الفصل الثالث

شعرت بنظراته الغاضبة المسلطة على ظهرها حتى قبل أن تستمع لنبرته الحادة والتي مر وقت طويل منذ آخر مرة سمعتها فإلتفتت نحوه بتردد وحاولت أن تُبدِي على شفتيها إبتسامة ولكنها خرجت مرتجفة مضطربة بينما إتجهت نحوه بخطوات متمهلة وكأنها تؤجل أجابتها لتستشف مقدار غضبه ولكن قبل أن تقترب منه أكثر راغبة في قطع أية مسافة بينهما،رفع إحدى يديه ليشير لها أن تتوقف ولا تحاول مغمغما مرة أخرى بذات النبرة الحادة والوجه المتجهم الغاضب:"أين سلمى؟"
"لا أدري زين أقسم أنني لا أعرف"همست محاولة أن تجعله يقتنع.
"أنتِ تكذبين مليكة،وقد عاهدتيني من قبل ألا تكذبي أو تخفين عني شيء وقد فعلتِ كلاهما فلا تزيديى الأمر سوء بإستمرارك بالكذب"ضاقت عينيه وهو يتأملها بنظرة تمتلئ بالتأنيب والخذلان.
"لا زين..لا،أنا لم أخفي عنك شيء خاص بي"أجابته محاولة أن توضح الأمور كما تراها هي.
"سلمى لم تخبرني أي شيء بوصفي زوجة شقيقها أو شقيقة زوجها،بل بوصفي صديقتها"أضافت بتبرير تثق أنه مقبول وواضح حتى لزين ولكن فقط لو لم يكن غاضب وقَلِق.
"أين سلمى يا مليكة؟" كرر بحزم.
"أنا لم أكذب عليك أقسم على ذلك،كل ما أعرفه أنها لدى صديقة لنا تقيم معها بمنزلها لكن أين المكان أو بأي محافظة لا أعلم"
إتسعت عيني زين بهلع وضرب الباب بقبضته بقوة حتى أن مليكة تراجعت للخلف بسرعة فهي لم تراه غاصباً هكذا من قبل أبداً.
"تعنين أنكِ لا تعرفين مكان شقيقتي؟!تركتيني أتناول الطعام وأرقد بين أحضانك وأنا غافل أن شقيقتي الآن تبكي بدون سند وبمنزل غريب بمفردها؟!"صاح بعدم تصديق بينما شرايين عنقه تتضخم ووجهه يحتدم بحمرة الغضب.
"زين!!"كانت النبرة الحادة هذه المرة تنطلق من بين شفتيها وهي تعاود الإقتراب منه فهي أبداً لا تخشاه ولكنها غاضبة الآن أيضاً ولو لم يكن تقديرها لقلقه لكانت إتخذت موقف جاد معه.
"إياك أن تُشكك في حبي لصديقتي!سلمى بأمان وتحدثت معها حينما وصلت وإستقرت،أما عن الدموع فهي ستذرفها هنا أو هناك أو بأي مكان،الإبتعاد كان إختيارها وأنا إحترمت رغبتها"
أضافت وعادت نبرتها لتلين رويداً رويداً قبل أن تمتد يدها لتمسك بيده فجذبها بعيداً ولكنها عاودت الاقتراب والإمساك بيده قائلة:"إجلس لأخبرك بهدوء عن كل ما حدث وبعدها سأترك لك الغرفة كاملة ولن أزعجك"
ثم أضافت بنبرة منخفضة متوترة:"إذا كان هذا ما تريده"
زاغت عينيه للحظات بإضطراب غير قادر على النظر بعينيها بينما واصلت وهي تجلس على مقعد طاولة الزينة أمامه حيث دفعته ليجلس على حافة الفراش:"أعتقد أنك فهمت بعضاً مما حدث،سلمى إكتشفت رسائل بين خالد و عدد من الفتيات بعضهن إستغلوه وجعلوه يدفع لهن مقابل عدة صور سخيفة عارية ورسائل صوتية لا يمكن أن تقال سوى بين رجل وزوجته في الفراش،وإحداهن كانت الأكثر فجوراً فهو أرسل لها صور عارية وهي كذلك وبينهما رسائل...وكأنها علاقة كاملة دارت بينهما فقط بالرسائل"
إبتلعت لعابها بخزي مما فعله شقيقها وهي ترى قبضتي زين تتشدد بقوة كلما سردت تفاصيل أكثر ولكنها واصلت:"إنتظرت سلمى حتى غادر خالد المنزل وفكرت حتى توصلت لما تريد فعله ولم تتصل بي سوى بعد أن إتخذت القرار ورتبت أمر إقامتها"
تنهدت بقوة وهي تحدق بوجهه بتأنيب وعينيها تترقرق بالدموع:"إتصلت لتمنحني رقم هاتفها الجديد وتخبرني أنها أغلقت شريحة الإتصال الأخرى وأغلقت أيضاً كل حساباتها على مواقع التواصل الإجتماعي فهي تريد وقتاً بمفردها بدون أية ضغوط.. طلبت مني أن أتعهد لها أن تعرف أنت ما حدث من خالد وليس مني حتى لا يبدو عليك الهدوء والإطمئنان...يبدو أنها تعرفه أكثر مما يعرف هو نفسه فقد كانت متأكدة أنه سيهرع الى هنا قبل حتى أن يفكر بالإتصال بها على الهاتف"
إنحدرت دمعة على وجنتيها وتكونت غصة بحلقها تخنقها فحزنها من أجل صديقتها وغضبها و إستيائها من شقيقها كل هذا بالإضافة لإتهام زين المبطن بأنها لا تهتم بأمر سلمى،جعل رغبتها بالبكاء قوية ولكنها كبحتها وواصلت وهي تمسك بهاتفها من فوق طاولة الزينة وضغطت على زر الإتصال:"مرحباً سلمى..كما توقعتِ لقد حضر خالد،زين قلق عليك للغاية ويريد أن يتحدث معك"
قدمت له الهاتف فرفع عينيه نحوها ولكنها غادرت الغرفة وتركته يتحدث مع شقيقته ليسألها بلهفة :"سلمى أين أنتِ؟"
بنبرة منخفضة وصوت جاهدت ليغادر حنجرتها همهمت:"من فضلك زين،لا تقلق أنا بخير"
شعر بالحزن يتسرب من بين حروف كلماتها المختنقة وهي تحاول طمئنته،وإن كان يعرف أي شيء عن شقيقته فهو يدرك الآن أنها ليست بالخير الذي تدعيه فتمتم محاولا التحكم بغضبه وغصة الحزن التي تخنقه:"هل خذلتك يوماً؟هل لجأتِ لي بأي وقت ولم أنصرك؟إلى هذا الحد أنا هش ضعيف بنظرك؟"
"قسماً بربي ما خذلتني يوماً وما كنت لي سوى السند والأمان طوال حياتي" هتفت على عجل ثم واصلت:"لطالما كنت تقدر مشاعري وتحترمها زين..لقد أردت أن أكون بعيداً،أردت أن أبتعد حتى عن مهد،أرغب في البكاء بدون أن أخنق دمعاتي من أجل أحد..اريد ان اهتم بسلمى واضمد جراحها، اريد ان اعيد ترتيب أولويات حياتي زين لأنني كنت مخطئة كما يبدو"
"ألا تستطيعين فعل ذلك وانت بمنزلي؟"غمغم وقلبه يعتصر ألماً وجعاً على شقيقته التي بدت له بأضعف لحظات حياتها،لم يسمع تلك النبرة الحزينة البائسة من قبل ابداً سوى حينما توفت والدتهما وتم سجن والدهما.
"بمنزلك سأكون قريبة منه ومن مهد ومن خالتي،سأنهزم أمام دموع خالتي وأمام شوقي لمهد،لا أريد أن أنهزم زين..لا أريد أن أضعف"
إنحدرت الدموع من عينيها غزيرة وبدون توقف ولكنها لم تهتم بأن تحاول حتى ان تجفف وجهها،هي تريد أن تبكي..تبكي حتى تجف دموعها ولا يبقى سوى صوت عقلها.
"مع من تقيمين؟وأين؟وهل معك نقود؟"
توالت أسئلة زين فهو يريد أن يطمئن على شقيقته فإن كان بقاؤها بشقته سيرهقها فعلى الأقل يجب أن يعتني بها حتى وهي بعيد.
"أنا بجدة،أقيم مع صديقة لي تعمل معلمة بأحد المدارس هنا وتقيم هي وإثنين من صديقاتها بالشقة،والمنزل الذي نقيم به ملك لأحد صديقاتنا أيضاً وهي سعودية الجنسية"أخبرته سلمى محاولة أن تطمئنه قدر المستطاع.
"تحتاجين للمال بالتأكيد،كيف أرسل لكِ؟"حاول جاهداً أن ينحي إستياؤه من رغبتها في الإبتعاد فهو يقدر مشاعرها ويعرف جيداً أن وجودها هنا يعني إلحاح متواصل من خالد ووالدته.
"سأرسل لكِ رقم الحساب البنكي لصديقتي لترسل لي عليه"أجابته بدون جدال فهو بالكاد يتقبل وجودها بعيداً عنه.
"زين..لا أريد لعلاقتك أنتِ ومليكة أن تتأثر بأية طريقة بسبب ما حدث،أقسم أنها حاولت أن تجعلني أتراجع وأنتظرك أو تتصل بك لكنني رفضت،وطلبت منها أن تتعهد لي بألا تخبرك،بالرغم من أنها أخبرتني أنك لن تسامحها ولكنها رضخت لرغبتي بالنهاية" همهمت وهي ترفع يدها لتجفف الدموع التي لازالت تنحدر بلا توقف فصوت الفتيات بالرسائل الصوتية لازال يتردد بأذنيها،صوته الأجش اللاهث بالرسائل الصوتية يتكرر برأسها بدون توقف.
"نحن على ما يرام،إهتمي بسلمى كما أردتِ،أخبريها عني أنني عَهدتها قوية دائماً وأياً كان قرارها سأكون سنداً وعوناً لها"قال زين بنبرة حازمة فشعوره بإنكسار شقيقته جعله يريد أن يلكم خالد حتى يرى الدماء تنزف من وجهه فربما حينها يهدأ غضبه.
"أثق بذلك دائماً..سأتصل بك غداً"أغلقت سلمى الهاتف وألقت به بجوارها على الفراش الصغير التي تجلس بمنتصفه وتركت العنان لدموعها وذكرياتها أن تتدفق فأول خطوة بطريق إستعادة قوتها وحياتها هي أن تمنح لقلبها الفرصة للتعافي ولا تكبح آلامه.
أغمضت عينيها مع إزدياد شهقات بكاءها بينما تتراءى لها صورتهما وهي تجلس بجانبه على فراش(مرتبة)على أرض الغرفة تداعب شعره بأصابعها ثم إنحنت تقوم بتقبيله:"إستمع لي خالد وإذهب لبيع الدبلة حتى نستطيع أن ندبر أمورنا وحينما تقبض راتبك وتبدأ الظروف بالتحسن ستحضر لي غيرها"
أغمض عينيه بيأس وقنوط فإمتدت يدها لتربت على صدره وإنحنت رأسها لتمطره بقبلاتها هامسة:"سيمر..كل هذا سيمر وتصبح مجرد ذكرى"
كانت بحاجة لمواساته أكثر مما يحتاج هو فموت والدتها ووالدها لم يمض عليه الكثير والمحنة التي مرت بها من القبض على والدها لازالت تترك أثراً قاتماً بروحها،ولكن رغم ذلك كانت تعلم جيداً أن خالد بحاجة لمساندتها حتى تستقيم حياتهما فهي ترى بعمله الجديد فرصة جيدة ستحسن من وضعهما المادي ولكن ببعض الصبر فكررت مرة أخرى:"سنجتاز كل تلك الأوقات الصعبة حبيبي،يكفينا أننا معاً"
فتحت عينيها ومن بين دموعها حدقت بدبلتها التي إبتاعها لها بعد سنة من بيع الأولى ثم تمتمت:"لماذا خالد؟لماذا؟ما الذي فعلته لأستحق منك هذا؟"
عاد صوت زينة ليتردد في أذنيها:"إدمان العطاء والتضحية ليس سلوك صحي،الزواج الناجح يقوم على تبادل العطاء،فأياً من الطرفين لو إعتاد على أن يكون متلقي للإهتمام وهو محور العلاقة سيبدأ في الثبات على فكرة أن هذا أحد حقوقه المكتسبة ولن يشعر بقيمة الطرف الآخر بحياته"
دقات هاتفها جعلتها تتطلع نحوه وكأن المرأة التي تتذكر كلماتها شعرت بحاجتها لها فإتصلت:"مرحباً يا دكتورة"
"علمت من العنود أنكِ وصلتِ منذ ساعة، إستمعي لي سلمى جيداً إنني أقدر حقك في الألم والحزن...أقدر حقك في أن تحظي بوقت تبكين به سنوات عمرك الماضية ولكن يجب أن تنتفضي من بين رماد ذلك الحزن لتفكري بخطوتك القادمة،ماذا تريدين؟وكيف ستصلين إلى ما تريدينه؟جميعناً بجانبك وأياً كان ما تريدينه سنساعدك في الوصول اليه ولكن فكري جيداً بدون الحاجة لإتخاذ قرار بلحظة ضعف"
إستمعت لكلمات زينة بصمت وكل ما أستطاعت قوله:"حسناً"
تفهمت زينة حاجتها للبقاء بمفردها فهى الآن تعلم جيداً تضارب المشاعر الذي تمر به سلمى،حزن على سنوات من عمرها تشعر بأنهم ذهبوا هباء،وغيرة تشتعل بصدرها على رجل عشقته ولم تكن لسواه منذ عرف قلبها الحب،والأسوأ من كل هذا مذاق الخيانة المرير.
أغلقت هاتفها مرة أخرى وألقت برأسها على الوسادة تخنق شهقاتها ونحيبها،بالكاد تستطيع أن تصدق أن حبيبها خانها،إستهان بعشقها له،وضعت يدها على صدرها للحظة ثم بدأت تضرب بقبصتها بقوة على صدرها:"فلتتوقف عن النبض،لم يعد من تنبض لأجله يستحق..نبضاتك تؤلمني"
ظلت تضرب صدرها بضعة مرات حتى شعرت بالألم فعادت لتلقي رأسها على الوسادة ثانية فتراءت لها صورة مهد وهو يقبلها من شفتيها فرحاً بإدعاء خالد الغضب ومحاولته لأن يضع يده حتى يمنع الصغير من تقبيلها ولكنه يدفع يد والده ويعاود تقبيل شفتيها وهو يضحك عالياً.
"إشتقت إليك صغيري،سامحني لأنني إبتعدت عنك،لم أكن أريدك أن تراني ضعيفة مهزومة"همهمت لنفسها.
بمكان آخر،كان هو أيضاً يتجرع الحزن ولكن شتان ما بين أن تستحق كل ما جنته يديك بأنانيتك وعدم نضجك وما بين حزن بمذاق الخيانة بعد تضحية وإيثار وإهتمام..
فتحت والدته باب الغرفة فوجدته جالساً على حافة الفراش يضع رأسه بين راحتي يديه مطأطئ وجهه بالأرض فتمتمت:"كنت تعتقد أنها لن تكتشف؟أحمق وغبي"
رفع عينيه التي تختنق بها الدموع لينظر لوالدته ولكن بدون أن يتفوه بكلمة عاد لوضعه الأول وكأنه عاجز حتى عن الأجابة.
"الآن فقط تشعر بالندم؟أنت أناني يا خالد لم تفكر سوى بما يسعدك ولو للحظات،لم تفكر أن تلك السعادة الزائفة يمكنها أن تهدم بيتك..دائماً كان لديك قناعة أن سلمى ستغفر لك أي شيء ولكنك نسيت أنها ليست والدتك إنها زوجتك،والخيانة ذنباً لا يغتفر"واصلت بالرغم من قلبها الذي يعتصر ألماً من أجله فهي أكثر من مدركة لأهمية سلمى بحياته.
" كيف أستطاعت أن ترحل؟!لا أصدق أنها تملك القدرة على التفكير بالطلاق أيضاً!إنها حتى لم تفكر بمهد!لم تفكر بكل الحب الذي بيننا!"غمغم بنبرة منكسرة وكأنه لازال لا يستطيع إستيعاب قدرتها على فراقه.
"وهل فكرت أنت بمهد؟توقف عن جعل ولدك سيفاً مسلطاً على عنقها،وكأنها يجب أن تتحمل خيانتك لا لشيء سوى من أجل مهد..كن رجلاً وتحمل مسؤلية أفعالك وقبل كل شيء تحمل مسؤلية ولدك"أضافت ثم إلتفتت مغادرة الغرفة.
وقف وهو يشعر بحزن وإشتياق تمكن من جسده وعقله وكأنه لم يراها منذ أيام طويلة،ثم إتجه لغرفة ولده فوجده نائماً بالفراش،تمدد بجانبه بكامل ملابسه التي لم يهتم حتى بإستبدالها وعانقه بقوة بينما إنحدرت دمعة على وجنته تركها لتنساب حتى شعيرات ذقنه الخفيفة المشذبة وهمس:"ألم تخبرك ولو همساً متى ستعود؟هل أخبرتك بسرها؟أحدثتك عن عقابها إلى متى سيمتد؟بالتأكيد هي تعاقبني،هي تحبنا بل تعشقنا لطالما أخبرتني سراً أكدت عليّ ألا أخبرك به..إنها تعشقني أكثر مما تعشقك،أنا حبيب صباها وعمرها،زوجها ووالد طفلها فكيف لا تعشقني أكثر!أخبرتني أنها تعشقك لأنك قطعة مني فكيف تعشق البعض أكثر من الكل؟!"
إنزلق ليضع رأسه على الوسادة ويحيط ولده بذراعه معانقاً له:"لكنني آلمتها وبغباء صدقت أن سلمى التي تقرأ نظرات عيناي يمكنها ألا تكتشف نزواتي"
أغمض عينيه حتى يستطيع أن يرى ملامح وجهها الرقيقة الحنونة وهمس:"أحتاج لك سلمى،أشعر بالبرد يخترق عظامي ويرجف قلبي..عانقيني فلطالما كان عناقك زاد روحي وملاذها من الحزن"
بينما بمنزل زين كان قد مكث بغرفته لدقائق طويلة محاولاً أن يفكر بقرار شقيقته التي يمكن أن تتخذه،إنه يعرفها جيداً فخالد ليس مجرد زوج أو رجل تحبه،إنه حلمها الذي راقبته لحظة بلحظة حتى أصبح ملكاً لها،لم يعتقد يوماً أن سلمى يمكنها أن تملك القدرة على الرحيل والتلويح بالطلاق،هل تهدد خالد فقط أم أنها حقاً تريد إنهاء زواجهما؟يبدو أن رد فعل المرأة حينما تتألم لا يخضع لأية معرفة مسبقة بشخصيتها فها هو يجلس ولا يعرف ما الذي يمكن لشقيقته الصغرى أن تريده تحديداً،ولكنه لا يملك الآن سوى الإنتظار.
تنهد بإستياء قبل أن يقف متجهاً لغرفة المعيشة باحثاً عن مليكة ولكنه لم يجدها فإتجه نحو المطبخ وكان خاليا عاد للردهة وإتجه نحو الحمام فوجده فارغ،فضاقت عينيه وهو يحدق بباب الغرفة الصغيرة المغلق وإتجه نحوه ليفتحه فوجدها هناك ترقد بالفراش وتغطي جسدها بالكامل حتى وجهها فإقترب منها بخجل من نفسه فهو يعرف أنه إتهمها إتهام واضح بأنها لا تهتم بأمر سلمى..ليس هذا فقط بل إتهمها بالكذب.
"مليكة..مليكة"تمتم وهو يجلس بجوارها على حافة الفراش ولكنها لم تجيبه.
فرفع الغطاء من فوق رأسها وإنحنى يقوم بتقبيل جبينها:"يمكنك أن تنامي بغرفتك،التكييف هنا بحاجة إلى إعادة شحن لذا فهو لا يعمل بكفاءة"
أعادت الغطاء فوق رأسها بعناد فإمتدت يده ليغلق التكييف قائلاً بمكر:"سأنام بغرفة المعيشة،عودي لغرفتك"
ثم إستدار مغادراً الغرفة وحينما وصل للباب إلتفت نحوها مضيفاً ليستفزها:"غداً سأقوم بإصلاحه ويمكنك بعدها النوم بها إن أردتِ"
انتفضت فجأة تجلس بالفراش هاتفة بصدمة:"هل سنتخاصم حتى الغد؟!"
بالرغم من الحزن الذي يتملك من قلبه والغضب الذي يعصف به ويجعله يريد أن يذهب الآن لشقة خالد ليلكمه بعدد الدمعات التي ذرفتها شقيقته ولكن مليكته فقط قادرة على إجبار إبتسامته على الظهور حتى لو كانت تلك الإبتسامة مجرد إلتواء صغير ماكر فقط لاح على شفتيه...بتعمد لم يلتفت لها وغادر متجهاً الآريكة وألقى بجسده فوقها وهو يثق أنها ستتبعه.
تخصرت محدقة بظهره العضلي الذي يوليه لها وهتفت:"أنت يا هذا هل ستتركني غاضبة منك حتى الغد حقاً؟!"
خنق إبتسامته ولم يستدر نحوها فإمتدت يدها لتلكز كتفه العاري بأطراف أصابعها فإستدار فجأة وجذبها لتسقط فوق صدره فشهقت بقوة من المفاجأة فتراجع قليلا ليتيح لها مكاناً يجعلها نصف مستلقية على جذعه وتشددت ذراعيه من حولها:" آسف مليكتي..آسف"
توسدت كتفه قائلة:"لقد إتهمتني أنني لا أهتم بما حدث مع سلمى؟إتهمتني بمعنى مبطن أنني أنانية أريد الإستئثار بك لنفسي،إتهمتني أنني كاذبة،هل أنا سيئة من وجهة نظرك الى هذا الحد؟"
"آسف..مليكتي،أقسم أنني لم أكن أعني أياً مما قلت،فالصدمة والغضب جعلاني لا أستطيع أن أتفهم إلتزامك تجاه وعدك لصديقتك"
ربتت على وجنته بحنان وتفهم فدس أنفه بحنايا عنقها يستنشق رائحة الليمون التي يجد بها مهدئ لكل ما يؤرقه وتمتم:"أخشى على سلمى من الغرق بالحزن حتى تذبل،إنها تعشق خالد،أنا وأنتِ نعرف ذلك..لا أستطيع أن أنصحها بالعودة له،ولا أستطيع أيضاً أن أنصحها بأن تبتعد عنه"
"دعها تفعل ما تريد،فقط سنساندها بقرارها أياً كان،سلمى أقوى مما تعتقد وأقوى مما يعتقد شقيقي الغبي"
******************
ركضتا سوياً بهلع نحو الدرج فور أن إستمعتا لصوت الإرتطام المكتوم بالأعلى وكانت رابحة بالمقدمة بينما لحقت بها فضيلة وهي تسرع بقدر ما يسمح عمرها وألم ساقيها ،هرعت رابحة نحو الغرفة دافعة الباب وما أن فعلت حتى رأته على الأرض مغشياً عليه فضربت على صدرها براحة يدها وهي تشهق بصراخ:"هاشم!"
ثم ركعت على الأرض بجواره لتحمل رأسه وتضعها فوق فخذيها باللحظة التي دخلت بها فضيلة جزعة من صراخ رابحة وما أن رأت ولدها ملقى على الأرض حتى ضربت وجنتيها براحتي يديها بقوة بينما ركعت بجوار جسده الساكن وهي تهز رأسها بآسى وتنوح:"ساعة يكلمني وساعة يميل..وساعة يقول قلبي عليا تقيل..ساعة يكلمني وساعة يقع..وساعة يقول أنا إتمليت وجع"
"هاشم..هاشم"صاحت رابحة وهي تربت على وجنته بحزم قليلاً بينما غلبتها دموعها فطفت بمقلتيها وإنحدرت على وجهه.
إنتفضت فضيلة من مكانها وهي لازلت تنوح:"مالك يا وليدي تشيل عينك وتكب دموع
ياريتني حكيم ومعايا دوا الموجوع"
وصرخت من رأس الدرج:"صفية..صفية، أحضري كوب ماء محلى بالعسل(العسل الاسود)وبصلة"
عادت مسرعة لتركع مرة أخرى بجوار ولدها ثم أمسكت بيديه وإنحنت تقبلها:"لماذا يا ولدي؟لما تريد أن تحرق قلبي،ألا يكفي من فارقونا؟!"
قدمت صفية الماء لها وكادت تركع بجانبهما ولكن رابحة حدقتها بنظرة جعلتها تتراجع لتقف بمدخل الباب بينما بدأت فضيلة ترطب شفتيه بالماء المحلى بالعسل وكررت ذلك مرارا قبل أن تدق البصلة بكف يدها وتقسمها لنصفين ثم وضعتها أمام أنفه فبدأ يستعيد وعيه قليلاً ولكن فضيلة واصلت دفع الماء المحلى بالعسل بين شفتيه ليرتشف مجبراً حتى أستطاع أن يفتح عينيه ويتأملهما قليلاً قبل أن يغمغم بضعف:"أحمد غاضب مني،رفض أن يتحدث معي،أردت أن أذهب معه ولكنه تركني"
"يا لهف قلبي عليك يا ولدي!جعل الله يومي قبل يومك(المقصود هنا أن يكون يوم موتها قبل مماته)"
بوجه شاحب وعينين زائغة غائرة بمحجريها من أثر نحافته رفع عينيه لينظر بعيني رابحة التي لازالت دمعاتها تنحدر لترطب وجهها بينما الكلمات إختنقت بحلقها لوجود زوجة عمها وغمغم:"لم أستطع أن أحميكم،لم أستطع أن أدفع الأذى عن صبا،ما فائدة حياتي من عدمها؟لم أعد أرغب بشيء سوى أن ألحق بالأحبة"
أغمضت فضيلة عينيها بقوة تحاول أن تمحو أثر كلمات ولدها وحينما فتحتها حدقت بوجه ولدها الشاحب وجسده النحيل للغاية ثم رفعت عينيها نحو رابحة فتلاقت عينيهما للحظات وكأنهما تبادلا حواراً صامتاً فكلتاهما تعشقان ذلك الشاب الفاقد الرغبة بالحياة..كلا منهما على طريقتها ولكن بالنهاية غاية آملهما أن يعود لهما،أومأت رابحة برأسها إيماءة خفيفة لم تلحظها سوى فضيلة فإنتفضت من موضعها على الأرض وإتجهت لتغادر الغرفة وهي تدفع صفية أمامها حتى لا تطالها كلمات رابحة ونظراتها المحتقرة ليس مراعاة لصفية بتلك اللحظة ولكن هاشم لا يحتاج لمزيد من الأسباب ليشعر بضعفه.
هتفت فضيلة حينما وصلت لأول الدرج:"إبقي مع زوجك ولا تفارقيه"
أحنت رابحة رأسها تقوم بتقبيل جبينه وهي تضم رأسه بقوة لصدرها هامسة بقلب يختلج بالآسى والحزن:"عد لي هاشم،عد لي فأنا أموت كل يوم ألف مرة إشتياقاً لك..أشتاق لهاشم إبن عمي الذي كان يدافع عني حينما يجذبني أحمد من جديلتي،أشتاق لزوجي الذي تحمل ما لا يتحمله رجل آخر حتى لا يتسبب في فضيحتي..."
لثمت وجنته بقبلات خفيفة:"سامحني يا حشا القلب والروح،كل ما تفوهت به بذلك اليوم لم يكن سوى محض غباء وسخف،إشتقت لك فما كان مني سوى أن أنفس عن غضب إشتياقي بهرتلات"
مررت يدها على وجنته بحنو بينما كل ما أرادته أن ترفع يديها وتصفع وجنتيها حتى تدميهما،فحالة زوجها ساءت أكثر منذ إتهمته بأنه لم يثأر لها بالرغم من أنها تعلم أن الثأر لم يكن سيمثل لها سوى الفضيحة والخزي فمن سيصدق أنها عذراء ولم يستطع ذلك الحقير النيل منها..كان العار سيلحق بها وبشقيقتها وبأبناءها بعد ذلك،ستكثر الشائعات وربما تصل حد التشكيك بنسب أبنائها...إنحدرت يدها نحو صدره تضعها فوق موضع قلبه فشعرت بخفقاته الرتيبة اليائسة فهمهمت:"أنا كاذبة هاشم..كاذبة،لقد ألقيت اللوم عليك لأنك تركتني وإفترشت الأرض ليلة زواجنا ولكنني بالحقيقة ربما كنت كرهتك للأبد لو حاولت حتى لمسي.."
تلاقت نظرات عينيهما وكأنه يحاول أن يري صدق كلماتها بمقلتيها فإبتسمت له من بين دموعها وأومأت له بتأكيد لكل ما قالته قبل أن تقول:"ستطيب يا حشا القلب،وستعود ضحكتك لتضيئ حياتي وحياة أولادك"
"أنتِ لستِ بحاجة لي ولا حتى أولادي بحاجة لي،أنا أضعف من أن أكون ذو قيمة لأي أحد"تمتم بتخاذل وهو يغمض عينيه حتى لا يلاقي عينيها.
فإلتفت كلتا ذراعيها حول جسده تشدد من إحتضانها له:"لن أسمح لك بهذا هاشم،لن أفقدك..إياك أن تفكر بتلك الطريقة أبداً، جميعنا بحاجة لك"
بالأسفل إلتقطت فضيلة وشاحها الأسود من على ظهر الآريكة الخشبية وغادرت المنزل تسرع الخطى بينما لازالت تعقد وشاحها حول رأسها غير منتبهة لجارتها التي هتفت:"إلى أين يا أم هاشم؟"
لم تجيبها فضيلة فنظرت المرأة لجارتها الأخرى تقول بتحسر:"منذ أن إستشهد أحمد رحمه الله وهذه الدار إنقلب حالها،كل يومين صراخ وعويل"
أجابتها الأخرى:"هل نذهب لنرى ماذا حدث ربما هم بحاجة لمساعدة؟"
"ستطردنا رابحة كما فعلت سابقاً،تلك الفتاة الوديعة الهادئة أصبحت تصرخ ومتجهمة طوال الوقت"قالت إحداهما وهي تزم شفتيها وتلويهما يميناً ويساراً.
"حتى شقيقتها المسكينة منذ تزوجت إبن القاضي وهي محتجزة بمنزله لم ترى الطريق"أضافت الأخرى بحيرة.
"ليت الأمر إقتصر على إحتجازها لقد سمعت من الممرضة بالمستوصف أنه ضربها وسقطت من فوق الدرج"همست المرأة وكأنها تخبرها بسرٍ لا يعرفه سواها،فضربت الأخرى على صدرها بإستياء.
سارت فضيلة على الطريق غارقة بأفكارها،فولدها يضيع منها،إنها تشعر بتلك الغصة التي سبقت وفاة أحمد تعود لتحتل صدرها..تشعر وكأن الهموم تتطاحن بقلبها أيهما يغلب الآخر في النيل من قواها،ما عادت تعرف أتبكي على ولدها الذي وراه الثرى أم تبكي على ولدها الذي يريد اللحاق بشقيقه أم تبكي صغيرتها التي تكافح وحدها ضد رجل لا يعرف قلبه الرحمة،أم تبكي حال رابحة التي تعيش بدون زوج وهو أمام عينيها؟!
كانت تجر خطاها المنهزمة المنكسرة فالمحن أثقلت كاهليها والأحزان عششت بروحها الممزقة وكل بارقة أمل واهنة تضيء بحياتهم يتلاشى أثرها حينما تنظر بوجه ولدها الزاهد بالحياة...بقدر ما يسمح جسدها الهزيل المتعب أسرعت الخطى فلم يعد أمامها أي طريق تسلكه سوى اللجوء إليه متشبثة بمحاولتها أن تصدق كلماته ووعده أن هاشم سيكون بخير ويعود للحياة،لم تعد تأمن جانبه بالفعل وتخشى أن يؤذي نفسه...رفعت يدها تجفف دموعها التي تشوش رؤيتها متجاهلة نظرات النساء وصياحهن عليها:"لما تبكين يا أم هاشم؟هل أصاب هاشم مكروه"
جميعهن يتوقعن أنها على وشك فقدان هاشم ولكنها لن تسمح له بهذا،سيعود لها وسيرفع عن كاهليها الأحمال..وقفت أمام دار نرجس تلهث وهي لا تعرف إن كان مصطفى بداره بهذا الوقت أم لا،إنها حتى لم تفكر حينما غادرت دارها أنه ربما إتجه لعمله بعد أن غادر دارها ولكنها رفعت يدها لتطرق الباب ففتح لها مصطفى وهو يحدق بوجهها بدهشة للحظات قبل أن يهتف بقلق:"ماذا حدث خالتي؟"
"إنني أفقد هاشم يا مصطفى،أريد أن أستعيد ولدي..لا أريد خسارته...أعد لي ولدي بأية طريقة" هتفت وجسدها المرهق يتهاوى على الأرض لتفترشها جالسة أمام الباب بينما تفوهت نرجس من موضعها المعتاد على الآريكة:"ستطيب روح العليل يا فضيلة،ستدور الأيام وسترحل الأحزان عن دارك"
إنحنى مصطفي يمسك بيد فضيلة بين يديه:"أعدك خالتي أنني سأكون بجانبه حتى يعود معي،وإن كنتِ تريدين أنتِ أو زوجته الذهاب معنا فلا مانع،الدكتور علي إنتقل لفيلته الجديدة وأخبرني أن نقيم بشقته..لقد رتب لنا كل شيء ويمكننا أن نسافر بأقرب وقت"
رفع يده يجفف دموع المرأة التي تغضن وجهها وبدت أكبر من جدته بالعمر بالرغم من أنها أصغرها بسنوات عديدة ولكن روحها ناءت بالهموم وتكاتفت المصائب واحدة تلو الأخرى عليها فبدت أكبر عمراً:"سيكون كل شيء على ما يرام خالتي،أعدك بذلك...ولن يعرف أي أحد من أهل البلدة وجهتنا،سنقول أن الدكتور علي يحتاج هاشم لرعاية حديقة منزله الجديد وسيعمل هناك لفترة من الوقت"
"أخبروا إبن القاضي أن يستمع للصغير،فالظلم ظلمات"همهمت نرجس ولكن مصطفى كان غافلاً عن قولها ملتهياً بالمرأة التي تذرف الدموع مدرارا.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي