سرداب الخوف

Hazeem Mohameed`بقلم

  • الأعمال الأصلية

    النوع
  • 2022-04-02ضع على الرف
  • 25.3K

    جارِ التحديث(كلمات)
تم إنتاج هذا الكتاب وتوزيعه إلكترونياً بواسطة أدب كوكب
حقوق النشر محفوظة، يجب التحقيق من عدم التعدي.

الفصل الاول

الوصف"
.


الفصل الأول


الأيام الأخيرة من فصل الشتاء بلياليه الباردة على مدينة الشمال.
الفصل الذي يُودعها بتساقط حبات ثلجه الخفيفة بدلالٍ أوركيدي على بيوت وشوارع المدينة، كمقطوعة موسيقية حزينةٍ تئِن لها الروح.
أو كسقوط دمع عجوز هَرِم أبكته قساوة الحياة، ففقد الشغف على المقاومة وظلَّ حبيس بيته.
حزمٌ من نور الشمس التي استطاعت التسلُّل خلسًة إلى الأرض من تلك الغيمات الرمادية لتتسلَّل بداخلها مُحِلةً إياها، كتسلل شرخ بسيط بهدوء وخلسة في لوح زُجاج حتى يشمله مُحطمًا إياه.
أشعةُ ذهبيةُ تتجلى إلى الثلج المتساقط أعلى البيوت ورذاذ المطر المُعلق في الهواء، ليعكس ألوانًا من قوس قُزح تخجل لجمالها الأعُين، كجمال فتاة حسناء يتجلى لجمالها الحضور.
بيوت صُنِعت جُدرانها من بلور بنفسجي فتراصَّت بجوار بعضها البعض بشكل هندسي مُتقَن، يفصل بينهم البعض طُرقات ضيقة فُرِشت من حبات الثلج المتهاطلة.
شيء من الجمال والبريق يزيِّن المدينة التي اكتست باللون الأبيض البرَّاق مع أشعة الشمس الدافئة لتتحول إلى مدينة من السحر والجمال فوق جمال موقعها أعلى جبال الشمال.
مع إشراقة يوم جديد، صمتٌ تام يسيطر على أرجائها إلا بعض الأقدام التي نهضت مُبكرًا تُباشر أعمالها؛ بحثًا عن أرزاقها وعن طعام لأبنائها في ضواحيها.
هي أرضٌ لم يعرف ساكنيها سوى السعادة والسرور دون حروب، دون ظلم، تحت حُكم أميرتهم المحبَّبة إلى قلوبهم.
هدوءٌ لم يكُن سوى بداية لعاصفة من النيران تأكل الأخضر واليابس أمامها.
فلم تطل حالة الهدوء في ذاك الصباح إلا دقائق معدودة.
بعد أن انتهى ذاك الهدوء في ثوانٍ حين صدى صوت الزمجرات أرجاء المدينة ليستفيق شعبها هرعين مُهرولين وكأن ملك الموت يطرق أبوابهم واحدًا تلو الآخر ليقبض أرواحهم، فنزحوا إلى الشوارع تاركين بيوتهم بما فيها، محاولين النجاة بأرواحهم، فلا يفقه أحد منهم شيئًا عمَّا يحدث، أو حتى تحديدًا لاتجاه تلك الزمجرات التي من شدتها احتضن صداها سفوح ووديان الجبال.
ضُجَّت الشوارع بالناس غير مصدقين ما يحدث، ينظُرون إلى السماء فلا يجدون إلا ألسنة اللهب تحرق كل ما تصل إليه، وكأن الشمس تحركت من موضعِها في السماء لتهبط أرضًا، إلى مدينة الشمال تحديدًا، حارقةَ كل ما فيها.
نار لشدة حرارتها ذاب الثلج مُتحولًا إلى ماءٍ زاد من اشتعال نارها.
يهرول من لديه اللياقة البدنية فارًا من تلك النيران أما من خارت قواه فيسقط وقودًا سهلًا لها.
ألسنة لهب من كل مكان وكأنها سُلِّطت عليهم، تتبعهم حيثما ذهبوا، تبتلع كل ما تصل إليه من بشرٍ كان أو حيوان أو حتى جماد، لا شيء ينجو منها.
تلك النيران بصوتها وأصوات البيوت التي تتآكل واحدًا تلو الآخر.
صوت الزمجرات الذي صدى أفاقًا في السماء، هذا الصوت الذي يعرفونه حق المعرفة، الصوت الذي كادوا يتناسون مصدره من مرور السنوات والسنوات على غيابه عن المدينة.
بالفعل هي تنانين الأزو الضخمة تُحَلِّق في سماء المدينة كغيمٍ باللون الأحمر القاتم تجمع على المدينة ليُمطرها نارًا.
دقائق كانت معدودة كفت التنانين لحرق المدينة بكل شيء اعترض طريقها.
فصمتت زمجرات التنانين، ليحلَّ هدوء مؤقت لثوانٍ قبل أن يقطعه أحدهم صارخًا بصوته الجاعوري قائلًا:
الجميع إلى قصر الأميرة، توجَّهوا إلى القصر فاحرقوه وآتوني بجثتها محروقة بنيران الأزو هي وكل مَنْ معها.

أجابه آخر بنفس صراخه قائلًا: أوامرك تحت الطاعة جناب اللورد.

فور أن انتهى من حديثه تحركوا جميعًا خلف قائدهم عاكفين القصر الأميري، ذاك الذي يتواجد أعلى مناطق المدينة، تسكنه الأميرة كارمن.
لحظات بسيطة كانت كفيلة بولوج القصر على مرمى بصرهم.
أمرٌ جعل الفارس يصرخ مُجددًا آمرهم بحرقه وجعله حفنة من التراب.
فبين طرفة عين والأخرى تحوَّل القصر بالفعل إلى بقايا حريق دون منفعةٍ لها.

هدَّأت التنانين من سرعتها بأمرٍ من قائدهم حتى هبطوا بهدوء أرضًا؛ ليستقل اللورد هارلان عن تنينه، ويظهر بطوله الفارع وجسده القوي المشدود القامة، بشرته القمحاوية بوجهه العبث وكأنه أرضٌ صخرية لا حياة فيها، بعمر يقارب الثلاثين، مُتحدثًا إلى مُساعده بابتسامة انتصار:

_يبدو أن الأمر كان أسهل مما تصوَّرت، لا مقاومة ولا صعوبة واجهتنا في تلك المعركة، لو أعلم أن الأمر كان سينتهي بتلك السهولة لمَ أتيت بشخصي إلى هُنا.

ابتسم القائد سيلير ليُجيب:

_حتى أنا سيدي كنت أتوقع مقاومة من جيش المدينة حتى وإن كانوا ليسوا ندًا لنا، خاصة وأننا نمتلك تنين الأزو وما أدراك ما قوة بطشه سيدي، لكن تخيَّلت أن يدافعوا عن أرضهم على أقل تقدير.

تحرك اللورد هارلان بخطوات ثابتة كخطوات الملوك جهة بقايا القصر، واقفًا بشموخ واضعًا يديه في خصره ثم تحدث:

_على الرغم من أن الهجوم كان مُباغتًا، إلا أنه من ذاك الأحمق الذي يُريد أن يُلقي بنفسه إلى التهلكة في مواجهة وحشٍ كهذا التنين!
إنه الأزو يا سيلير، تنين جبل الجنوب، الذي عُرِف بقوته وضخامته التي لا مثيل لها.
ومَنْ بإمكانه مواجهة ألسنة اللهب التي يبُثها في وجه من يشاء وقتما شاء فارسه!

تحدث سيلير مُقهقهًا:
_في كلتا الحالتين هم عالِمون سيدي إن قاوموا أو لا سيلقون حتفهم لا محالة.
لكن على أي حال وفي الأخير ها قد هلكوا جميعًا.
أيضًا لديك كل الحق بشأن قوة الأزو سيدي وألسنة لهبه الحارقة، حقًا هو طائر عاصفة اللهب لا شك في ذلك.

_على أي حال لو أُتيحت لي فرصة لشُكر الأمير كيلان على شيء جيد فعله معي، فلا بد من أن أشكُره على أنه جعلني فارسًا على ظهر تنين الأزو، يا له من شرفٍ عظيم لا تُضاهيه أي مكانة، ولا يصل إليه أي طموح.
فلا مكانة أعظم من أن تكون فارسًا للتنين.

صمت للحظة ثم عاد بعينيه إلى سيلير مُكملًا :
وها أنا من بعدي أعطيتك هذا الشرف لتكن أحد فرسان الأزو العظماء.

_إنه لشرف عظيم أن تكون كُلك ثقة بي سيدي، سأظل خادمك الأوفى دائمًا.

_أعلم ذلك يا سيلير، لم يراودني للحظة شك في ولائك لي أو للأمير كيلان.
على أي حال لنُنهي هذه الأحاديث الفرعية مُهتمين بأمر قدومنا إلى هُنا، هيا ابحث عن جثمان الأميرة لنعود إلى الجنوب سريعًا قبل أن تنتصف الشمس في السماء ويشعر الملك لونجن بغيابنا.

نظر القائد سيلير إلى بقايا حريق القصر أمامه ثم تحدث على استحياءٍ:
_أوجب علينا إحضار جثمانها من وسط هذا الحُطام سيدي؟!

_إلى ماذا تُشير بحديثك سيلير؟!

_أعني أنه من المؤكد أنها لقت حتفها كبقية شعبها، فلمَ العناء في البحث تحت كل هذا الحطام!

تحدث اللورد هارلان وهو ينظر إلى الحطام أمامه:
_أوامر الأمير كيلان أن نحرق المدينة بأكملها ومن ثم نعود إليه بجثمان شقيقته يا سيلير، فما علينا سوى تنفيذ الأوامر فقط.
حتى وإن كُنت مُخالفًا لرأيه في حرق مدينة الشمال ذي، تلك التي لا مثيل لها في هذا العالم، حقًا وأجمل منها لم ترى عيني قَطْ.

_لديك كل الحق سيدي، لكن ما علينا سوى إطاعة الأوامر.

_كيف لعقل واعٍ أن يُفكر في أمرٍ كهذا؟!

القائد سيلير بابتسامة: سيادتك وأنا وجميع شعب لونجن إلا الملك يعلم ما سبب كره الأمير كيلان المفاجئ لمدينة الشمال بعد أن كانت أغلى البقاع إلى قلبه.

_اللعنة على هذا الحقد الذي يُنهي على مدينة كهذه، اللعنة على المال والسلطة.
لأنه لم يحصل على حُكمها، قرر إبادتها بهذا الشكل!
على أي حال لم يعد الأمر يهم الآن، المدينة أصبحت خاوية على عروشها، هيا تحرك بحثًا عن الجثمان لنعود مُنهين هذه المهمة.

_أوامرك سيدي.

أنهى سيلير حديثه ومن ثم أشار لجنده بالتحرك وسط هذا الحطام بحثًا عن جثة الأميرة أو قائد جيش المدينة أو أي من حرس القصر، إلا أن عملية البحث تحت أنقاض القصر طالت دون جدوى في العثور على شيء.
فقط الجثث المتواجدة هي لبعض خدم القصر، وليس الجميع حتى.
استمر البحث وقتًا طويلًا حتى أن من طوله ظهرت علامات القلق والتوتر على وجه كلًا من هارلان وسيلير.
جثة الأميرة غير متواجدة، لا هي ولا أي من حراس أو جنود القصر.
أمرٌ سبب قلقًا ظهر جليًا على ملامح اللورد هارلان بنظراته بين اللحظة والأخرى إلى سيلير وباقي الجنود الذين يبحثون عن الأميرة أو جثمانها لكن دون أي جدوى.

بادله سيلير نفس نظرات التعجب والتوتر مما يحدث فـ اقترب بهدوء متحدثًا:

_سيدي لا شيء، كما ترى بعينيك، بحثنا في كل مكان لكن لا أثر لجثمان الأميرة، ماذا نفعل؟!

بدت علامات التمعُض واضحة على ملامح اللورد فتحرك وسط الحطام صارخًا:
_ابحثوا في كل مكان أيها الحمقى، لا بد وأن تعثروا عليها مهما كلَّفكم الأمر.

تحدث سيلير بصوتٍ ظهر عليه الخوف:
_لكن سيدي بحثنا في كل مكان ولم نجد شيئًا، لا بد وأن النار قد أحرقتها جميعًا كلها ولم تُبقي على شيء فيها.

استدار اللورد هارلان ناظرًا إلى سيلير بعينين يقدحان شرارًا قائلًا: وهل يا أحمق النار قد حرقت جنود القصر أيضًا!
أين جثة قائد جيش المدينة ومعاونيه؟!
أين جثث حُراس القصر؟!
أين كل هذا؟!
فقط من كان هُنا هم بعض الخدم، فـ بربك كيف تفسر ذلك!

صمت القائد سيلير مُنكسًا برأسه للأسفل، لا يعلم ما الذي يمكنه قوله، لا إجابات على أسئلة اللورد إلا الصمت التام من اللسان، وضجيج مُروع في العقل الذي بدأ يذهب بخياله إلى مدينة الجنوب.
ماذا لو عادوا إلى الأمير دون جثمان الأميرة!
عقلُ يعلم العاقبة التي ستحدث إن عادوا خاليين الوِفاض، فلن يقل الأمر عن وضعهم جميعًا في السجن، هذا وإن لم يقم بفصل رؤوسهم عن أجسادهم.

ران على كل منهما صمتٌ لم يطل حتى أنهاه اللورد هارلان قائلًا:

_ابحثوا في كل مكان عنهم جميعًا، يبدو وأنهم قد علموا بقدومنا، أرسل تنين أو اثنين يستطلعان الجبال والوديان من حولنا، وأيضًا القرى المجاورة للمدينة.
إن كانوا قد فروا هاربين بالفعل فمن المؤكد أنهم لن يبتعدوا كثيرًا عن المكان، هيا اغرب عن وجهي في الحال منفذًا ما أُمرت به.

_أوامرك سيدي.

أنهى جملته ومن ثم اتجه إلى اثنين من فرسان التنانين آمرهم بأن يستطلعوا سفوح ودروب الجبال من حول المدينة وأيضًا القرى بحثًا عن الأميرة ومَنْ معها.

أما عن اللورد هارلان فانتصب موضعه في صمتٍ تام وثباتٍ وكأن على رأسه الطير يقف، لا يعلم كيف سينجو من هذا المأزق الذي وُضِع فيه.
كيف وإن عاد إلى الأمير دون جثمان شقيقته!
حتمًا ستكون هي نهايته حتى وإن كان مِن أخلص رجاله.
ولكن كيف عرفت بأنهم قادمون؟!
وإن هربت حقًا فإلى أي مكان ستتجه!
عقل يكاد ينفجر من كثرة ما يدور به بلا توقف، أفكار تأتي وأخرى تغادر، عقل يُزيد من تقدير العواقب التي تنتظره، وخيال لا يكف عن المبالغة في تضخيم الأمور.

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

لن تقدر على المُقاومة في الحياة دون أن يأخذ بيدك رفيقٌ.
يكن لك عونًا في الشدائد وإن كثُرت.
يكُن لك ساترًا من حديدٍ يحجب عنك الجميع في لحظات ضعفك.
يكُن لك أول بسمة وعون في فرحك.
فلا حياة تتلوَّن بالسعادة دون شريك حتى وإن تواجد في ظروف طغى عليها الحزن.
فحتى الحزن يكن له مذاقًا ورونقًا آخر بتواجد قلب يحبك ويُعينك على ما أنت به.

أمسك اللورد روبرت بشُعلة من النار في يده اليُسرى تُعينه على إضاءة الطريق أمامه، متشبثًا يده الأخرى بيد الأميرة بشيء من اللين مُحاولًا الإسراع، رغم علمه بصعوبة الأمر عليها، نظر إليها بعطف ثم تحدث:

_هيا سيدتي، علينا الإسراع في الحركة وإلا سقطنا أسرى تحت أيديهم.

توقفت تلك المُدللة موضعها بعد أن ظهر على ملامحها التعب والإعياء من كثرة ما ركضته.
ملامحها الهادئة المُنيرة كضي القمر تُجزم أنها لم تفعل مثل هذا المجهود الشاق طوال حياتها.

"الأميرة كارمن" أميرة مملكة الشمال، صاحبة الاثنين والعشرين ربيعًا، ذي البشرة البيضاء كصفاء الحليب، بقامة متوسطة الطول، عينين سوداوين كظلام الليل الهادئ، بـشعر فضي يصل إلى منتصف ظهرها.
فستانها الأزرق الملكي المُزيَّن بحبات الكريستال التي لمع بريقها وسط الظلام اللذان يتواجدان به.
يتوسط خٍصرها حزام من الذهب الخالص.

استندت بكفيها على ركبتيها بالكاد تستطيع التقاط أنفاسها، تحدثت بصوتٍ مُجهد قائلة:

_لم أعد قادرة على المواصلة يا روبرت، نال مني التعب ما ناله.
أرجوك لنسترح قليلًا.

تحدث ذو البِنية الجسدية القوية الذي يقف أمامها بهيئته المهيبة تلك.
لمَ لا وهو قائد جيش مدينة الشمال وأشهر مقاتليها ومقاتلي ممالك "لونجن" بأكملها.
شاب في عمر الخامسة والعشرين تقريبًا، أبيض اللون، شديد المنكبين، ذو بنية جسدية قوية لحُكم تدريباته القاسية كقائد الجيش.
لحية بُنية هادئة، شعرُ طويل بنفس لون لحيته، عُرِف عنه صرامته في القتال والحرب، بعكس لينه مع أصدقائه، أفضل من يُجيد استخدام السيف في المدينة والمملكة بأكملها.

تحدث بهدوء:

_لكن علينا أن نُغادر سيدتي، من المؤكد أنهم الآن قد لاحظوا أننا لسنا في القصر بعد أن أحرقوه وأحرقوا المدينة، لن يتأخروا للحظة في البحث عنَّا في كل ربوعها أو في دروب الجبال، علينا الابتعاد إلى أقصى مسافة ممكنة.


استقامت الأميرة كارمن فتساقط من عينيها دمعة غلبتها.
دمعة سقطت لتُعزيها في قصرها ومدينتها، في شعبها الذي تم حرقه بشكلٍ بشع.
تُعزيها في عالَمهم دون أن يقترف أي منهم ذنبًا لكل ما حدث له.
تحدثت بصوتها الباكي قائلة:

_اللعنة، اللعنة على كل هذا، اللعنة على الحُكم، اللعنة على العرش، اللعنة على السلطة، اللعنة على الطمع والجشع اللذين يعميان صاحبيهما فيسير في الأرض مختالًا فخورًا هكذا.
اللذان ما إذا أصابا شخصَ يجعلاه يُطيح في الأرض فسادًا بلا رحمة أو شفقة لحال من يأذيهم.
اللعنة على تنانين الأزو التي أحرقت شعبي ومدينتي.
اللعنة على هذا الدمار والخراب يا روبرت.

اقترب اللورد روبرت ليمسح بكفيه حبات الدمع تلك التي تسللت من عينيها بأسى فقال:

_كيف أواسيكِ ولستُ قِبل بتحمل ما حدث!
كيف أخبركِ أن لا تحزني وقلبي ينفطر حُزنًا وأسى على كل ما حدث!
ولكن إن ظللنا نبكي على ما فات، فسنظل أسرى ماضينا دون تقدم.
سيمُر حاضرنا دون جديد ويأتي مُستقبلنا على هامش ما مضى، لا بد من أن نُنهي تفكيرنا فيما مضى مُنذ اللحظة التي انتهى فيها آخذين منه عبرة، وأن نبدأ بالتفكير فيما قادم أيضًا آخذين فيه الحذر.

رفعت الأميرة كارمن رأسها إلى أعلى، حتى التقت عيناهما بعضهما البعض، وكأنه كروح نسر ضامم قلبها بجناحيه، طائرًا به إلى حد الأمان.

_لكني لم أعد قادرة على المواصلة، ولا أعلم حتى إلى أين تتجه، ضاق صدري من هذا السرداب الذي لا ينتهي وكأن لا آخر له.

أجاب بابتسامة هادئة وكأنه يحاول أن يزرع في قلبها شيئًا من الهدوء بعد كل ما حدث خلال الساعات الماضية.

_أعلم سمو الأميرة أن الأمر ليس بالشيء الهيِّن، وأن كل ما حدث لم يكن في حسبانك أو حسبان حتى الملك، لكني كنت أتوقعه من البداية، كنت على يقين أنه بين اللحظة والأخرى سيقرر الأمير كيلان الاستيلاء على المدينة بأي شكل كان.
لذلك قررت إنشاء هذا السرداب منذ عامين ليكن مهربًا لنا إن ساءت الأمور.
سرداب يأتي من أسفل القصر الملكي مؤديًا إلى أحد بيوت القرية المجاورة.
لكن الأمر الذي لم يأتي بحسباني أبدًا هو تنين الأزو اللعين، لم أتخيل يومًا أن يكون هو السلاح الذي سيفتك بالمدينة.

تحدثت الأميرة كارمن بأسى:

_كل ما يحدث من تدبير كيلان، يريد مُلك المدينة، لكن هذا الغبي جعلها حطامًا.
لو لم يأتي جوردن ويُخبرنا بما ينوي كيلان فِعله لكنَّا مع باقي سكان المدينة محروقين.

_ليت طمع كيلان يقتصر على مدينة الشمال فقط سمو الأميرة.
ليته يكتفي بهذا فقط وأن ما يدور برأسي مجرد خرافات.
أما عن جوردن فنحن مدينون له بحياتنا، على أي حال لم يعد أمامنا الكثير حتى نصل إلى نهاية السرداب.
هو ينتظرنا بصحبة لورا والجنود الناجون من هذا الهجوم الغاشم، لا بد من أن نتحرك الآن.

_وما الذي يجول برأسك!

_هي أفكار، مجرد أفكار فقط لكن لندع تلك الأفكار جانبًا الآن ونتحرك مُغادرين هذا المكان أولًا.

_لا أعلم، ولا أدري إن كان الأمر سيكون أسوأ مما نحن فيه الآن أم لا، لكن صدقني لم أعد قادرة على السير.

ابتسم روبرت ثم استدار أمامها وتحدث:

_اصعدي على ظهري، سأحملكِ حتى نصل إلى نهاية السرداب.

نظرت له بعينين جاحظتين قائلة: أأنت جاد فيما تقول!
كيف لقائد الجيش أن يحمل شخصًا على ظهره!

تحدث بهدوء دون أن يلتفت لها قائلًا: ومَنْ غير سمو الأميرة يُحمَل!
فإن ضاقت بها الأرض، اتسع لها قلبي، وإن خذلتها قدماها، ناصرها ظهري.
ومن غير سموك يُحمل، وإن انقلب عليها دمُها، أسندُها سيفي!
هيا سيدتي الوقت يمُر.

احمرت وجنتاها كأن الدماء حُبس بهما، فتحركت على خجلٍ لتصعد على ظهره مُسندةً برأسها على كتفه، مُتشبثةً بيديها حول عنقه دون أن تتفوَّه بشفا كلمة واحدة، كأن لسانها تجمد في فمها فثقُلت كلماته.

تحرك اللورد روبرت مُكملًا الطريق إلى الخارج، حاملًا الأميرة على ظهره.

ران عليهما صمتٌ من الحديث بالألسن، ضجيجٌ من الكلمات بالقلب.

تحمحمت الأميرة كارمن ثم تحدثت: أحملي ثقيلٌ عليك!

ابتسم روبرت ثم أجاب وهو يكمل طريقه: أي ثُقل سيدتي!
أشعر وكأني أحمل على ظهري عصفُورَ لا وزن له، لكن أتعلمين ما الذي يُزعجني في الأمر!

الأميرة كارمن: ماذا؟!

أجاب ضاحكًا: فستانُكِ سمو الأميرة، أكاد أتعثر فيه.

ابتسمت الأميرة كارمن متحدثة: هكذا يكون زي الأميرات، دائمًا ما يكون طويلًا إلى حد المُبالغة، أعتذر إن كان يؤذيك.

_أمزح فقط سيدتي، كل شيء يخصكِ فهو على الأقل مفضلٌ لي.
ها نحن قد اقتربنا من نهاية السرداب.

_أخيرًا، كاد نفسي ينقطع من قلة الهواء هُنا، لكن إلى أين ستتجه بعد ذلك؟!

_سنتحرك قاصدين جنوب ممالك لونجن، إلى والدكِ جلالة الملك.

تحركت الأميرة كارمن لتهبط بهدوء من أعلى ظهره واقفة أمامه بشيء من الصدمة، وكأنها ما زالت لا تعي ما تحدَّث به، أجابت بشيء من عدم الفهم:

_مدينة الجنوب!
وما الذي سنفعله هُنالك؟!

_علينا مُقابلة الملك.

_لكن إن رآنا كيلان لن يتردَّد في أن يقتُلنا بلا شك.

_لا بد من أن نُطلِع الملك على كل ما حدث حتى يضع حدًا إلى ما يفعله كيلان، أعلم أن الأمر مُخاطرة في مقامه الأول، لكن لا بد من ذلك، لا بُد من أن يعلم كل ما يحدث.

تحركت الأميرة كارمن مُبتعدة، قائلة: أأنت واثقٌ مما تنوي فعله!
فكيف لوالدي أن يصدقنا وأنت تعلم مدى حبه لأخي وميله إلى صفه دائمًا؟!

روبرت: لا طريقة أخرى، معنا جوردن هو الشاهد الوحيد على الأمير كيلان، يجب أن يخبر الملك بكل ما يحدث، بالتأكيد سيصدق الملك.
هم بانتظارنا بالخارج، سنتجه إلى النهر ومنه نُبحِر إلى مدينة الجنوب.
هو طريقنا الوحيد للوصول إلى الجنوب، أتمنى أن لا ينتبه الأمير إليه حتى لا ينقطع طريق وصولنا إلى المَلك نهائيًا.

تحدثت الأميرة كارمن بأسف: لا أعلم ما الذي يمكن فعله، عقلي واقف عن التفكير وكأن عُطلًا ما أصابه، لكن ما أعلمه جيدًا أني أثق بك وبقراراتك أيًا كانت، فافعل ما تراه صوابًا.

ابتسم روبرت متحدثًا: شكرًا سمو الأميرة على هذه الثقة العظيمة.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي