانِ التي جَفّت على جَسدهِ ليتثاءب حتى دَمعت أطرفُ عَينيه..
إستقامَ مِن سريرهِ مُتجهاً إلى المَطبخِ ماراً بِقُربِ لَوحتهِ التي رَسمها أمس حَيثُ تَركها في الصالةِ..
دَخلَ إلى المَطبخِ يَنظُر إلى مُحتَوياتِ ثَلاجته..
عدة قواريرٍ مِن المياه، بَعض الأطعمةِ التي فَسدَت دونَ أن يأكُلها.. وبعض المثلجات وعصير البرتقال فحسب..
تَنهدَّ بعمقٍ يضعُ ملاحظةً في رأسهِ بأن يَذهبَ للتَبضُع فَهو بحاجةٍ ماسّةٍ للغِذاء الصحي والطعامِ المُعد في المَنزل..
أخرجَ إحدى قواريرِ المياهِ مُقرراً شُربَ بَعضِ القهوة أولاً، ثُم الذَهاب إلى مَطعمٍ ما لِتناولِ إفطاره وإحضار بعض الخضار واللحوم في طريق عودته..
إستَمعَ لِصوتِ سقوطِ شيء ما في الصالةِ.. ليعقِدَ حاجِبيهِ بخفةٍ مُتجهاً إلى هُناك بِسُرعة..
توسَعت عيناه حينَما رأى بأنَّ اللوحةَ التي رَسمها أمس قَد وَقعَت أرضاً، يهرَع إليها يُحاوِلُ إقامَتها.
ليتوقفَ بملامحَ مَصدومةٍ حِينما رأى اللوحةَ وما حَلّ بِها..
لَقد كانَت فارغةً تَماماً سِوى مِن النُجومِ والخَلفيةِ الداكنةِ التي رَسمها ليصيحَ بِصدمة :
- أينَ أختفَت اللوحة؟
- اللوحة؟
جَفلَ الغرابيُ للِصُراخِ الذي ظَهرَ مِن خَلفهِ فَجأة..
بِنبرةٍ ناعِمةٍ وصوتٍ أُنثَوي..
وَحينَ إلتفتَ تَوسعَت عَينيهِ وسَقطَ فَكّهُ أرضاً..
حيِنما كانَت الفَتاةُ التي رَسَمها في اللوحةِ
تَجلسُ خلفهُ أرضاً وتَنظرُ إليهِ بِعينيها الواسعةِ ذاتِ اللمعةِ البَريئة..
────────────────┈ ✦
- إنتهى ~