توبة بلا خطيئة(الجزء الثاني من صبا العمر)

نورسين همسات`بقلم

  • أعمال الترجمة

    النوع
  • 2022-07-31ضع على الرف
  • 83.4K

    إكتمل التحديث (كلمات)
تم إنتاج هذا الكتاب وتوزيعه إلكترونياً بواسطة أدب كوكب
حقوق النشر محفوظة، يجب التحقيق من عدم التعدي.

الفصل الثاني

كعادتها كانت سلمى تستطيع توقع كل شيء بشأن زوجها حتى تَبدُل حاله الفترة الماضية فعقلها يؤكد لها ظنونها ولكن قلبها مازال يكذب تلك الظنون،يرفض تصديق أن حبيب العمر والصبا يمكنه أن يطعنها بتلك الطريقة..يرفض تصديق أن حبيبها يمكنه أن يقسو عليها ويكون لسواها...لم تحظى ولو بدقائق قليلة من النوم طوال الليل فمعدتها تؤلمها من الإنتظار والترقب،وقلبها يرتجف من الخوف مما يمكنها أن تجده ولكنها لم تكن أبداً تلك المرأة التي تدفن رأسها بالرمال وترضى بحياة باهتة..حياة صارعت معه لتنشئها وتخلت عن الكثير من أجلها،لقد رضخت لآوامر زين أن يتم الزواج بأسرع وقت وتسافر ولكنه لو لمس منها إصرار على الرفض كان سيستجيب لها،ضحت بالبقاء مع شقيقها وهو من كان بحاجة لكتف يستند عليه بذلك الوقت،تخلت عن الإنتظار حتى يتاح لها أن ترتدي فستان زفاف أبيض كحلم كل فتاة،لم تبالي بأن عقد القران إقتصر على شقيقها ووالد خالد وشاهدين من زملاء والدها ووالد خالد بالعمل...بداية صعبة لحياتهما إرتضتها من أجله.

عادت بذاكرتها طوال الليل للشهور الأولى من زواجهما وخاصة أول شهر قبل أن يتسلم الراتب،لم يكن معهما ما يكفي سوى لتناول وجبات فقيرة محدودة وتحملت وتحلت بالصبر بل كانت تدعمه وتمنحه السلوان تحاول أن ترفه عنه بكل الطرق الممكنة،وحتى بعد أن تسلم راتبه كانت إلتزامتهم المادية كثيرة للغاية أولها إقتطاع جزء من الراتب لعائلته وجزء لتسديد ما إقترضه من مال ثمن التأشيرة وتحضير أوراق سفرهما،وما يفيض بالكاد يكفي طعامهما ورغم هذا تحملت حتى إنتهى من تسديد إقتراضه،وبدأت رحلة جديدة بالإدخار حتى تؤسس شقتهما...شهور كانت تنام معه على مرتبة على الأرض،وتعد الطعام بمطبخ متواضع ليس به أبسط التجهيزات..تحملت الكثير والكثير من أجله ولأجل أن تؤسس حياتهما معاً،بعد كل هذا كيف يمكن لقلبها أن يصدق أن حبيب العمر يخون؟!تدعو أن يكون إستنتاج دكتورة زينة صحيح،فضرر هذا على قلبها أخف وطأة،ستكون بجانبه وتدعمه كما إعتادت حتى يتخلص من هذا الداء اللعين ولكن عقلها يصر عليها أنها واهمة!!

إستمعت له وهو يغلق منبه هاتفه وشعرت به وهو يفعل ما إعتاده الفترة الماضية أن يعيد تشغيل شبكة الإنترنت على الهاتف ويظل ممسكاً به لبعض الوقت قبل أن يذهب للحمام ليستعد للذهاب لعمله...إدعت النوم ولم تلتفت له حتى غادر الغرفة ثم إستدارت على الفور تتأكد من وجود الهاتف وما أن وجدته حتى بدأت تكتب كلمة السر وتجرب تاريخ ميلادها ولكنها لم تنجح فحاولت مع تاريخ زواجهما وأيضاً فشلت ففكرت لثوان وقررت أن تبتعد عن التواريخ المهمة بحياتهما فيبدو أنه بتعمد إبتعد عنهم لذا ووفقاً لما تعرفه عن خالد أدخلت أخر ستة أرقام من رقم هاتفه،وحينها إستجابت لها الشاشة وفتحت..للحظات حدقت بالشاشة بخوف مما ستكتشفه،وبلحظة ضعف تساءلت إن كانت تفضل أن تبقى جاهلة بما يخفيه زوجها عنها ولكنها نفضت تلك الأفكار وبدأت تتحقق من المتصفحات لكن لا شيء يشير لبحثه عن مواقع إباحية،فإنتقلت لمواقع التواصل الإجتماعي وحينها شعرت بغصة قوية بحلقها ونبضات قلبها كانت تخفق بألم وكأنها تنزف وجعاً،دموعها إختنقت بعينيها وهي تنتقل بين الرسائل..رفعت يدها تضعها على فمها حتى تخنق صرخة كادت أن تفلت منها،صرخة من الألم الذي ينحر روحها.
لقد نحرها حبيب صباها،قتلها بقسوة ولم يبالي،نسج من كل عشقها له نصلاً مسموماً وطعن قلبها به،تخلى عنها...مذاق مرير كالعلقم إستقر بحلقها ولدهشتها لم تجد دموعاً بعينيها لتذرفها،فعينيها تحجرت على كلماته وصوره ودفعها عقلها لتبدأ بسرعة بتصوير الشاشة وإرسال الصور لحسابها على الفيس بوك وحينما تأكدت من وصولها حذفت الصور من هاتفه ثم حذفتها من نافذة الدردشة بينهما،وضعت الهاتف بمكانه وإستدارت تواصل إدعاء النوم فكلا من عقلها وقلبها بصراع يتنازعان،أحدهما يريدها أن تصرخ وتصرخ وتحطم كل ما حولها،يريدها أن تغضب تثور وتسأله لماذا؟ما الذي قصرت به؟ما الذي لم تمنحه له حتى يخونها مع أكثر من فتاة؟والآخر يريدها أن تصمت تتجرع الألم وتبتلعه وتدعي النوم حتى تستطيع أن تفكر فيما ستفعله بتعقل..بالنهاية إستجابت لعقلها وخنقت صرخات قلبها وآنينه،تيبس جسدها وهي تستمع له يرتدي ملابسه وحينما انتهى أجلى صوته وتنحنح بتعمد ليوقظها ولكنها لم تتحرك،كانت تعرف أنه لن يحاول أن يقترب منها فهي تتجنبه منذ ما حدث منه وهو حاول مراضتها ولكنها قست عليه هذه المرة وليتها قست عليه منذ وقت طويل.
حينما تأكدت أنه غادر الشقة إلتفتت لترقد على ظهرها تحدق بالسقف بعينين تحجرت دموعهما،وبدأت آلات عقلها تدور بسرعة..دفعت بآلام قلبها عميقاً بصدرها وتركته ينزف ألماً بتمهل وبطئ مميت فهو يستحق كل ما سيتكبده من جراح تمتمت بصمت وبصدرها نيراناً من الغيرة والألم:"قسماً بعشقي لك خالد لأجعلك تعاني أضعاف ما أعانيه الآن،قسماً بقلبي الذي إستهنت به لأجعلك تحيا لتتجرع العذاب والحنين"
فتحت هاتفها تعيد قراءة الرسائل بتمهل وكأنها تقتل بقرائتهم أي لحظة ضعف..حدقت بصوره العارية وصور الفتيات،والرسائل اللائي يطلبن منه أن يقوم بتحويل أرصدة لهواتفهن فهمهمت بمرارة وحسرة:"ألف ريال أرصدة خلال شهر واحد،تشتري خيانتي وقد وهبتك عمري!"
واصلت القراءة وتوقفت على رسالة كتبها لإحداهن :(سلمى لا تستطيع الغضب مني بالنهاية تتقبل الأمر،هي تحبني بكل حالاتي)
كررت قراءة الرسالة أكثر من مرة وهي تنهر نفسها بقسوة:"حمقاء..غبية..هكذا يراكِ،تقبلين بأي فتات يلقيها لكِ،لديه يقين أنكِ ستقبلي بما يتبقى منه"
واصلت قراءة الرسائل وتوقفت عند رسالة يعلوها تاريخ الإرسال:( (لتخمدي النيران التي إشتعلت بجسدي)
جذبت شعرها بقوة وأنهمرت الدموع التي تحجرت بعينيها فرسالته تلك كانت قبل دقائق فقط من ظهوره بغرفتهما وتفريغ رغبته بها..كان يفكر بسواها،يتخيل جسد أخرى..يرغب بأخرى فتمتمت وهي تعاود جذب شعرها بقوة والدموع لا تتوقف عن الإنهمار:"إلى هذا الحد أنا رخيصة بنظرك خالد!جسد ينتظرك بالفراش ليخمد نيران أشعلتها أخرى؟"
عاد لمنزله قبل إنتهاء وقت العمل على أثر إتصال من والدته،كان يقود السيارة بسرعة جنونية وهو يمنح نفسه آملاً كاذباً،ربما والدته وسلمى يعدان له مفاجأة ما لذلك إتصلت والدته لتجعله يحضر على الفور ولم تجد كذبة أكثر سخافة من رحيل سلمى عن المنزل:"يا لها من فكرة سخيفة!"
سيوبخهما ولكن ليس كثيراً فبالتأكيد سلمى تريد مصالحته وهو سيدعي الغضب فقط قليلا حتى تتوسل له وتقوم بتدليله وبعدها سيصطحبها لغرفتهما ليطفئ شوقه لها،إنها المرة الأولى منذ سنوات طويلة تستطيع بها مخاصمته،سواء أخطأ هو أو أخطأت هي كانت دائماً من تراضيه وتنهي خصامهما،لم تمر ليلة كاملة عليهما وهما على خصام منذ أن كانت مراهقة.
"حسناً،لن أطيل في إدعاء الغضب..لا بل لن أدعي الغضب مطلقاً سأعانقها ما أن آراها وسأقبل يدها وأخبرها كم أحبها لكنني يجب أيضاً أن أخبرها أنها مزحة سخيفة لا يجب أن تكررها" تمتم يحدث نفسه محاولاً طمئنتها بالرغم من القبضة التي تعتصر قلبه وتنبؤه بالأسوأ.
"سلمى تعشقني،لا يمكنها أن ترحل عن المنزل لمجرد أنني كنت أناني قليلا معها بالفراش،لا هذا مستحيل"عاد ليحدث نفسه وهو يناور بالسيارة من طريق لآخر حتى أوقفها أمام المبني السكني وغادر راكضاً نحو المصعد.
ما أن فتح باب شقته حتى إستقبلته والدته بعينين دامعتين فلم يتفوه بكلمة وأدرك أنها ليست مزحة..فأسرع نحو غرفة نومهما ليجد خزانتها خالية تماماً إستدار حوله فلم يجد أي شيء من أغراضها على طاولة الزينة وأحد الأدراج مفتوحاً،كان يعرف جيداً ما يحتويه هذا الدرج..لقد إختفى جواز سفرها،وحل محله ظرف فضه بسرعة بيد مرتجفة وخوف نبض به قلبه.
(تساءلت لماذا نظرت لسواي؟لماذا خنت؟لماذا طعنت قلبى بالغدر؟لكن صدقني يا من كنت حبيب العمر والصبا لم أجد أجابة سوى أنك إستهنت بقلبي ووثقت أنني سأقبل ببعضك وكأنك لم ولن تعرفني،أنا إمرأة لا تقبل سوى بكل شيء أو لا شيء لذا رحلت..رحلت وتركت لك فتيات الهاتف ليحصلن على بعضك وأخريات بالواقع ربما يحصلن على ما تبقى منك،لكن أنا لا..سأعترف لك بشجاعة إنني أشعر بالهزيمة، بالضعف..بالتحطم...بضياع الحلم،لكن لديّ من الوقت ما يكفي لأجلد ذاتي بسوط من نيران لأنها منحت روحي لمن لا يستحق،سأنثر ذرات رماد قلبي الذي عشقك بالهواء ليتلاشى ويُولد قلب جديد قادر على أن يحيا من جديد وربما يوماً ما أيضا يُحِب من جديد...طلقني"
مرر أصابعه بين خصلات شعره وهو يدور بالغرفة كالمجنون،محاولاً التفكير بمبررات يخبرها لها قبل أن يذهب لشقة زين لكن ماذا سيخبرها أنه خانها؟!بالتأكيد رأت الرسائل بهاتفه،عليه أن يعترف لها بخطئه يتوسل لها لتغفر له..سيتعهد لها أنه لن يفعلها مجدداً أبداً..يجب أن يتحدث معها بمفردهما بعيداً عن زين ومليكة،سيركع أمامها يتوسلها،سيجذبها بين ذراعيه ويقبلها بكل ما يحتويه قلبه لها من عشق وحينها ستغفر له.
"بالتأكيد ستغفر لي،سلمى تحبني..ما يحمله قلبها لي شيء أقوى من العشق،ما بيننا أقوى من الحب،إنها تمتلكني وأمتلكها..قلبي وروحي لها وقلبها وروحها لي..ستعود معي،ستخاصمني وسأتوسل لها كل ليلة لأسترضيها"تمتم وهو يعاود النظر بالرسالة ليقرأها مرة أخرى وهذه المرة تحولت مشاعره للغيرة للغضب وهتف:" لكنني سأعاقبها كيف تكتب تلك السخافات؟!أي حب جديد هذا الذي تجرأت وكتبت عنه؟"
قبض على الرسالة بين يديه ومر مسرعاً بجوار والدته التي هتفت محاولة أن توقفه:" خالد..خالد"
لم يستمع لوالدته ولم يكن حتى يراها فمشاعره كانت تتضارب ما بين الخوف حد الهلع من خسارة سلمى وما بين غضبه لتجرأها على التلويح بوجهه بأنها يمكنها ولو بخيالها أن تكون لسواه..ترقرقت عينيه بدمعة حبيسة ظلت تهدد بالإنحدار وهو يتساءل هل شعرت بنفس النيران التي يشعر بها الآن؟لقد هددته فقط وهو يدرك ويثق أنه تهديد فسلمى إن لم تكن له لن تكون لسواه.
"لا..لا،سلمى زوجته،إنها تملكه لا يمكنها أن تتنازل عنه بتلك السهولة..هو لها،بقلبه لها وبروحه لها..كيف يمكن أن يحيا بدونها؟ومهد..نعم يا أحمق لقد تركت مهد لأنها تعلم أنها ستعود"
لكنها شعرت بالألم،كيف خُيل له أنها لن تكتشف خيانته؟من أين آتاه هذا اليقين الأحمق؟كيف وهي تعرف ما يريد قوله من نظرة عينيه؟كيف وهي تعلم من نبرة صوته عبر الهاتف إن كان هناك ما يزعجه؟سيتوسل لها أن تغفر له،سيعوضها عن كل لحظة إبتعد عنها مع سواها..ولكن فقط لو يتحدث معها بعيداً عن مليكة وزين.
طرقات عالية متتالية على الباب جعلت زين ينتفض من إسترخائه على الآريكة بعد أن كان راقداً بسلام واضعاً رأسه فوق ساقي مليكة فتيقظت حواسه بالكامل وهو يلتفت لزوجته:"هيا للغرفة حتى أرى من المجنون الذي يدق الباب والجرس بتلك الطريقة المزعجة"
أسرعت مليكة نحو الداخل بمشاعر قلقة فهي تقريباً تعرف الطارق على بابهما ولكنها أسرعت لغرفتهما ترتدي عباءة سوداء فوق منامتها وهي تستمع لصوت شقيقها يصرخ:"أين سلمى يا زين؟دعها تخرج لي؟"
"هل جننت يا رجل؟وماذا تعني بأين سلمى؟أخبرني ما الذي تعنيه بسرعة لأنني كما تعلم لست على وفاق مع خَصلة الصبر"صاح زين بتجهم ونفاذ صبر.
"شقيقتك إبنة الأصول تركت لي رسالة أنها سترحل عن المنزل وغادرته بعد أن جمعت...."صاح خالد بغضب محاولاً استفزاز سلمى لتخرج من مخبئها بالداخل.
ولكن زين قاطعه وهو يمسك بتلابيب قميصه وقد تحول وجهه لغضب يشتعل كالجمر من عينيه:
"ماذا تعني أنها رحلت؟ماذا فعلت لها؟"
"لقد كنت بالعمل يا رجل وعدت للمنزل على أثر إتصال من والدتي فوجدت رسالة منها تخبرني أنها رحلت،والآن زين لا داعي لتلك الإدعاءات ودعها تخرج لنتحدث سوياً"قال خالد ولازال الأمل يحدوه في إيجاد سلمى بشقة شقيقها رغم ما يبدو على زين من جهل بكل ما يتحدث عنه.
"حقاً لم تفعل شيء يا خالد؟!"خرجت مليكة وهي عاقدة كلتا ذراعيها أمام صدرها بتحدي.
"أنت حقير..جبان..ما الذي ينقصك حتى تكون بتلك القذارة؟!"صاحت مليكة متابعة.
فإلتفت زين نحوها بدهشة من إساءتها لشقيقها الأكبر بينما إستغل خالد تراخي يد زين ليندفع نحو مليكة بغضب وهو يضغط على أسنانه:"أنتِ تعرفين أين هي؟!كان يجب أن أعرف هذا فسركما دائماً معاً، أين زوجتي يا مليكة؟ أين سلمى؟"
ورفع يده ليمسك بشعر مليكة يجذبه لكن ما كاد أن يفعل حتى قبضت قبضة زين على معصمه بقوة جعلته يصرخ ويترك شعرها بينما زمجر زين من بين أسنانه:"إياك وأن تحاول ثانية أن تفعلها لأنني سأحطم عظام يدك بالمرة القادمة"
"أترك معصمي يا زين وبدلاً من أن تهددني إسأل زوجتك أين ذهبت شقيقتك تاركة طفلها ولم تهتم حتى به"واصل إستفزازه فقد بدأ الأمل يخبو بصدره فلو كانت سلمى بشقة شقيقها لما إنتظرت كل هذا الوقت بالداخل كانت ستخرج بتقف حائلاً بينهما.
"وهل إهتممت أنت بمهد حينما كنت ترسل صور عارية لك لتلك الفتاة؟هل إهتممت وأنت تطلب منها صور عارية لها؟هل إهتممت بولدك وأنت تتفق معها على أن تلتقوا بالقاهرة؟هل كنت تهتم وأنت تنفق على أرصدة هواتف الفتيات ألف ريال خلال شهر واحد؟"صاحت مليكة متخذة وضع دفاعي عن صديقتها.
إلتفت زين نحو خالد وقد بدا الإشمئزاز على ملامح وجهه وهو يحاول أن يربط خيوط تراشق الحوار بين مليكة وخالد،وبعضاً من الإرتياح قد سكن قلبه فقد بدت زوجته غير قلقة من إختفاء سلمى وهذا يعني معرفتها أن شقيقته بأمان،ولكن الغضب والإشمئزاز من ما سمعه إندفعا بدمائه كالبرق فإلتفت نحو خالد ولكمه بقوة جعلت الدماء تتدفق من أنف خالد وفمه.
ترنح خالد وإرتطم بالجدار من خلفه فإنقبض قلب مليكة من أجل شقيقها بالرغم من كل شيء وإتجهت لتقف حائلاً بينه وبين زين الذي عاود الهجوم عليه ولكن خالد لم يكن يبالي وإلتفت نحو مليكة:"أتوسل إليكِ مليكة أخبريني أين هي،ليس من أجلي فأنا لا أستحق..من أجل مهد،إنه بحاجة لها"
قبضت مليكة على كلتا يديها لتقاوم ضعفها أمام حزن شقيقها وقالت بنبرة حاولت أن تكون حازمة:"لقد تركت مهد مع جدة تحبه ووالد سيكون على قدر من المسؤلية ويرعى ولده،ولديه عمة وخال يعشقانه"
"أنا كاذب مليكة.. كاذب،أنا من أحتاج لها،لا أستطيع الحياة بدونها.."إنهمرت دمعة على وجنته ولكن مليكة أسرعت تجيبه:"تستطيع أن تحيا بدونها مثلما أستطعت أن تخونها"
ثم غادرت وتركته متجهة نحو غرفة نومها وكاد خالد يلحق بها ولكن زين أوقفه قائلاً:" يبدو أنك إقترفت ذنباً لا يغتفر لذا عد لشقتك الآن خالد وإعتني لوالدتك وبمهد حتى أعرف من مليكة ماذا حدث بالتحديد وأين سلمى"
"ستخبرني يا زين ما أن تعلم من مليكة،أليس كذلك؟ستتصل بي لنذهب ونحضرها؟سأعتذر لها وأتعهد لها بأنني لن أكررها ما حييت..."تمتم خالد وقد ترك دمعاته المختنقة تنحدر على وجنته لعلها تطفئ عذاب قلبه.
زفر زين بقوة دافعاً غضبه بعيداً وهو يرى القهر والحزن بملامح خالد وعينيه ثم قال:" دعني أتحدث مع كلتاهما ثم سأخبرك بما حدث يا خالد،والآن عد لخالتي لتطمئنها"
غادر خالد شقة زين بكتفين مثقلين بالحزن والآسى بينما إتجه زين نحو غرفة النوم ووقف بمدخل الباب والغضب يشتعل بعينيه فمليكته خانت عهدهما،أخفت عنه الكثير،تركته يرقد آمناً بين ذراعيها وهي تخفي عنه ما يحدث مع شقيقته فغمغم بنبرة حادة:"أين سلمى؟"
******** ***
"ماذا فعلت مع هاشم؟ هل وجدت طريقة لإحضاره للقاهرة من أجل العلاج؟"سأل دكتور علي مصطفى عبر الهاتف مضيفاً:"سنعود للقاهرة بعد غد وقد رتبت له مع طبيب نفسي من أحد أصدقائي ليبدأ متابعته،هاشم يجب أن يبدأ في تناول مضادات الإكتئاب على وجه السرعة يا مصطفى،إيذاء نفسه مرة يعني أنه وصل لمرحلة متقدمة وبالتأكيد سيحاول ثانيةً"
"سأذهب الليلة للخالة أم هاشم يا دكتور وأتحدث معها فلا سبيل لإحضاره بدون علمها هي الوحيدة القادرة على مساعدتي"أجاب مصطفى عبر الهاتف وهو يلعن أنانيته التي جعلته ينشغل بطلبية العمل الأخيرة عن صديقه.
شدد علي من إلتفاف ذراعه حول جسد زوجته بينما يقفان بالشرفة يتأملان الغروب،فبالرغم أنها إشتاقت لسمر وجلال..إشتاقت لزينة الصغيرة ومازن ولكن هناك حزن غريب بقلبها لأنها ستغادر هذا المكان،تأملت غرق الشمس بالبحر وإختفاءها رويداً رويداً بينما وضعت استندت برأسها على صدر زوجها تستمع لذبذبات صوته من خلال صدره ورغم انشغاله بالتحدث على الهاتف ولكنه شعر بتلك اللمحة من الحزن فوضع أصبعه أسفل ذقنها ليرفع وجهها نحوه حتى يستطيع رؤية عينيها ثم قال عبر الهاتف لمصطفي:"المعذرة مصطفي سأضعك على الإنتظار لثوان"
وما أن فعل حتى سأل زينة:"لما هذا الحزن بعينيك؟"
إبتسمت له محاولة محو لمحة الحزن السخيفة من عينيها وقالت:"إنها مشاعر سخيفة لا أكثر،يبدو أنني أحببت المكان لذا أشعر ببعض الحزن لفراقه"
"إنه مكان رائع بالفعل وكأننا بجزيرة منعزلة عن العالم،يمكننا أن نطيل وقت إقامتنا إذا كنت ترغبين"غمغم وهو ينحني ليقوم بتقبيل جبينها.
"لا بالطبع،لدينا إلتزامات وعمل سنغادر بعد غد ولكننا سنعود مرة أخرى أليس كذلك؟"تمتمت بينما إستدارت ولفت ذراعيها حول خصره تعانقه بقوة.
" بالتأكيد،يمكننا أن نعود إلى هنا بأول عطلة نحصل عليها"قال بإبتسامة متفهمة لطبيعة زوجته الرومانسية التي لا تعترف هي بها.
أعاد إستقبال إتصال مصطفى وقال:"المعذرة مرة أخرى يا مصطفى،يجب أن يكون تصرفك بسرعة أريدك أن تصل لحل معهم بأية طريقة ممكنة،سنعود بعد غد ومن الأفضل أن نبدأ بعلاجه على الفور"
حينما إنتهى مصطفى من إتصاله الهاتفي مع دكتور علي غادر غرفته فغمغت نرجس:"ألم تقل أنك متعب وستقضي الليلة بالمنزل؟"
"يجب أن أذهب لدار هاشم"أجاب جدته وهو يتجه نحو باب الدار.
"الأيام تدور،القوي يضعف،والصغير يقوى،المريض يشفى والمتجبر يصبح ذليلاً..الحرير سيصبح كفن و القلوب الطاهرة إتشحت بالظلام..الغريبة عائدة ويديها مزينة بالحناء..وبأحشائها قرة عين والدها"
(**بعلم تفسير الأحلام الحناء تعنى الخير واليد التي تزدان بالحناء يد تجلب الخير)
إستدار مصطفى نحو جدته التي تجلس كعادتها بالآريكة التي تتصدر بهو المنزل الصغير،يحاول فهم أياً من تآويلها لكنه هز رأسه بعدم فهم وقال:"لم أفهم شيء جدتي حقاً،لكن هل هذا المريض هو هاشم؟لأول مرة جدتي أتمنى ان تجيبي على تساؤلاتي وتؤكدين لي أنك تعنين هاشم"
"إذهب حتى لا تتأخر، فالوقت يمر"
غادر مصطفى المنزل متجهاً نحو دار هاشم بعد أن تأكد أن جدته لن تزيد حرفاً عما قالته من طلاسم.
"أريد التحدث معك بأمرٍ ما يا خالة"قال مصطفى ما أن فتحت فضيلة له الباب.
"تفضل يا ولدي،أنت لا تحتاج سبباً لتحضر،الدار دارك"قالت فضيلة يترحيب وهي تتنحى جانباً حتى تتيح له الدخول.
جلس مصطفى على الآريكة الصغيرة وبدا متردد لا يعرف من أين يبدأ حديثه فضاقت عين فضيلة تتأمله:"خيراً يا ولدي لما تبدو متردد؟"
"خالتي أريد التحدث معك بشأن هاشم ولكن أتمنى أن توافقيني الرأي وتتفهمين ما أعنيه"قال مصطفى بينما بداخله كان يعلم أن الأمر أصعب مما يتخيل.
"ماذا به هاشم؟"تفوهت فضيلة بقلق مضاعف فولدها عازف عن الطعام منذ أول أمس ولم تعد تعرف ما الذى يجب أن تفعله معه.
"عديني خالتي أنكِ لن ترفضي على الفور،فكري بالأمر اولاً"
"تحدث يا مصطفي فأنا لا أتحمل مزيد من القلق وترددك هذا لا يبشر بالخير" تمتمت فضيلة بكتفين تنوء بما تحمله من هموم.
"هاشم يعاني من مرض نفسي خالتي،كل ما يحدث معه يشير لذلك..هذا ليس رأي أنا بالطبع ولكنه رأي الدكتور علي وزوجته وكلاهما متخصص بهذا المجال، هاشم يحتاج للعلاج لدى طبيب نفسي وربما يحتاج أن يبقى بمصحة لبضعة.... "
لم يستكمل حديثه فقد إنتفضت فضيلة من مكانها هاتفة:"هل هذا ما حضرت لتقوله يا مصطفى أن ولدي مجنون؟"
ظهرت رابحة على الدرج ووقفت للحظات عاجزة عن تصديق ما سمعته،وصدمتها الأكبر أن ما سمعته من مصطفى الشخص الوحيد الذي كانت تعتقد وكأن الله أعاده من الغربة ليكون لهما عوناً.
"عد من حيث آتيت يا مصطفى..زوجى ليس مجنوناً ولن تضعه بمشفى المجانين..لن يحدث هذا ما حييت"صرخت رابحة فإلتفت مصطفى نحوها وزم شفتيه بإحباط فعليه الآن إن يقنع كلتاهما بدلاً من فضيلة فقط وكأن المرأة الأكبر عمراً كان من السهل إقناعها ليزداد الأمر سوءً.
"خالتي استمعي لي،أقسم أنني أحب هاشم وأخشى أن تتدهور حالته..أنا وأنتِ وحتى أم حسين نعرف جيداً أن هاشم حاول الإنتحار ولن تكون المرة الأخيرة..."
حاول مصطفى أن يستغل خوفهما على هاشم،حاول أن يضع الحقيقة واضحة أمام أعينهما فبالتأكيد كلتاهما شاهدت آثار الشفرة على ذراعه.
"ولدي مؤمن بالله ولا يمكن أن يُقدم على ذلك"أجابت فضيلة بنبرة حادة قاطعة تتناقض مع قلبها الراجف بداخل صدرها فهاشم حاول إيذاء نفسه من قبل والآن حديث مصطفى يجعلها أكثر رعباً،لكن كيف يمكنها أن تدفع بولدها التهلكة،أتلقى بولدها بين المجانين وتنسى وجوده؟تفقده كما فقدت أحمد؟
"خالتي بالله عليكِ هاشم يحتاج لدواء ورعاية نفسية،سأبقى معه بالقاهرة وإذا أرادت إحداكن مرافقتنا لا مانع،لن يزيد الأمر عن أسبوعين وسيكون تحت مراقبة دكتور علي القاضي،ألا تثقين به؟"واصل مصطفى محاولة إقناعهما بإصرار وأقحم إسم علي القاضي فربما ذلك يكون دافعاً للثقة.
"إذا كان يحتاج لدواء فالصيدلية بأول البلدة دعنا نذهب ونحضره،لكنني لن أسمح لك بأن تدعي أن زوجي مجنون أبداً"هتفت رابحة بحدة وهي تقترب منه بغضب بدأ يسيطر عليها ثم أضافت:" ولكن إذا لم يكن لديك شيء أخر لتقوله فيمكنك أن ترحل وتهتم بشؤنك"
"رابحة!!" صاحت فضيلة بتأنيب ثم إلتفتت لمصطفى قائلة:" الدار دارك يا ولدي ولكنني لا أريد التحدث في هذا الأمر ثانية"
زفر مصطفي بيأس ثم إستدار مغادراً الدار فقد تم طرده حرفياً ولم يعد لديه ما يمكنه ان يفعله، ربما الدكتور علي سيكون نفوذه أقوى وكلمته موثوق بها أكثر...حينما غادر ألقت فضيلة بجسدها فوق الآريكة وهي تتساءل ماذا لو كان مصطفى على حق؟ماذا ستفعل لو حاول هاشم الإنتحار مرة أخرى؟بجوارها جلست رابحة كلتاهما تتبادلان النظرات القلقة ولكن ولا واحدة منهما قادرة على قول أفكارها بصوت مرتفع حتى إستمتعا لصوت إرتطام آتياً من الغرفة العلوية.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي