4

°°°

- إذاً كَيفَ حالُك أيها الصغير؟
إعتقدتُ أنَّك ستكونُ في أكاديمية أحلامِكَ الآن..

نَطقت غُرابيةُ الشعر المدعوةُ ب'ناي' حالَ دخولها إلى شقة الأدعج ترمي حقيبتها أرضاً بإهمالٍ لا يُشابهُ أناقةَ ورُقيّ مَظهرها..

قلبَ الغرابي عينيه بتململ يَتبعها بَعد أن حَمل حقيبة سَفرها العملاقةَ حتى الطابق السابع يضعها أرضاً..

- أولاً أنا لستُ صغيراً، كونكِ أكبر بعامٍ لا يَعني أنني صغير..
وثانياً لَدينا عطلةٌ لأسبوع كامل.. وأشعر بالراحة لأخذ إجازةٍ من سَماع توبيخ السيد 'فاسيلي' لأنني لا أتبعُ القواعِد وأخرقُ القوانين دائماً..

قهقهت الشاحبة بخفةٍ تتخذُ مَجلساً لَها على الأريكة.. لتلمحَ اللوحةَ فتسألهُ عَن سبب فراغها ورسمه لنجومٍ فقط..

فهذه ليست من عادَتِه، وهوَ عاشقٌ للتفاصيلِ الدقيقةِ والأفكارِ المُميزة..

- إنها قِصةٌ طَويلةٌ ناي..

- لوك..

نَظرَ كِلاهُما إلى مَصدرِ الصوتِ لتتوسعَ عيني الغُرابيّ حِينما كانَت جَميلةُ القِد تسيرُ بصعوبةٍ تَرتدي إحدى بَناطيله الفَضفاضةِ وقُمصانِه الواسعة دونَ عِلمه.. بعد أن أوصاها بالبقاء في غرفته..

كانَت غارقةً تماماً في ثيابهِ الفضفاضةِ حتى على جسده..
حينَما رأتهُ هي إبتسمت بِوسعٍ تسيرُ بِتعثُرٍ حتى وقفت أمامه..

وحالَ رفعها ليديها عالياً في الهواء هي تحدثَت بسعادةٍ بَينَما تُقهقهُ بِخفة:

- لوكاس قَميص..

قهقهَ الغرابيُّ بشدةٍ على حديثها.. مُتناسياً الجالسةَ قُربه والتي تَنظرُ إليهما بإستهجان..

- إنهُ 'قميصُ لوكاس' ليليز..

- أوه..

صححَ لها الغرابيُّ بإبتسامةٍ لطيفة..
لتنظر إليه بينما ترمشُ مرات متتالية حتى أومأت وإبتسمت بوسع تعانق قَميصه بسعادة..

وحينما لَمحت الفتاة الأخرى والتي نَسيها الأدعج تماماً بسبب فعلةِ الشاحبةِ اللطيفةتلك..

تلاشت إبتسامتها ترتسمُ الحيرةُ على تقاسيمِ وجهها السَنيّ.. لتُشير إليها ثُم تنظر إلى الغرابي وتنطق بتساءُل :

- ليليز؟

إزدردَ الأدعجُ ريقهُ بصعوبةٍ حِينما رأى النظرةَ الغريبةَ على وَجهِ غرابيةِ الشعرِ الجالسةِ قُربه..

إبتسمَ بتوترٍ ليُشيرَ لبُندقيةَ العيونِ بالجلوسِ قُربه.. فتفعلَ هي ذلكَ حالاً فيما تتبادلُ هيَ والغرابيةُ النظراتِ المُتسائلة..

- حسناً هِي ليليز أيضاً لَكن مِن نوعٍ مُختلف..
تدعى ناي..

أظهرت الشاحبةُ تعابيرَ مُتفاجِئة لِتنطق بينما تشير إلى وجههِ ووجهِ الغُرابية:

- ناي ولوك؟ آممم..

وضعت إصبعَيها على جبينها تالياً.. تُفكرُ بكلمةٍ تستطيعُ وَصفَ ما تودُ قوله، لكن دونما جَدوى..

إلا أن الغرابيَّ فهِمَ ما تَود قولهُ.. ليربت على رأسها برقةٍ ثُم يُجيبها:

- نُشبهُ بعضنا صحيح؟

لَمعت عيني الشاحبة بفرح ثم أومأت لهُ مراتٍ مُتتاليةً بينما تبتسم بوسع..
ينظرانِ في عيني بعضِهما بإبتسامةٍ دافئة..

حَتى قاطَعهُما صوتُ الغرابيةِ الهادئ حينما نَطقت بِجدّيةٍ بينما تُكتفُ يديها إلى صَدرِها وتعقدُ حاجِبيها بخفة:

- أعتقدُ بأنكَ تَمتلِكُ الكثيرَ لِتشرحهُ لِي لوكاس..

°°°

- أنتَ تُمازحُني الآن.. صحيح؟
كَيفَ يُمكنُ لِفتاةٍ أن تَخرُج مِن إحدى لَوحاتك..
إن كانَت كِذبةً حتى لا أُخبِرَ والديّ بأنكَ تواعِدُ فَتاةً أجنبيةً فأنتَ تعبثُ مَع الشخصِ الخطأ..

تنهدّ المَليحُ بِعُمقٍ يُدلكُ ما بينَ حاجبيهِ بخفةٍ.. بعدَ حديثِ شقيقتهِ الغاضِب هذا هو أخذ نفساً عميقاً ثم تحدث:

- إهدأيْ نايوو سأُثبِتُ لكِ الآن، إجلسي وأستمعي لي فَقط..

خَفّت الجِديّةِ عَن مَلامِح الغرابيةِ بَعد أن ناداها شَقيقُها الأصغرُ بهذا اللقبِ المحبب لها.. والذي إعتادَ على مُناداتِها بِه في طُفولتهِما..

لِتجلسَ بقُربهِ تَنتظرُ حديثهُ بينما تُلقي نظرةً للفتاةِ التي تتربعُ أرضاً بعفوية تُشاهِد أفلامَ الكارتون بَينَما تشربُ عَصيرَ البرتقالِ بِنهم..

- أنظري إليها نايوو إنها كالأطفال تماماً..
مِن الواضِح أنها ليسَت كأي فتاةٍ أُخرى..
كَما أنني أمتلكُ صورةً للوحةِ قبلَ أن تَخرُجَ مِنها، أُنظري..

نبسَ الغرابيّ بينَما يُخرج هاتفه ليريها صورةً للوحةِ كانَ قَد إلتقطها حالَ إنتهائهِ مِن رَسمِ المَلامِح..
وحالَ تركيزِ الغرابيةِ ما بينَ اللوحةِ ووجهِ الفتاةِ وجَدت تطابُقاً تامّاً بينهُما..

وحينَما نَظرت إلى اللوحةِ ورأت أن مَكانَها فارغٌ تَيقنّت بأنّ كلامهُ صَحيح..

لترمي برأسِها على ظهر الأريكةِ بِغيرِ تصديق،
تنظُر إلى الَلوحةِ بفراغٍ ثُم إلى الفَتاةِ التي بدأت تُدندنُ مَع أغاني الأطفالِ بسعادة..

- لكِن.. لكِن كَيف حصلَ هذا؟

نطقت بصدمةٍ بَينَما تَنظُر إلى شقيقِها الذي يتأملُ تلكَ الفتاةَ بعيونٍ لامعةٍ وإبتسامةٍ واسِعة..

- لا أعلمُ حَقاً، لَكِنها لَطيفةٌ بِشدة..
لَم تَكُن تجيد الحديثَ أو السيرَ حتى قبلَ ساعتين..
والآن هي تُميّزُ بعضَ الكَلماتِ وتسيرُ بشكلٍ جيّد..

نطقَ الغرابيُّ بهدوء ينظرُ في عينيّ شقيقته مُبتسماً،
وحينما أعادَ أنظارهُ إلى الفتاةِ الجميلةِ التي تجلسُ أرضاً ورأى ثيابهُ التي تَبتلعُها تحدثَ مرةً أُخرى:

- أيُمكنكِ إعارتُها بعضَ الثيابِ نايوو وغداً سَنذهبُ لِلتسوق معاً وأُعوضكِ عَنها.. أعِدُك..

إبتسمت الغرابية بدفئٍ تُراقِب ملامِح شقيقها المبتسمة بِصدق..
لا تَذكُر آخرَ مرّةٍ رأت هذهِ الإبتسامة الصادقة على وجهه..

مُتغاضيةً عَن سببِ خُروجِ هذهِ الفتاةِ مِن اللوحة،
وجَدت الغرابية بأنها تُسعِدُ شقيقها وهِي لا تودُ شيئاً أكثرَ مِن رؤيتِه سعيداً بِحق، لذا هي إبتسمت بدفئ ونطقت:

- لا بأسَ لوكوو..

قهقهَ الآخرُ على ذلكَ اللقبِ القَديم..
ليجفلَ أخاذّ المَحيا حينما رنَّ هاتفهُ يرى إسمَ صديقهِ على الشاشة..

إستقامَ يُجيب على المُكالمةِ لينطقَ بتملمُل:

- مَتى ستَكُفّ عَن إزعاجي أيّها اللعـ..

قاطعَ ذاتهُ بصدمةٍ حينما سَمعَ صوتَ شهقةٍ تُغادرُ ثغرَ صديقهِ الباكي..!

وهذا ما سببَ هلعهُ فهوَ لَم يرهُ يبكي سِوى في ذكرى وفاةِ جدتِه التي قامَت بِرعايَته في طُفولتِه..

- إدريان! أنتَ تبكي؟

نَطقَ يستمعُ لصوتِ نَحيبِ ذو الخُصلاتِ الفضّيةِ مما جعلَ قَلبهُ يُعتصر بألم..

- هَل أنتَ بخير؟ لِما لا تُجيب؟

صاحَ الغرابيّ بنفاذِ صبرٍ حينما إستمرَ الأسمرُ بالنحيبِ دونَ أي حديثٍ يستمعُ لصوتِ شهقاتهِ وبعضِ الأصواتِ الغريبةِ في الخلفية..

كأنهُ .. في المُستشفى؟!!

وما لَم يَنتبِه لَه هو الذُعرُ الذي إرتسَم على ملامِح الشاحبةِ.. حينما كانت تُغطي أُذنيها بيديها وتَنظُرُ إليهِ بعيونٍ دامِعة تزم شفاهها بخوف..

- لَقد إنتهيتُ لوكاس، لَقد خَسرتُ كُلّ شيء..

نطقَ الأسمرُ بنبرةٍ مُرتجفةٍ ينشقُ حالَ إنتهائه مِن حديثه..
عقدَ الأدعجُ حاجبيهِ بخفةٍ ثُم نطقَ بهمس:

- مالذي تَقصدهُ إدريان؟ ماذا حَصل؟

- هيذر.. لَقد تَعرضَت لِحادثٍ أمس..
وقَد فارقَت الحياةَ قبلَ قليلٍ بينَ يدي..

قشعَريرةٌ طَويلةٌ مَرت في جَسد الغُرابيّ حينَما سمعَ ما نطقَ به صديقُه..
هوَ أكثرُ مَن يَعلمُ بالعِشق الذي يُكنّهُ صاحبه الأسمرُ لتلكَ الفَتاة..

ولا يستطيعُ حَتى تَخيُّلَ ردةٍ فعلهِ وشعورِه الآن..
هو كانَ ولا يزالُ حساساً مِن الموتِ وذِكره..
لا يُجيد مواساة أحدٍ، لأنهُ لَم يَكُن مكانهُ ويَخشى أن يَكون..

- لَقد كانَت بِقُربي لوك، وحينَما جثوتُ على رُكبتي مُحاولاً إخراجَ عُلبةِ الخاتَمِ لَم أجد العُلبة...

نطقَ الأسمرُ بصوتٍ مُرتجفٍ يتخللُ حديثهُ العديدَ مِن الشهقات،
إزدردَ الغرابيُّ ريقهُ بصعوبةٍ حينما تابعَ الآخرُ حديثهُ بِحُرقة..

- بدأت هيَ بالضحكِ والسُخريةِ مِن مَظهري.. بينما كانَ وجهها مُحمراً حينَما عَلمَت بأنني كُنتُ مُقدِماً على طلبِ يدها..

نشقَ الأسمرُ أنفاسهُ بصعوبةٍ يَمسحُ دموعهُ عَن وجههِ بينَما تهطلُ المزيدُ منها على وجنَتيه..

- وحينما إستقمتُ مُتظاهراً بأنني مُستاءٌ مِنها هيَ جَرت بعيداً عَني وأنا ألحقُ بها مُتوعداً لها..
وحينَما إنتصفت الطَريقَ الذي إمتلأ بِصوتِ ضحكاتِنا
هيَ إبتسمت لِي وصَاحت بكَلمةِ أُحبك..

تَجعدّت ملامحُ الغرابيّ بألمٍ لصوتِ الأسمر المرتجف..
ثم إرتفاعَ صَوت بكائه مُتخبطاً في حديثه..

كان يبدو ثملاً كذلك.. عرف هذا من كلماته المتقطعةِ وشدة بكائه.. وسيرهِ المُتعثر بينَما قَلّت الأصواتُ حَوله تَدريجياً..

- أينَ أنتَ الآن سآتي إليكَ حالاً..

نطقَ الغرابيّ بهلعٍ يسيرُ بإتجاهِ بابِ المَنزلِ.. يرتدي حِذائهُ بسرعةٍ يلتقط معطفاً عشوائياً يرتديه بسرعة، بينَما يستمعُ لحديثِ الأسمر المُنهار..

- لَقد كانَت آخر كلمةٍ قالتها..
قالت لي أُحبك ثُمَ جاءَت تلكَ السيارةُ مِن حيثُ لا أعلَم.. وسَلبت مِني روحي لوك..

تنهدَ الغرابيّ بعمقٍ يُحاولُ التَحكُم بأعصابِه.. الآخر ليس واعياً وهو خائفٌ مما سيفعله في هذا الوضع..

يخرُجُ مِن المَنزلِ تالياً صافعاً البابَ خلفهُ بقوةٍ، يَنزلُ درجاتِ البناءِ بسرعةٍ حينَما رأى بأنّ المِصعدَ مَشغول، ولم يحتمل الإنتظار..

- إدريان أينَ أنت؟

نطقَ الغرابيّ يشددُ على كُل حَرف من بين أسنانه،
القلقُ يَنهشُ قلبهُ بنهمٍ لا تصلُ الأفكارَ إلى عقلهِ بشكلٍ سَوي.. حينما إستَمعَ لصوتِ الأسمرِ يَصعدُ درجاتِ سُلمٍ ما..

- أنا في الجَحيم..

نطقَ فضيّ الخصلاتِ بهدوءٍ مُرعبٍ بَعد كُل ذلكَ البُكاء..
ليتوقفَ الغرابيُّ مكانهُ متوسعَ العينينِ يَتنفسُ بثقل..

لا يُمكنُ أن ما يُفكرُ بهِ صَحيح؟!

- إدريان أرجوكَ إهدأ وأخبرني أينَ أنت؟
سنذهبُ أنا وأنتَ معاً للحديقةِ التي إعتدنا تَقاسُمَ هُمومنا بِها، سَتخبرني بِكُلِ شيءٍ وسأحكي لَك ما حصلَ معي إتففنا..؟

عادَ الأسمرُ للبكاء لينطقَ مرةً أخرى بإنتحاب:

- لَقد كُنا هناكَ معاً أمس، لَقد كانَت كالملاكِ وهي ترتدي فُستانها الأبيضَ ويبدو بأنها عادَت للسماء حيثُ مكانُها الحَقيقي لتترُكني بائساً وَحدي هُنا..

كانَ الغُرابيّ يَحبسُ شفتهُ السفلى ما بينَ صَفيّ أسنانهِ..
وكأنهُ سيخففُ مِن ألمِ قلبه والقَلق الذي يَعتريه.. كلام صديقه يزيد من رعبه..

لَكن لَمعت في ذهنهِ ذِكرى مُهمة فجأة،
تلكَ الحَديقةُ قريبةٌ مِن مُستشفى كبير لا بُد أنهُ هُناك..

بسرعةٍ صَعد الغرابي إحدى سياراتِ الأجرى المركونةِ على جانبِ الطريقِ.. ليهمسَ للسائق بإسمِ المستشفى،
حتى لا يسمعهُ الأسمر ويُقدمَ على فعلٍ مُتهور.. ليتحدث تالياً في الهاتف بهدوء:

- إيدي أنت لَستَ وَحدك عائلتُك مَعك..
والدتُك التي تُحبك ووالدكَ المُتفهم وشقيقتُكَ الصغيرة..
كَيفَ تقولُ بأنكَ وحيد؟

كان يُحاولُ جَرهُ إلى الواقعِ بعيداً عَن الصدمةِ التي تتملَكُه، وعله يستطيع إيقاظ الجانب الواعي منه

ليشعُر بهدوءه مِن الطَرف الآخر سوى بعضِ الشهقاتِ التي تُغادرُ ثغره بشكلٍ مُتقطِع..

- أنا هُنا إدريان مَعك وجِيمي سيأتي في الشَهرِ المُقبل ويقطنُ مَعنا..

نَطقَ الغرابي بهدوءٍ وكأنهُ يُحادثُ طفلاً..
إلا أن دواخِله كانَت كالأعاصيرِ لا تَهدأ.. يُلاحظ نظراتِ السائق الغريبةِ ناحيتَه لأنهُ لَم يَكُن يتحدث الروسية..

- لوك أنا أتَألم لَم أعتقِد أن هَذا قَد يَحصُل يوماً..
أخبرها أنني كُنتُ أمازِحها ولَم أكُن مستاءً..
الذنبُ ذنبي لَو لَم أتظاهر بأنني غاضبٌ مِنها لَما حَصل كُل هذا.. أنا من قتلتها..

تنهدَ الغرابي بعمق لا يَستطيعُ إحتمالَ المزيد مِن كلام الأسمرِ المُتألم..

- أنتَ لَم تَكُن السببَ أبداً، هذا قَدرُها..

حالَ إنهائه لِحديثه إتسعت عيناه بِصدمة..
يتذكرُ حَديثهُ أمس مَع ذو الخصلاتِ الفضيّة..

"أتعلمُ ماذا إيديي؟"

"أتمَنى أن تتعرضَ هيذر لِحادثٍ قبلَ أن تَطلبَ الزواجَ مِنها وتَأتيَ إليَّ باكياً أيها الأرعن"

ثُم تذكرَ حديثَ تلكَ المرأةِ مِن مَتجر العُطورِ الغريبِ ذاك..

"إنها وصفةٌ لعطرٍ نادرٍ وساحرٍ بكل معنىْ الكلمة"

"أنا لَم أختَرك، العِطرُ هُو مَن إختارَك"

"سأنتظرُ عودتَك على أيّ حال، أعلمُ بأنّكَ ستفعل
وتَذكر .. عليكَ أن تَحذرَ مما تتَمنى لوكاس"

إرتجفت أطرافهُ حينَما تذكرَ أمر إغماء أنجليكا وتجاهله لها رغم تعبها ونفوره المفاجئ منها، وأمر الفتاةِ التي خَرجَت مِن اللوحة فجأة..

جَميعُها كانَت مِن أمنياتِه..
ظهرَ بأنَّ العطرُ حقاً يُحقق الأمنيات!!

- يا إلهي، هذا جُنون..

نطقَ بصوتٍ مُرتجفٍ يشدُ خصلاتهُ إلى الخلف بشدةٍ، ليوقِظهُ مِن شُرودهِ وَكزةُ السائقِ الأشقرِ بقربه ثُم حَديثه..

- لَقد وَصلنا سَيدي..

إزدرد الغرابي ريقهُ بِصعوبةٍ يَنظُر إلى المُستشفى التي أصبحت أمامه.. هو أومأ للشابِ اليافعِ يُعطيهِ أجرهُ ثُم يخرُجَ بسرعةٍ مِن السيارة..

وما جَعلَ دماءهُ تَجِفُّ في عُروقهِ هو ملاحَظتُه لِجسدِ الأسمرِ أعلى ذلكَ البناءِ الشاهِق.. جالساً على الحافّة..

شعرَ الأدعجُ بأنّ جَسدهُ قَد شُلَّ تَماماً..

وأن عَقلهُ قَد تَوقفَّ عَن العَمل.. حينَما قامَ الأسمرُ برمي هاتفهِ مِن أعلى البناء دون إهتمام يسقطُ متحولاً لِفُتات..

مما جَعل المُكالمةَ تَنقَطع.. ليتَخبطّ الغُرابيُّ في مَكانهِ بغيرِ علمِ لما سَيفعَلُه..

وما زادَ الأمرَ سوءاً هوَ أنّ الأسمرَ قَد وقفَ على حافةِ السطح.. يَنظُر للسَماء يَفتحُ ذراعيهِ على وسعها..

وهذا ما سَببَ شعورَ الأدعجِ بالعجز..
شُعورٌ لَم يَمُرَّ بهِ مِن قَبلُ مُطلقاً..

بسُرعةٍ كانَت عيناهُ قَد ترقرقت بدُموعِها..دون وعي منه..

ليتَقدمَ إلى الأمامِ بِخُطواتِه المُرتجِفةِ ثُمَّ يصرُخ بِحُرقة..

- تَوقَف أيها المَجنون..

صُراخهُ المُرتفعُ لَفتَ أنظارَ بعضِ الزوارِ وعُمالِ المستشفى إلى مَظهرِ الأسمرِ.. مما سبب فوضى عارمةً بينَهم..

نَظرَ الأسمرُ إلى الأدعجِ بِصمتٍ لعدةِ ثوانٍ.. ليبتسمَ بخفّةٍ بينما يَمسحُ الدُموعَ عَن وجهه بِخشونةٍ.. ثُم يَصرُخَ بصوتٍ مُرتَجِف:

- أعتَذر يا صَديقيْ.. لَكنني لَا أستطيعُ إكمالَ حياتِي هَكذا.. إهتَم بعائلتي وأخبِرهُم أنني أُحِبهم..

تسارَعت أنفاسُ الغرابيّ بسببِ حديث الآخر..
بينما كانَ ينظُر إلى ملامحهِ التي لا تَكادُ تَكونُ واضحةً بسببِ إرتفاع المبنى.. هل إتصل به فقط ليكون آخر شخص يحادثه قبل موته؟

- إدريان كلا.. أرجُوك توقَف..

صاحَ الغُرابي بصوتٍ مُتحشرج بسببِ البُكاء الذي يُحاوِل كَبحه..

غافِلاً عَن تحرُكاتِ العامِلينَ في المُستشفى قُربه..
عيناهُ لا تُغادرُ جَسدَ الأسمر حِينما أعطاهُ ظهره..

وكأبطأِ شيءٍ في العالِم..
هُو ألقى بِجسدهِ مِن أعلى ذلك المَبنى..

- أيُها المَجنون، إدريان لااا..

صرخَ الغُرابيُّ يَرى تَهاويَ جَسدِ فضيّ الخُصلاتِ بسرعةٍ للأسفل.. ليُغمضَ عينيهِ بشدة..

ثُم يَجمعَ كَفيهِ ويَنطِق بِصوتٍ مُرتجِف:

- أرجُوك.. أرجوكَ يا إلهي أتمَنى أن تَحدُثَ مُعجزةٌ وأراه سليماً.. أرجوك أنا لا أستطيع إحتمال رؤيته يموت أمامي..

نشقَ الغرابيُّ تسيلُ دَمعةٌ حارقةٌ على وجنتهِ اليُسرى يَتوقفُ نَبضهُ تَماماً للَحظةٍ..

حينَما سَمِعَ صَوت إرتطامٍ قَويّ..

ليبدأَ في البكاءِ، جَسدُه فقدَ توازنهُ ليسقُطَ جاثياً أرضاً يُغطي وجههُ بِكفيهِ مُنتحباً ببُكاء..

لَم يستَطع حتى النَظرَ إلى الأمامِ.. خَوفاً مِن رؤيةِ مَظهر رَفيقِ عُمره فاقِداً للحياة..

- كُل هذا بِسببي، هَذا كُله ذنبي وذَنبُ أُمنيتي اللَعينةِ تِلك..

هَمسَ الغرابيّ ما بينَ دموعِه يبكي بحُرقة..
بينَما كانَت كُل لَحظاتِه مَع الغُرابيّ تَستمرُ بالظهورِ في رأسِه.. صديق طفولته والشخص الأقرب إلى قلبه..

إستمعَ لِصُراخِ بعضِ المُمرضاتِ حَولَه..
ليَفتحَ عينيهِ الدامِعةَ حينَما قامَت إحداهُن بوضعِ كَفها بترددٍ على كَتِفه ثُم نطقت:

- أنتَ أحد معارف ذلكَ الشاب؟

مَسحَ الأدعجُ المونِقُ عينيهِ الدامِعةَ ووجههُ المُبتلَ بخشونة، ليستَقيمَ فترفعَ الفتاةَ أنظارها إلى الأعلى حَتى تَستطيعَ النَظرَ في عينيهِ المُحمرة..

- أجل..

أجابَ الغرابيُّ بصوتٍ مُرتجفٍ وأطرافٍ مُرتعِشة،
لتَتوسَع عينيهِ على ما نَطقت بهِ تلك الفتاة تالياً:

- لا تَقلق هوَ بخير.. فقط فَقدَ وعيه بسبب الصَدمة..
نَحتاجُ تَوقيعكَ حتى نُدخلهُ المُستشفى..

لَم يَستوعِب الغرابيّ حَديثها.. حَتى رأى الأسمرَ مُحملاً على سريرٍ مُتحركٍ خاصٍ بالمستشفى...

لَقد كانَ سليماً تَماماً..
يَبدو نائماً فَحسب بوجههِ المُتعب ذاكَ وخُصلاتِه الفضيةالطويلة التي تبعثرت بخفة..

أعادَ نظراتِه المُتفاجِئة ناحيةَ المُمرضةِ لينطِقَ بتلَعثٌم:

- لـ..لَكن كَيف؟

إبتَسمَت الفتاةُ الأقصرُ ذاتُ الشعرِ البُندقيّ والعيونِ الزُمرديةِ لتَنطقَ بهدوء:

- المُستشفى مُجهزٌ بِمُعداتٍ لِحالاتِ الطَوارئ التي تُشابِهُ هذه أُنظُر هُناكَ..

أشارَت إلى أسفَل المَكانِ الذي ألقى الأسمر بنفسهِ مِنه..
ليرى الأدعجُ إحدى المُعداتِ الخاصةَ بالإنقاذِ..

عِبارةَ عَن مَرتبةٍ مَطاطيةٍ كَبيرةٍ..
وإستطاعَ رؤيةَ بعض العاملينَ يقومُون بنقلها..

أخذَ الغرابيّ أكبرَ قَدرٍ مِن الهواءِ إلى جَوفِه..
كَانت مُعجزةً حَقيقيةً بالنسبةِ إليه نَجاةُ الأسمرِ من سقوطهِ على إرتفاعِ عِشرة طوابق في هذا المُستشفى الضخم..

- أيُمكننا الحُصولُ على توقيعك الآن قَريبُك يَحتاجُ للرِعايةِ الطبية..
وأنصحُكَ بأخذهِ إلى شخصٍ مُختص إن كانَ مُكتئباً..

تحدثت الفتاة بهدوء ليهمهمَ الأدعجُ يُحاولُ الحِفاظَ على تَركيزهِ، بينَما يَقومُ بالتوقيعِ على تِلكَ الأوراقِ التي قَدمَتها الممرضة إليه..

- سَيكونُ بخير لا تَقلق..

تحدثت ثم أعطتهُ تلكَ الفتاةُ إبتسامةً مُطمئنةً، أخذت الأوراقَ مِنهُ تالياً تتجهُ إلى داخلِ المَبنى حيثُ قاموا بِنقلِ الأسمر..

جلسَ الغُرابيُّ أرضاً مُتربعاً.. يسندُ وجههُ ما بينَ كَفيه
يتنَفس بِثِقل.. يَشعُر بأن جَسدهُ مُحطم ورأسه يدور..

لَقد كانَ على وشكِ المَوتِ رُعباً.. حينَما رأى الأسمرَ يُحاولُ قَتلَ نَفسه..
فكيفَ سيكونُ شُعوره حينَما رأى حَبيبَته تَموت أمامَ عينيه؟

تَنهد الأدعجُ بِعُمقٍ يُحاوِل التفكير بأي أمرٍ آخر لإبعادَ شُعوره بالذَنب.. إلا أنهُ لَم يَستَطِع..

سَيشعُر بأنهُ مُذنبٌ في كُلِ مرةٍ يَتذكر الأسمرُ بها حبيبَتهُ أو يَذكُرها أمامَه..

ومِن المُستحيلِ أن يُخبرَهُ بأنهُ هُو السَبب..

- الأمرُ مُرعبٌ بِشدّة لا أستطيعُ النَظر في وجههِ حَتى..

همسَ بينَما عادتِ الدُموعُ للتَجمُع في عينيه،
صَحيحٌ أنهُ لَم يَكُن قَريباً مِن تلكَ الفتاة..
إلا أنَّ كَونهُ هوَ السببَ في مَوتِها أمرٌ مُؤلمٌ لِخافِقه..

وكافٍ لجَعلهِ يَشعُر بأنهُ مُجرم وقاتِل..

────────────────┈ ✦
- إنتهى ~
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي