1

تبدأ قصتنا بشابٍ مُونقُ المَلمحِ أخّاذٌ بصوتٍ نَديّ ، فارعِ الطولِ شَديدِ الجسدِ مَليحُ المَظهر .

كَقطعةٍ مِن القمر تسيرُ على الأرضِ مُثيرٌ للعَجبِ والتأمُل .

يلفتُ القُلوبَ قبلَ أن يلفتَ الأنظارَ دونَ أيّ عَناءٍ مِنه أو إِجتهَاد .

بعيونٍ تَمتلكُ مِن السِعةِ شَيئاً بَسيطاً ، فِيهما دَعجٌ وأطرافُها بِها حُور .

بلمعةٍ تطغى عَليهِما واحدةٌ تُشيرُ للجمالِ والنقاء والأُخرى تُشيرُ للدَهاءِ والحِدّةْ تتوسطُ كِلاهُما الفِتنةَ .

تَلونَ جِسمهُ بلونِ ثُلوجِ يِنايِر وزُينَ بحباتٍ خالٍ مُتفَرقةٍ كُلّما تَعلقَت بواحدةٍ خَفقَ قلبُكَ عشقاً وإستكانةً للأُخرى .

بِخُصلاتٍ طَابقَت لونَ عَينيهِ عاكَستْ نُصوعَ بشرتهِ تأسِرُ العَاقِل والمَجنونْ .

وكأنهُ لا يَنقصهُ جمالٌ إلا أنهُ أُتخِمَ بالرُواءِ يَزيدُ على الحُسنِ سِحراً وَوسامَة .

°°°

سارَ فارعُ الطولِ وجامحُ العيونُ في طَريقه،
يَمشي بِخُيلاءٍ وكأنَّ الأرضَ لا تُناسبُ مَقامهُ وكأنهُ لا يُلامسُها بقدميهِ إنَّما يطيرُ بجَناحهِ المَخفيّ عَليها..

يسيرُ بِتَروٍ حيثُ وجهَتُه المَنشودةُ المعتادةْ،
حَتى تَوقفَ فتىْ الغُيومِ بِخيبةٍ أمامَ أحدِ المَحلات، تُظهرُ ملامحُه الحُلوةُ الكَثيرَ مِن الإستياء..

- المَحلُّ مُغلَق للِتَجديد؟ يَودونَ تَوسيعَ أعمالِهم.

همَس يقومَ بِزمّ شفاههِ الكركديةِ بخفّة..

- أعليَّ الذهابُ لِمتجرٍ آخرَ يا تُرى؟

تساءلَ الأدعجُ بينما يُحدّقُ في لافتةِ المَتجر والتيْ خُطَّ عليها إسمُ المَحلِّ بخطٍ ذهبي،
ثُم إلى المُلصقِ الذي كُتبَ عليهِ أنهُ مغلقٌ للتَجديد..

هُو أحدُ أكثرِ الناسِ وَلعاً بالعُطورِ وهذا المَحل كانَ المُفضلَّ لَديه.

فَصاحبهُ يَمتلِكُ ذوقاً لا يُعلى عليهِ في إنتقاءِ وصُنعِ العُطورِ المُميزةِ للغرابي المُونِق.

وهو أكثرُ الناسِ عِشقاً للتَميُز، يَعشَقُ أن يَكونَ كُل ما يَمتلكُه نادراً.

سواءً مِن الثِياب أو الأثاثِ في مَنزله أو قصاتِ الشعرِ وألوانه،
وأهمُ شيءٍ بالنسبةِ إليه هو العُطور ..

إنهُ مهووسٌ بجَميع أشكالِ العُطور وأنواعِها وعَبقها،
تَنهدَ بيأسٍ مُقرراُ العودةَ خاليَ اليدينِ هَذا اليُوم.

وأثناءَ سيرهِ في الطُرقاتِ بتمَلمُلٍ إستطاعَ أن يلمح متجراً للعُطورِ صغيراً، مُنزوياً عَن الأعيُنِ بِطابعٍ كلاسيكيٍ أثريّ ..

وكأنهُ أحدُ مَتاجِر العُصورِ الوسطى،
إتجهَ إليهِ دونَ تردُدٍ يدفعهُ فضولُه الكَبيرُ قُدُماً.

دفعَ بابَ المَحلّ الخَشبيّ يسمعُ رنينَ الأجراس الذي دَوى في المَكان،
لتتحركَ مُقلتيهِ ذات اللون الداكن مُتفحصةً أركانَ المَحل.

رفوفٌ كثيرةٌ مِنَ الخَشب تُحيطُ جُدرانَه، وعبقُ رائحةٍ زكيةٍ لفحَ أنفهُ ليُغمضَ عينيهِ مُستنشقاً المَزيد بعمقٍ يسحبه إلى رئتيهِ .

مَزيجٌ غريبٌ بسببِ أنواعِ الأعشابِ العِطريةِ الكثيرةِ الموزعةِ على الرُفوف، وزُيوتِ الزُهورِ العِطريّة المنوعة .

إلا أن هذا لَم يَمنعهُ مِن تَمييزِ بعضِ الرَوائح المألوفةِ والغَنيّة عَن التَعريف.

كالمِسك، الجوريّ، الياسَمين، الغاردينا المُفضلةُ له.
وروائِح ناعمةٌ كالفانيليا، الأوركيد.

ثُم حينما تَقدمَ خطوةً للأمامِ دونَ فتحِ عينيهِ ضربَت رأسهُ تلكَ الرائحةُ القَوية والناعمة، ليعقدَ حاجبيهِ بخفة..

مَزيجٌ مِن الحِدةِ والنعومةٍ جَميلةٌ جِداً وقَوية ..

- ما كانَ إسمُ هذا العِطر؟

همسَ مُقترباً إلى مَصدرِ الرائحةِ بهدوء،
دونَ أن يُفرِجَ جِفنيهِ عَن مُقلتيه الساحِرة

- إنّهُ اللافِندَر أيُها الشَاب البَديع .

إتَسعت عينيهِ وإلتفّ مُواجهاً المرأةِ التي حَدثتهُ، بصوتها النَديّ الذي يمتلِكُ بحةً طفيفةً تَزيدُه فِتنة .

كانَت ببشرةٍ سَمراء خَمريةٍ لا تَشوبُها شائبة، بعيونٍ زُمرديّة تَمتلكُ زاويةً حادةً كَنصلِ سيفٍ لأحدِ المُلوك،
تَبدو في مُقتبلِ الثلاثينَ عاماً إن إستطاعَ الجَزم.

ذاتُ طولٍ فارعٍ تُقاربهُ الطولَ أو لرُبما أطولُ منه قليلاً.

شَعرها داكنٌ طَويلٌ، تَفردهُ بحُريةٍ يَمتلكُ تَجعيدةً غَجرية، تَضعُ طوقاً ذَهبياً حولَ رأسها وجَبينها.

وَلباسُها كَانَ عِبارةً عَن ثوبٍ بلونٍ عاجيّ فضفاضٍ بشدةٍ يُظهرُ نُعومةَ كَتفيها فَقط ويظهرُ عظام ترقوتها،
كَما يُحكمُ خِصرها الدَقيقَ حِزامٌ جِلديٌ أسودُ بِنقوشٍ ذَهبية..

تَبسمَ حُلو الثُغرِ بتوترٍ يُداعبُ مؤخرةَ عُنقهِ بإحراج،
فَقد شعرَ بغرابةِ ما قامَ بفعلهِ مِن السيرِ في المَكانِ بِحُريةٍ وإغماضُ عينيهِ يزيدُ الأمرَ حَرجاً..

ليتنحنح بخفةٍ دون أن يغادر مكانه أو يتَحرك إنشاً

- أيُمكِنني مُساعدتُكَ بأيّ شيء؟

تَحدثت تلكَ المرأةٌ حِينما طالَ صَمتُ الشابِ الذي يُقابلها..

عالمةً بحرجهِ الشديدِ لا تُبعدُ إبتسامَتها المُطمئنةَ عَن شِفاهِها الخَمريّة عَلّها تُخفف مِن توتره بحُلو مبسمها

- أوه نَعم، كُنتُ أودّ البَحث عَن عطر مميَّز فَحسب
وقَد لَفت نَظري تَصميمُ المَكانْ الغَريب ..

تَحدثَ بهدوءٍ لتُهمهمَ لهُ تلكَ المرأةُ بَعدَ تَأمل طويلٍ لملامحهِ،
تُشيرُ لهُ بإتباعِها ثُم توليَّ مُتهاديةً إلى مَكان ما..

يتبعُها صوتُ الأساورِ الغريبةٍ والكثيرةِ التي تُحيط معصميها، والخِلخالِ الذي يُطوقُ إحدى قَدميها الحافيتين..

إزدردَ الغُرابيّ مافي جوفهِ بصعوبةٍ مُقرراً إتباعَها،
وحينما رأى بأنَّ الأرضيةَ كُلها مَفروشةٌ بسجادّ ناعمٍ ولاحظَ نظافةَ المَكانِ هوَ تَخلى عَن حِذائه كذلكَ مُتبِّعاً خطواتِها..

°°°

على بَعضِ الوسائدِ الكبيرةِ التي تَملأُ الأرضيةَ يجلسُ الغرابيُ بهدوءٍ مُتربعاً، يُشاهدِ تَحركاتِ المرأةِ ما بينَ الرُفوفِ والقواريرِ المُلونَة..

بَعد أن سألتهُ إن كانَ يودُّ شيئاً مُحدداً

لِيُجيبها بأن تَنتقيَ لهُ عِطراً على ذُوقها يَكونُ مُناسباً لِشخصيتِه ولَم يَستخدمهُ أيُّ شخصٍ قَبلهُ قَط إن وجَدت .

لتَبتسمَ لهُ وتُخبرهُ بأن طَلبهُ عِندها، وتَذهبَ لِتَنتقيَ المُكوناتِ التيْ تحتاجُها..

كُلّ شيءٍ في هَذا المَكانِ يَبدو عَتيقاً، كأنهُ قَد عادَ في الزَمنِ ألفَ عامٍ للوراء..

تصمِيمُ البناءِ، الأثاث، اللوحاتُ المُعلقّةُ على الجُدران، قَواريرُ العُطور الزُجاجيةُ بأغطيتِها الغَريبة، والرُفوفُ الخشبيةُ التي تَبدو مَصنوعةً يدوياً

كُل شيءٍ في المَكانِ غريبٌ وبسيطٌ إلا أنه يبدو باهظاً وثَميناً في الوقتِ ذاته، بِطريقةً أو بأخرى..

وحَتى تِلك المرأة..

لِباسُها وحُليُها إضافةً لِزينةِ وَجهها البَسيطةِ مِن كُحلٍ داكِن وأحمرَ شفاهٍ قانٍ فَحسب،
تَبدو كأنها قادِمةٌ مِن العَصور القَديمة أو رُبما تكونُ غَجريةً ما.. رغم إستحالة هذه الفكرة ..

- خُذ هذهِ يا فَتى..

قاطَع شُرود الأدعجِ جلوسُ المرأةِ مُقابلاً لَه،
تَضعُ عِدةَ قواريرَ صَغيرةٍ بينهُما على الأرضيةِ ثُم تَضعُ عُلبةً زجاجية صغيرةً غريبةَ الشكلِ مَعهن..

نَظر الغرابيُ بتوهانٍ للقواريرِ ثُم نَظرَ إلى عيني المرأةِ الحادةِ التي كَانت مُصوبةً عليهِ مُنذ البِداية

- ما هذِه القوارير سيدتي؟

إتسعت إبتِسامَتُها لِتُخرجَ ورقةً ما مِن كِتابٍ قَديمٍ كانَ موضوعاً على إحدى الوَسائِد التي بُقربهم.

تَمُدها لهُ ليأخُذها مِن بينِ يديها وملامحهُ رَسمت التَساءُل حتى تَحدثت المرأةُ تُجيبهُ ببساطة..

- إنها وصفةٌ لعطرٍ نادرٍ وساحرٍ بكل معنىْ الكلمة.

عَقد حاجبيهِ بخفةٍ يَنظُر للأسماءِ الغريبةِ المَكتوبةِ على هذه الورَقة القَديمةِ مُهترئةِ الأطراف،
والتي لَم يَستطع فِهم أي شيءٍ مِنها سِوى كَلمةَ 'لافِندر'

- وِلَكن لِما تُعطينني الوَرقة ولَم تَقومي أنتِ بِتركيبه؟

أراحَت ظَهرها على الوَسائد التي خَلفها، تُكتفُ يَديها إلى صَدرها وَلم تُبعد إبتسامتها عَن ثغرها، أو تُبعِد عَينيها عَن عَينيّ الأدعجِ المُتساءلة حتى

- إنهُّ العِطرُ النادِر الذي تَبحثُ عَنه،
لَقد تَم تَركيبهُ مرّةً واحدةً مِن قَبل منذ مئةِ عام،
وعلى الذي يَودّ إستخدامهُ صُنعهُ بيدِه..

إتسعت عَينيّ الغرابيّ بِدهشةٍ ليَنطِق بإستهجان.

- كَيفَ هَذا وأنتِ في الثلاثينَ مِن عُمركِ فَحسب؟

ضحِكت السمراءُ بشدةٍ ثُم أجابَت بَينَما تَمسحُ الدُموعَ الطفيفةَ التي ظَهرت بِسببِ ضَحِكها بأطرافِ أصابِعها الرَفيعة..

- اَولاً أتعتقدُ بأنني أعيشُ مُنذُ أكثرَ مِن مئةِ عامٍ أيُها الصغير..
لَقد وَرثتُ هذا المَحلَّ وأسرارَ العُطورِ عَن جَدتي،
والتي وَرِثتهُ عَن جَدتِها، ولَم نُغير بهِ أي شيء..

كانَ الغُرابيُّ يُصغي إليها بإهتمامٍ لِتُكمل بَينما تتربعُ بِجلوسِها مُقابِلاً لَه تَقصُّ عليهِ ما جَرى

- حاولَ الكَثيرُ مِن التُجارِ شرائهُ أو هَدمه،
إلا أننا قاومنا وإحتَفظنا بالتُراثِ العريقِ لِمِهنةِ جَدتي..

أومأ الغرابيُّ والحَماسُ كانَ واضحاً في ملامحه حِينَما سأل:

- مَاذا عَن هذا العِطر الغريب، ما حِكايَتُه؟
لِما هُو مميزٌ لهذا الحدّ حَتى لَم تقومي أنتِ أو جدتُكِ بصنعهِ مرّةً أخرى طوالَ المئةِ عامٍ الماضيةَ؟
ولِما إخترتِ أن تُعطيهِ لِي أنا بالذات من بين الجميع؟

إبتَسمَت لتُجيبهُ بَينَما تُلملِمُ القَواريرَ وتَضَعها لهُ في كِيسٍ قُماشيّ.

- أنا لَم أختَرك، العِطرُ هُو مَن إختارَك.

رَمشَ الأدعجُ بِصدمةٍ لِيُقهقهَ بخفةٍ تالياً يتَحدث بإستهزاء بينما إبتسمت هي بهدوء وكأنها تتوقع ما سيحصل..

- لا تتَحدثي وكأنني بطلٌ أسطوريٌ أو ما شابه،
أنا مُجردُ شابٍ عاديّ وهذا مُجردُ عِطر.

إبتسمت بجانبيةٍ تُناوِلهُ الكيسَ ليأخُذهُ مِنها، تزول ملامح الإستخفاف عن وجهه يعقد حاجبيه بخفة..

ثُم يَنظُرَ للوَرقةِ بتوهانٍ حَتى أعادَ أنظارهُ للسمراءِ حينَما تَحدثَت توضح له :

- يُقالُ بأنهُ عِطرٌ سِحريّ يُحققُ الأُمنيات،
ومَن يَدري إن كانَ حَقيقياً أو لا، لَكنّكَ الوَحيدُ الذيّ إستطاعَ تَمييزَ رائحةَ اللافِندر القديم وأنجذبتَ ناحيتَه والمُواصفاتُ المَذكورةُ في الكتابِ تَنطبِق عليك وَحدك..

إبتلعَ الغرابيُ ما في جَوفهِ بصعوبةٍ حينَما كانت تَبدو جادّةً بِحديثها ليومئ مُستقيماً مِن مَكانِه،
يشعُر ببعضِ التوتر وقشعريرةٌ باردةٌ سارت بِطولِ جَسده..

تحدثَ بهدوءٍ بعدَ أن أمسكَ بالكيس القماشي بينما يخرجُ محفظتهُ من جيبِ بنطاله:

- حَسناً لا يهم، كَم ثَمنُ هذه العُطورات؟

نَفت برأسها لتتحدثَ بينما تُخرجُ كِتاباً تقرأ مِنهُ بلا أي مُبالاةٍ لِوجودِه :

- أخبرتُكَ بأن العِطر مَن إختارك،
وهذا لا يَحدُث إلا كُل مئةِ عامٍ لِذا هوَ ليسَ للبيع أساساً
يُمكنُكَ الإنصراف الآن ..

أخذَ النَاصعُ نَفساً عَميقاً حِينما بدأَ شيءٌ مِن الخوفِ يتسللُ إلى قَلبه، بسبب كل تلك الأمور الغريبة التي تحصل معه في هذا المتجر..

ليُقررَ الخروجَ مِن المَكانِ بُسرعة..

- سأنتظرُ عودتَك على أيّ حال، أعلمُ بأنّكَ ستفعل
وتَذكر.. عليكَ أن تَحذرَ مما تتَمنى 'لوكاس'

نَطقت السمراءُ بِصوتِ جَهورٍ حالَ وصولهِ إلى بابِ المَتجر ناوياً الخُروج، وما إن خرجَ حتى أُغلقَ البابُ خَلفهُ!!

وكأنَ أحداً ما قامَ بِدفعه ليزدادَ هلعُهُ، وحيِنما حاولَ العودةَ لَم يَستطِع فتَح البابِ وكأنهُ مُقفل

- مَالذي يَحصُلُ بحقّ الإله؟
وكَيفَ عَرفت تِلكَ المرأةُ إسمي؟

لَم يُفكّر أكثر بعد أن حاولَ فتح باب المتجر مراراً وطرقه عدة مرات دون أي إجابة..

مُقرراً بأنهُ إكتفى وأن عليهِ العَودةَ لِمنزلهِ حتى يرتاحَ، علّهُ يَكونُ حُلماً أو أن ما رآهُ مُجردُ هَلوساتٍ بِسببِ تَعبِه لا أكثر..

────────────────┈ ✦
- إنتهى ~
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي