الفصل الثالث

(صاحب الكهف)

نظر خليل بصدمة ناحية الماء خوفاً من ان يختفي هو الآخر، مشى بخطوات مهزوزة ناحيته، وصل اخيرا امامه ومد يده ليغترف منه ولكن فجأة اختفى الماء بشكل عجب، وكأنه لم يكن.

رآى امله الوحيد في النجاة يختفي، يتلاشى امام ناظريه.
ضرب بيده على الارض، ضربة مهزوزة ضعيفة لا تكاد تؤذي نملة، فليس له من القوة ما يقيم صلبه حتى.
"ستموت لا محاله" هذا ما قاله العجوز المقيت خلفه، التفت وعيون الغضب اشتعلت داخله، من هذا العجوز! ولم يهزأ به!؟

ثم رأى ما جعله يجفل، ان العجوز المسن له اقدام ماعز، نظر له بصدمة، فقال العجوز: اجل ما تفكر فيه صحيح.
انه جني! اخذ خطوتين الى الخلف.
كان الجني لغاية في نفسه يحاول اثارة غضب خليل، ينظر له بتسلية ويرسل له ابتسامات مثيرة للإشمئزاز ويستفزه، وقد أوصل خليل الى اعلى مستويات الغضب حين قال له: انت بشري ضعيف، ستموت هنا وحيدا بسبب حاجتك للماء، ولن يجد احد جثتك الهالكة التي ستمحوها الرمال وتبتلعها، وحتى والدتك لن تتمكن من دفنك.
اشتعل خليل غضباً واخرج خنجره ورغم ضعفه ووهنه الا انه ركض متعثرا بالرمال ناحية الجني.
كان الجن ضعفاء امام الخناجر وقواهم تتقيد بوجودها، وهذا ما يعلمه خليل جيداً.

مرت نظرة نصر في عيني الجني فقد اوصل خليل الى ما يريد وهو اخراج خنجره المخبأ تحت ثيابه، والذي كان يحميه من ان يقترب منه الجان!

هجم خليل على الجني، وبدأ الجني في مناورته، وكان يحاول ان يجعل خليل يتحرك كثيرا ليفقد ما تبقى له من قوى.

خليل الآن في حالة غير طبيعية فقد سيطر عليه اليأس والغضب على حد السواء، بدأ يحاول اصابة الجني بالخنجر ويدور حول نفسه وهو رافع خنجره امامه ويضرب به الجني.
ولكن كان للجني سرعة رهيبة ففي كل مرة يضرب فيها بالخنجر يختفي الجن بلمح البصر!
تهالك خليل ارضاً على ركبتيه وقد خارت قواه نهائيا، بدأ يلهث وقد ضعف نبضه وتصبب جبينه بالعرق، وهذا لم يعجب الجني فالخنجر مزال في قبضة خليل ولا يستطيع الاقتراب منه بسببه.
وعلى حين غرة ضرب خليل الجني بالخنجر، كانت ضربة ضعيفة واهنة من بشري على حافة الموت.

سقط خليل ارضاً لا يحرك ساكناً، احرق الخنجر الفضي كتف الجني وسقط بدوره من الالم.

فضربة خنجر كفيلة بجعل جني يلقى حتفه.
واطلق الجني صوتا غريبا جعل العشرات من الجان يخرجون ويصبحون مرئيون أمام ناظري خليل الذي كان يصارع لإبقاء عينيه مفتوحه.
ظن انه يرى اهوال قبض الروح، مخلوقات عجيبة ظهرت أمامه.
قال احدهم: اسرعو وانقلوا القائد الى المملكة، فضربة الخنجر الفضي ستقتله!
وجاء صوت يبدو لخليل وكأنه امام وجهه بالتمام فهمساته تلفح وجهه وهو يقول: اعتقد اننا فشلنا والبشري قد فارق الحياة!


وفي مكان آخر كان هناك عصبة من الفتية قد ضاعوا في دهاليز الصحراء المقفرة. ليس امامهم اي دلالة على اي طريق او اشارة انما بحر من الرماا الذهبية ممتد امتداد النظر اين ما التفتوا

ليس معهم زاد، وقد اضلوا طريقهم بعد ان تركوا صديق لهم يلقى حتفه وحيدا في قلب تلك الصحراء المسكونة.
كان نوفل يقود السيارة وقد اعياه التعب، فيومان من القيادة بلا هدى قد ارهقته، كلما سلكوا طريق كانت وكأن الارض تطوى وتمتد تحتهم لتقودهم حيث تشاء.
هو يعلم انه العقاب بسبب غدره بخليل.

لقد بدأ مؤشر البنزين بالاشارة، وقد تقطعت بهم السبل. صحيح انهم لم يعودوا يسمعون شيئا من تلك الاصوات المرعبة ولكن الجوع والعطش قد تمكنا منهم. هم فاقدون للأمل بائسون جداً.

ها قد مرت سويعات اخرى ولا امل ويبدو ان السيارة قد توقفت اخيراً بسبب البنزين.
ترجلوا من السيارة وبدأوا السير على الاقدام ، مشو مسافات طويلة حتى اخيراً تراءت لهم طريق معبدة امامهم، نظروا إلى بعضهم غير مصدقين، ثم ركضوا مسرعين. كانت الطريق خالية تماما من اي سيارة او وسيلة نقل، ولكن خروجهم من الصحراء كان بمثابة البحث من جديد بالنسبة اليهم، ولن يستسلموا الآن!

ها هي سيارة قادمة من بعيد، تسرب الامل الى قلوبهم، وبدأو يلوحون لها بإيديهم ويطلقون اصوات التصفير ويتنططون حتى يلفتوا نظر السائق، ولكنه كان مسرعاً جدا فتجاوزهم، يئسوا واحبطوا واحدهم يلعن والاخر يركل الحصى بقدمه.
ولكن السائق كان قد عاد اليهم وما ان اوقف السيارة حتى انقضوا على سيارته يقولون: ماء، ارجوك ماء جرعة ماء.
اشفق عليهم الرجل الاربعيني كثيرا انهم مجرد اطفال مراهقون بين الخامسة عشر والسادسة عشر من اعمارهم.
ناولهم قنينة الماء التي لديه، بدأو بالشرب كل يأخذها من فم الآخر، حتى اذ ارتوو وعادت الحياة تدب في اوصالهم، سألوه ان يقلهم الى القرية، اخبرهم ان قريتهم بعيدة جدا عن هنا، ولكنه سيفعل.

قصّو عليه قصتهم ولكن لم يخبروه بأمر خليل.
كان يبدوا عليهم الفزع والرعب وان ماشَهِدوه لم يكن بالامر الهين.
واخيراً، بدأت تترأى امامهم القرى، كان قد اخبرهم انهم يستطيعون التوقف لتناول الطعام ان شاءو، ولكنهم اصروا على العودة مباشرة إلى قريتهم ومنازلهم.

كان الوقت هوا ما بعد الظهيرة، وعلياء جالسة في منزلها الذي تتوالى عليه نساء القرية لمؤازتها ومساندتها في محنتها، وكذلك باقي الامهات الذين ابنائهم مع خليل.
ولكن مصاب علياء اشد، فهي تعلم ان ابنها مستهدف من عشائر الجن وانه لن يعود، لا أمل!

فوضت امرها الى الله وجلست صابرة محتسبة في منزلها، ثم جاءت ابنتها زهراء راكضةً وتنادي: ماما، ماما لقد عاد نوفل والفتية ولكن خليل ليس معهم.

فقدت احدى دقات قلبها، وثم اسندت نفسها تقاوم الصدمة وانطلقت مسرعة نحوى ساحة القرية.
هذه المرة كل من شاهدها تقترب افسح لها المجال لتعبر بينهم، حتى وصلت الى حيث الفتية الثلاث، وما ان رآها نوفل حتى انكس رأسه الى الاسفل.
كان اهالي الفتية يحيطون بهم، وايضا زوجها عدنان.

نظرت اليهم، الى ثيابهم الممزقة، الى شعرهم المشعث ووجوههم المتربة واقدامهم الحافية بعضها.

اقتربت وقالت بضعف: اين ابني يانوفل؟ اين خليل؟
التفت عنها ولم يستطع النظر في عينيها فقالت: هل تركتموه في تلك الصحراء لتأكله الذئاب، ليخطفه الجان!
لم يجيبو فبدأت تصرخ عليهم: اين ابني؟ لم هو ليس معكم يانوفل؟ اجيبوني.
امسكها زوجها في حضنه وقلبه يتمزق فقد اخبره نوفل بم حدث وان خليل قرر التضحية بنفسه من اجل اصدقائه وقرر البقاء هناك.
ولكن كيف سيخبر زوجته بذلك!
حاول ادخالها الى المنزل ولكن ولم تقبل وقالت له انها لن تدخل حتى تعلم ما حدث الى ابنها وما اصابه!

قص عليها الفتية بإرتباك قصتهم وهم يخفون العديد من الحقائق.
قالت علياء: انتم تكذبون، لم سيود خليل دخول الصحراء من الاساس! لابد انكم انتم من اجبرتموه.
هو يعلم انه لا يجب عليه الولوج إلى الصحراء ابدا.

تحدث اخيرا والد نوفل وقال: ماذا تقصدين هل تقولين ان ابنائنا اجبرو ابنك على الذهاب الى الصحراء ورموه فيها!؟
الا ترين انهم كادوا يلقون حتفهم مثل ابنك لولا اعجوبة اخرجتهم!؟

عدنان: ان زوجتي لم تقصد ذلك وانما مصابنا كبير وارجوا ان تعذرونا الآن.
عاد عدنان بزوجته الى المنزل واقفل الباب لا يريد زيارات اخرى من الجيران.
ثم اخذ هاتفه واتصل بمسؤول التدريبات العسكرية حيث يقوم عمر بالخدمة العسكرية، وبعد عدة دقائق من الانتظار حيث اخبره محدثه انه سيقوم بأخذ الهاتف الى عمر، جاء صوت عمر قلق ومتوتر فهو لم يعتد ان يتصل به والده هنا في المعسكر، لابد انه امر ملح ما جعله يتصل!
عمر: مرحبا ابي، كيف حال الجميع؟
عدنان: اهلا بني، بخير.
ثم صمت قليلا وتنهد قائلا، او ربما ليس بخير! لا اعلم ما سأقول ولكن.......
عمر: ولكن ماذا يا ابي؟ ما الذي يحدث؟
حاول عدنانان يكون متماسكا وقال: انه اخوك عمر لقد دخل الى الصحراء بصحبة بعض الفتية، ولكن لم يعد!
عمر بصدمة قال: ماذا؟ ولكن اين كنت انت وامي؟
عدنان: كنا في حفل زفاف وائل ابن خالك.
عمر: ولماذا يدخل الى الصحراء في الاساس؟ يا إلهي لا اصدق انه فعل رغم كل التحذيرات!
عدنان: لا اعلم يا بني، ولكن عليك المجيء لنبحث عليه في الصحراء.
عمر: كم ساعة هو مختفٍ؟
عدنان: منذ يومان.
عمر بصدمة ظهرت في صوته: ماذا؟ يومان!؟ ولكن لما لم تخبرني؟ يومان ضائع في الصحراء ادعوا الله ان يكون مازال على قيد الحياة.
ادمعت عيني عدنان ونظر ناحية زوجته الهادئة بشكل مريب وابتعد عنها بضع خطوات حتى لا تستمع إلى الحديث.
عدنان: الفتية الذين معه قد عادو اليوم.
عمر: من كان معه؟
عدنان: نوفل وعصبته.
عمر بغيظ: حسنا ابي سآتي فوراً وسنبحث عنه.
عمر: كيف حال والدتي؟
عدنان: خذ تحدث معها. وناول الهاتف الى زوجته.

خليل؛

فتحت عيناي ببطء شديد، لم اكن اقوى على فتحهما، كنت اشعر بجسدي وكأنه هلام ولا اقوى على التحكم فيه.

رمشت عدة مرات محاولاً التكيف مع الضوء، وما ان تحسنت الرؤيا حتى وجدت رجلا طويلا ويبدو عليه القوة والصلابة يقف أمامي.
جلست بقوةٍ مندفعاً، وقلت: من انت؟ واين انا؟
ابتسم الرجل ابتسامة وكأنها البدر، كان شديد الجمال، خليط من الرجولة والقوة والجمال!

قال الرجل: لا تقلق انت في مأمن.
قلت بحزن: لقد كنت على وشك الموت، شكراً لك على انقاذ حياتي. ولكن ماذا حدث انا لا اذكر شيئا!؟
الرجل: انت مازلت ضعيف، خذ تناول هذا الطعام وبعدها سنتحدث!
الولوج إلى عالم مغاير يفقد المرء قواه، وانا لم اكن اعلم ذلك حينها، بل كنت اعتقد انها من تأثيرات نقص الماء والغذاء!
كان الطعام شهي وانا اتضور جوعاً، لدرجة اني لم اتوقف ولو لثانية لأتأكد لو كنت يجب ان آكل ام عليا ان لا اثق في الرجل!
شرعت في الاكل ثم قلت له: تعال كل معي فالطعام كثير وهو شهي جداً.
التمعت عيني الرجل ثم قال: لا، شكراً لك، لست جائع.
كنا فيما يبدوا انه كهف، ولكن الغريب انني مستلقٍ على سرير! والطعام يبدو مُعَداً حديثاً وليس طعاما معلبا!
بعد ان انتهيت من طعامي اخذ مني ما تبقى وخرج به خارج الكهف.
حاولت النهوض لألحق به خارجاً ولكن قدماي كانتا لا تستجيبان! كنت اشعر بهم بشكل طبيعي ولكن لا استطيع الوقوف!
عاد الى الداخل وقال لي: لا تحاول الوقوف مايزال مبكراً فأنت لا تزال ضعيف.
لم اشعر بالراحة لكلمة ضعيف، فنحن سكان الصحراء نعتبر هذه الكلمة كسباب لنا، وقد لاحظت انه قالها بم يشبه الاستهزاء!
قلت: لا احب هذه الكلمة "ضعيف"! انا لست ضعيف.
قال بجدية: لا لست ضعيف، ولكن عد للنوم الآن لتستجمع قواك بسرعة.
كنت سأتحدث ولكن الغريب انني غططت في النوم ما ان انهى جملته!

بعد بضع ساعات حسب ما اعتقد افقت من النوم وجدت الرجل يصلي ويتلوا القرآن بصوت جميل هادئ.
انتظرت حتى انهى صلاته وقلت: صوتك جميل في التلاوة.
فقال بصوته الهادئ: هذا فضل من عند الله.
وخرج ثم عاد بصينية اخرى من الطعام وقال: كُلْ.
كنت سأرفض ولكن رائحة الطعام كانت شد لذيذة فلم اقاوم وبدأت بالاكل بنهم وقلت له ان ينضم الي، ولكنه قال انه غير جائع!

ومر الوقت هكذا، استيقظ لآكل او اقضي حاجتي ومن ثم انام مجددا، لا اعلم كم من الوقت قد مر وانا على هذه الحالة.

واما الآن بعد ان انتهيت من الطعام قلت له وانا انظر حولي: هل تعيش هنا؟ لا اعتقد انه لايزال هناك بشر يعيشون في الكهوف!
نظر لي مبتسماً بتسلية فأنا لم اكن اعلم انه كان يرى ما لا أراه!
قال: وهل ابدوا لك من سكان الكهوف!؟
نظرت له كان شعره مرتبا ولحيته مستوية وثيابه نظيفه وجميلة عبارة عن سروال وقميص ابيضين وحذاء نظيف.
هيئة لا تدل مطلقا انه يعيش في كهف بل العكس تماما!
قلت بفضول وتساؤل: هل هناك رجل يلبس مثل هذه الثياب في كهف!؟ ثيابك البيضاء ستصبح سوداء بحلول المساء!

قال: دعك مني، الا تريد ان تستحم لتشرع في صلاتك!
قلت: اجل ولكن لا استطيع الوقوف!
- حاول مجددا، ستقف ان شاء الله.
وفعلا عندما وقفت استطعت السير، صحيح انني كنت اشعر ببعض الدوار ولكن الحمد لله بدأت استعيد قوتي.
وجدت انه قد جهز لي دلو ماء لكي استحم به، خرج هو من الكهف وقال انه سيكون في الجوار، وطلب مني ما ان اكمل حتى اخبره.

استحممت وتوضأت للصلاة، وبعد ان انتهيت خرجت لأسأله عن الوقت فأي صلاة هي الآن.

خرجت من الكهف لينقبض قلبي عندما نظرت الى كل ما حولي بعيون مذهولة ومصدومة، لقد كان الكهف في قلب هذه الصحراء، في ذلك الجبل الاسود المرعب، انني مازلت في وسط الكابوس، مازلت في قلب الصحراء.

وانا اتلفت حولي برعب ويأس ومشاعر مختطلة لا استطيع وصفها، وجدته واقف امامي ينظر الي بتركيز شديد، ثم قال: تبدوا مصدوماً.
تجاهلت نظراته وقلت: هل لديك سيارة لتقلني الى قريتي؟
ولكنه حرك رأسه نفياً. فقلت صارخا بغضب: مأسمك يا هذا؟ انت لم تشرح لي شيئا لم انا هنا!؟

قال بصوت هادئ وواثق تماما عمس صوتي وحالتي التي انا فيهر: اهدأ يا خليل، انا لا اريد ان أؤذيك، واسمي هو شمهورش.
رمشت عدة مرات مصدوم وقلت: شمهورش!
- اجل! والآن لنذهب ونصلي.

لم اتحدث اكثر ولحقته.
بدأنا بالصلاة وكان هو يأم بنا، لقد اخبرني انها صلاة العصر.

وبعد ان اكملنا الصلاة جلسنا نذكر الله كثيراً ونقرأ ما شاء الله من القرآن.

عندما تغشاك الاكاذيب ولا تكاد تميز الحقائق تأكد انك قد ضللت الطريق، ولكن في المقابل عندما تبدأ الوجوه تنكشف وتظهر حقيقتها وان كانت بشعة قذرة؛ تأكد من انك في الطريق الصحيح.

فالحقائق قد تكون بشعة في اغلب الاحيان، فهل من بشري يُظهر حقيقته للغير كاملة!
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي