3

°°°

كانَ الغُرابيُ ينظرُ بصدمةٍ للفتاةِ التي تتوسطُ غُرفةَ المَعيشةِ خاصتِه، وقَد ظَهرت مِن العَدمِ حَرفياً..

فهو لا يَعرفُها ولا يَعلمُ كيفَ ظهرَت في المَكانِ خلالَ ثوان..

إنخفضت نَظراتُه إلى جَسدِها..
لِيُشيحَ بوجهه بِسُرعة أغمضَ عَينيهِ بِشدةٍ يُعطيها ظهرهُ مُتنهداً بِعُمق ووَجههُ مُتوهج..

لا يستطيعُ إستيعابَ ما يَحصُل مَعه أبداً

- لا بُد مِن أنني لَم أستيقظ بَعد.. وهذا مُجرد حُلم
لَقد حَذرني إدريان دائماً مِن تناولِ طعامٍ دَسم قبل النوم ومن الإفراط في الشرب لأني دائماً ما أهلوس صباحاً..

نطق الأدعجُ بهمسٍ يُكلم ذاتهُ ويومئ لنفسه،
مُقرراً قَرصَ نفسهِ ليتأكد إن كان حُلماً أو لا..
وحينما قامَ بقرص ذاتهِ بشدةٍ تأوه مُتألماً يُمسدُ مكان قَرصته..

أيُعقلُ بأنها الفَتاةُ التي رَسمها في اللوحة حَقاً؟
هي تَمتلكُ المَلامحَ ذاتَها، لَكنّهُ لَم يَرسُم سِوى نِصفِ جَسدها يُخفي شَعرُها الطويلُ أغلبَ مَفاتِنها..

تَماماً مِثلَ شَكلها الآن.. سوى أنها تلتحف بغطاء اللوحة الأبيض الناصع..

لِذا تَنهدَ بِعُمقِ يَقومُ بِخلعِ قَميصهِ يَمُدهُ لَها بيدهِ دونَ الإلتفافِ إليها..
لتتناولهُ لا تَعلمُ ما تَفعلُ بهِ تَنظُرُ إليهِ بغباءٍ لِتعانقهُ إلى صَدرها بإبتسامةٍ بَلهاءٍ فَحسب..

- هَل إرتَديتِه؟

نَطقَ الغُرابيُ بتساءُل إلا أنهُ صَفع جبينه بيأسٍ حينما أجابتهُ بذاتِ الجُملة

- هَل إرتَديتِه!؟

إلتَفّ إليها ليرى بأنها تُعانقُ القَميص إلى صَدرِها وتَنظُر إليهِ بِتوهان..
لِذا هوَ أخذَ نَفساً عميقاً يجثو عَلى رُكبتيهِ أمامَها يُثبتُ عينيهِ على مُقلتيها التي تَنظُر إليهِ فَقط..

ليأخُذَ القَميصَ مِنها ثُمّ يُغمضَ عينيهِ ويُلبسها إياه في رأسها أولاً فغاصت بهِ يُغطي حَتى مُنتصفِ فَخذيها..

تَنهدَ للمرة الألفِ هذا اليوم يَفتحُ عينيهِ ليُساعدها على إخراجِ يَديها مِن أكمامِ القَميصِ القَصيرَة..

لِتَنظُرَ إلى القَميصِ بِدهشةٍ عَينيها لامعةٌ مُتوسعةٌ وفاهُها الكَركديُ الصَغيرُ مُكوّرٌ بتفاجؤ..

تُعانقَ جَسدها وتبتسمَ بوسعٍ ثُم تَنطِق بسعادة بَعدَ أن نَظرت إلى عينيّ الأدعجِ التي لَم تُغادِر مَلامِحها..

- إرتَديتِه..

لَم يَعلمِ الأدعجُ لِما.. إلا أنهُ قهقهَ بِشدةٍ على حديثها ونَبرتها الطُفولية..

بَدت سَعيدةً بالقَميصِ لَكنها لا تعرفُ بما تَنطِق سوى ما سَمعَتهُ مِنه..

- أنتِ لَطيفة..

نطقَ بَينَما يُخرجُ خصلاتِ شَعرها الطَويلةَ العالقةَ في القَميصِ، يتأملُها بإبتسامةٍ طَفيفةٍ مُتغاضياً عَن التفْكيرِ بِسببِ خُروجِها مِن اللوحةِ حالياً..

لِتَشهقَ هي بِشدةٍ تُغطي وجنتيها المُمتَلِئةَ بيديها ثُمّ تَنطِقَ بنَبرةٍ مُتفاجئة:

- أنتِ لَطيفة؟!

ضحِكَ الغُرابيُّ بشدّة على تِكرارِها المُستمرِ لحَديثه، يستقيمُ تالياً ناوياً التوجُه إلى المَطبخِ إلا أنها تَشبثت بيدهِ بكلتا يديها الصغيرتين..

تَنظُرُ إليهِ بعينيها الدامِعةَ ثُم تَرفعُ يَديها إليه كَطفلٍ يَطلبُ مِن أباهُ أن يَحمله..

تُبَوزُ شفاهها المُرتَجفةَ بِخفةٍ ومُقلتيها تَلمعُ مُغرقةً بِدُموعِها ووجنَتيها المُمتَلئةُ مُحمرةٌ بِشدة..

- سَتَقتُلني هذهِ الفَتاةُ بِلُطفِها.. أنا مُتأكِد.

هَمسَ الغُرابيُّ مُنتَحباً بسببِ وداعةِ مَظهرها.. هيئة جسدها وملامحها تبدو كفتاةٍ في الثامنة عشر تقريباً ..
إلا أن تصرفاتها العفوية، ملامح وجهها الناعمة، صوتها الوديع.. توحي بأنها طفلة في أعوامها الأولى فحسب..

ليدنو مِنها حَتى تُطوِقَ ذِرَاعُه خِصرها ويَدهُ الأخرى تُمسكُ كفها وكأنهُ يَودّ مُراقَصتها..

أقامَها بهدوءٍ معه حَتى وَقفت على قَدميها..
بَينَما طَوقت هي خِصرَهُ بيديها تَدفنُ رأسها فِي صَدره..

ليَقشَعرَّ جَسدُه لِحَركَتها تِلك ويأخُذَ نفساً مُرتجفاً إلى جَوفِه..

إقترابُ هَذه الفتاةِ مِنه كانَ غريباً ولطيفاً..
كانَت نقيّةً وَجاهِلةً لِكُلِ ما يَحصُل مَعها ولا تَعرفُ شيئاً سِواه..

- سأذهبُ لإحضار بعضِ العَصير يا..

صَمت حينَما لَم يَجد ما يُناديها بِه..
فَهي حَرفياً عِبارةٌ عَن لَوحةٍ على قَيد الحياةْ ولا تَمتلِكُ إسماً!!

ولا تَستطيعُ الحديثَ أساساً كُل ما تنطقهُ قَد كررتهُ كالببغاءِ مِن حَديثِه..

- ياا؟

نَطقت بهدوء بَينما تَنظُر في عينيه..
لِيُقهقه بِخفّةٍ يُساعِدُها على السَيرِ مَعه حَتى المَطبخ.. لم يعلم بما يُناديها بعد..

كانت تضع حمل جسدها عليه حينَما كانَت ساقيهَا تَرتَجِفان تُحركُهما بِصعوبةٍ كَطفلٍ لا يَعرفُ كَيفيةَ السيرِ بَعد..

ساعَدها بالجلوسِ على كُرسيّ بِقربِ طاولة الطَعام..
وذهبَ ليَسكبُ بَعض عَصير البُرتقالِ في أحد الأكواب بَينَما تراقبهُ هي بِمُقلتيها الواسِعةِ بشكلٍ مُلفت..

عادَ إليها معَ الكوبِ يُناوِلها إياه لِتَنظر إليهِ بتوهانٍ بَينما تَرمشُ عدّة مراتٍ متتاليةٍ..
نظر ما بين عينيها قبل أن ينطق بنبرة دافئة وكأنه يحادث طفلاً :

- إنهُ عَصير..

- عَصير!!

نبست فيما تُميلُ رأسها ليُهمهمَ لها بإبتسامةٍ واسعةٍ وعيونٍ لامِعة..

أمسكَ يَدها بِسُرعةٍ مُقهقهاً..

حيِنَما كادَت تَسكبُ مافي الكوبِ على عينها.. وهيَ تُحاولُ النظرَ إليهِ بعينٍ واحدةٍ عَن قُرب..

أخذَ الكوبَ مِن يَدها ليقترِبَ بِكُرسيهِ مِن خاصتِها
يُقربُه مِن فَمها يُساعِدها على تَجرُعِ القَليلِ مِنه، ثُم يُبعده مُنتظراً ردّة فِعلها بحَماس..

وهذا ما حَصل عَليهِ حينَما شهقت بِعيونٍ مُتوسعةٍ تَلعقُ شِفاهها بِتلذُذٍ ثُم ترفعَ يَدها تُشير إلى الكوبِ..

تَقوم بإغلاقِ كَفها وفَتحه مراتٍ مُتتاليةً طَلباً بإعطائها المَزيد..

شَعرَ الغُرابيّ بشيءٍ ما يُدغدغُ خافقهُ مِثلَ نَسماتِ الخَريفِ وأزهارِ الربيع، شُعورٌ لَم يَشعُر به مِن قَبلُ أبداً..

مَزيجٌ مِن المسؤولية والسَعادةٍ بِمشاعِرَ نَقيّة وكأنها الأُبوةُ في عُمرٍ مُبكِر..

حينَ تأملَّ ملامِحها الآنيةَ والظريفةَ..
يَقومُ بإعطائها كُوبَ العَصيرِ لتتسعَ إبتسامَتُها أكثر وتغمض عينيها له وكأنه تشكره بإيماءاتها

ثم تَرتشفَ مِن كوبها بينما تؤرجِحُ ساقيها ذهاباً وإياباً بسعادة..

إستقامَ الغرابيُّ يبتعد عنها قليلاً مُستغلاً إنشغالها بالعصير، يَقومَ بإخراجِ هاتِفهِ مُتصلاً بالشخصِ المَطلوب..

- ناي.. يا أجملَ وأفضلَ فتاةٍ في العالمِ وأكثرهن موهبة ورِقّة..

نَطق الغرابيُّ حالَ فَتحِ الأخرى للإتصالِ بَينَما يَستطيعُ سماعَ صوتِ مُحرّك السيارةِ.. ليُخمّنَ بأنها تَقودُها ..ئ

- مالذي تُريدهُ مِنّي لوك، تَحدث دونَ تَملُّق أو مُقدمات
تعلَم بأنَّ هذهِ الأُمورَ لا تُفلح مَعي..

تَنهدَّ الأدعجُ بِخفّةٍ يَخطف نظرةً ناحيةَ الفتاةِ التي تتجرعُ عَصير البرتقالِ بنهمٍ، ليبتسمَ بخفّةٍ ثُم يَتحدّث يجيب على تساءل الفتاة الأخرى :

- أحتاجُكِ بأمرٍ مُهم، أيُمكنكِ القدومُ غداً؟ سأدفعُ تَكاليفَ سَفرك أنا أعِدُك..

نَطق بتساءلٍ لِتُجيبهُ الأخرى بقهقهةٍ طفيفة :

- أكادُ أصلُ إلى مَنزلكَ الآن..
كانَ يَجبُ أن تَكونَ مُفاجأةً لَكنني لا أستطيعُ أن أُغلقَ فَمي لِوقتٍ طويل كَما تعلم..

ضحكَ الغرابيُّ بَينما يُحاولُ إستيعابَ قُدومِها مِن اميركا إلى روسيا لأجله.. غَيرَ قادرٍ على إخفاءِ حَماسهِ وَشوقهِ لَها.. لينطق بصوتٍ دافئ :

- أفتَقدُتكِ كَثيراً ناي..

إستَمعَ إلى إنتحابَتها مِن الطرف الآخر، تُخبرهُ بأنها تَفتقدهُ كَذلك، كَما أخبرتهُ بأنها وَصلت فِعلياً قُربَ شِقتهِ وأن عَليها إغلاقَ الإتصال..

وَحينَما عادَ ناحيةَ الغانيةِ التي أنهت كُوبها تَنظر إليه بِحزنٍ لأنهُ إنتهى، جَلسَ في مَكانهِ على الكرسي الذي قُربها يَلفتُ أنظارها..

لِتتسعَ عينيهِ بِصدمةٍ حينَما بدأت في البُكاء..
تصنم للحظة حينما أجهشت بالبكاءِ تغطي وجهها بيديها بينما يستمع لصوت شهقاتها المتفاوتة..

إبتلع مافي جوفه بصعوبةٍ يشعر بالغرابة فهو غيرُ معتاد على رؤيةِ أي شخص يبكي بهذا الشكل.. ولم يكن الشخص الذي يعلم كيف يواسي الآخرين..

أمسك بيديها يبعدهما عن وجهها، لتنظر إليه بعينيها الدامعة ووجهها المُحمر.. نطق بهدوء بينما يمسح دموعها بلطف قبل أن تندفع إلى أحضانه تعانقه :

- لِما البُكاء؟ أنتِ بِخير؟

ربت على ظهرها بهدوء لتشير هيَ إلى الكأس الفارغِ أمامها ثُم تَنطقَ بإنتحاب :

- عَصير..

ضحكَ الغرابيّ بشدةٍ فَقد إستوعبَ للتوِ أنها تَمتلكُ عَقل طفلٍ فِعلياً..

لذا فصلَ العِناقَ وقامَ بمسحِ دُموعها يَنظرُ ما بين عينيها الجَميلةِ التي تُحدقُ به بِحُزن ..

- سأُحضرُ لكِ المَزيدَ مِن العصير، ونأكُل بَعدها طعامَ الفطور مَع ناي، حَتى تُعيركِ بَعض الثياب أيضاً..

هوَ تَحدث بهدوءٍ لا يَعلمُ إن كانت ستفهمه أو لا،
إلا أنه صُدم بإبتسامتها الواسعةِ ثُم عناقها القويّ لَه..

- عَصيير..

إبتسم الأدعجُ يُفكرُ في كيفيةِ تَقديمها لِناي،
وحينَما فَصلا العِناقَ القَصيرَ هو تحدث بهدوء يُبعدُ خصلاتها عَن عينيها برقة..

- أعتقدُ أنني سأُسميكِ ليليز ما رأيُكِ؟

رَمشت عدّةَ مراتٍ لتُكررَ حديثهُ بتساءل :

- ليليز؟

همهمَ الغرابيّ يستمرُّ بِمُداعبةِ خُصلاتها بهدوءٍ..
بينما كانَ يَبدو تائهاً في تأمُلِ مُقلَتيها الجَميلة..

- أجل إنهُ إسم زهرةٍ جَميلةَ تَمتلكُ العديدَ مِن الألوان
لَكنّكِ تُشبهينَ زهورَ الليليز الأبيض.. والتي تَرمُز للجمال.. وأنتِ مثلها جَميلةٌ ونَقيةٌ كذلك ليليز..

إبتسمت جَميلةُ القِد تَخفضُ أنظارها بخجلٍ بِسببِ نَظراتِ الأدعج الغريبة لها..

ليتَوضّحَ للغُرابيّ طولِ أهدابِها وسُمكُها حِينما كَانت تُلامسُ أعلى وَجنتيها المُتوردةَ كُلما طَرفت بِعينيها خلال هذه المسافة الصغيرة بينهما..

تنهَد بعمقٍ يستقيمُ نيةً في الذهاب يسكُب لها المزيد من العصير، إلا أنها أمسكت بيَدهِ تُشير إلى ذاتها وتَنطق بَينَما تَنظرُ في عينيه :

- ليليز..

قهقهَ الغرابيُ بخفة يومِئ لها لتُشير بإصبعها إليهِ وتُميلُ رأسها بِخفة..

فَهِم الغرابيّ أنها تسألهُ عَن إسمهِ هكذا..
ليبتسمَ بهدوء يربتُ على رأسها ثُم ينطق ببطئ حتى تحفظ اسمه :

- لوكاس..

إبتسمت بوسعٍ لِتنطِق بحذرٍ وكأنها تتساءلُ إن كانت نطقتهُ بشكلٍ صائب أو لا :

- لوك.. لوكاس؟

أومأَ الأدعجُ بعيونٍ لامِعةٍ وإبتسامةٍ واسعة..
لتشهق هي بِسعادةٍ ثُم تُكرر نُطق إسمه مُجدداً بسرعة :

- لوكاس..

بصوتها الجَميل والرقيق.. وهذا جَعلَ قلب أحدهم
يَطرُق أضلُعهُ بِعُنفٍ.. بشكلٍ لَم يسبق لَه أن يَحصُل معه..

زالت إبتسامتهُ تدريجياً عَن وجههِ يستشعرُ هذا الألمَ الغريبَ في خافقه..

لَم يَكُن ألماً مؤذياً، كَلّا.. لَقد كانَ أمراً مُستعداً لخوضهِ طيلةَ عُمره..

لِيُفكر في ذاتِه أكانَ إسمهُ بهذا الجَمالِ مِن قَبل؟

────────────────┈ ✦
- إنتهى ~
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي