الفصل الثاني

بعد مرور اسبوعٍ ومنذ آخر لقاءٍ بينهم هبط نادر درجات سلم منزله وهو يحكم لف ساعته السوداء على معصمه جيدًا، نظر أمامه متحدثًا بهدوء بعدما رأى طاولة الافطار معدة وجاهزة:
-تناولوا فطوركم أنتم لا أريد.

خرجت تنهيدةٌ صغيرةٌ من أحد الجالسين قبل أن يخرج صوته متحدثًا بهدوء:
-ما بكَ نادر لم تعد تتناول فطورك كالسابق ما الأمر؟!، ثم إنه وقتنا الذي نراكَ به.

تقدم منها نادر بخطى هادئة لينحني بجذعه يضع قبلةً على رأسها:
-لا تقلقي "قوت" أنا بخير، فقط ضغوط العمل وانتِ تعلمين ذلك.

ثم نظر للفتاة التي تجلس أمام قوت ليتوجه اليها بإبتسامة طابعًا قبلةً على جبينها قبل أن يتحدث بمشاكسة:
-وانتِ ايضًا "ملك" لا تنظري هكذا أنا عادلٌ في توزيع القبلاتِ بين زوجاتي، هيّا لا تعبسي.

ضحكت ملك ذات التسعة وعشرين ربيعًا بخفةٍ لتضع خصلاتها الصفراء القصيرة خلف اذنها ناظرةً إليه برويةٍ قبل أن تتحدث بهدوء:
-لا انزعج نادر وانتَ تعلم ذلك، ثم إنّ قوت بمثابة شقيقتي الكبيرة وليست ضرتي وعدوتي أنا أحبها وأنتَ تعلم ذلك.

ابتسم نادر وقوت معًا بهدوءٍ محببٍ إلى النفس ليجلس نادر مترأسًا المائدة من أجلهم فقط، نعم يعلم أنه كان منشغلًا عنهم الأسبوع المنصرم ومن حقهم كزوجاته أن يجلس معهم ولو لبضعةِ دقائق،

أمسك بشطيرته بين يديه بعدما قامت قوت بلفها له فابتسم لها بمودةٍ مما جعلها تبادله بهدوء، بدأ بتناولها ببطء ولكنه شرد قليلًا،

لا يعلم كيف ظهرت رويني بابتسامتها الخجلة أمامه الآن وغمازاتها الغائرة وكم أراد بشدةٍ أن يغوص كغواصٍ يكتشف البحار ويضيع فيهم، طوال سنوات حياته لم يرى كتلك الغمازات خاصتها،


لقد كان جاهدًا كل الجهد بأن يخرجها من مخيلته طوال الاسبوع لكنه الآن يثبت أنه فشل بجدارةٍ كبيرة، إنها مزيجٌ بين الطفولة والانوثة المحببةُ لقلبه،

أخرجه من شروده صوت قوت وهي تضع يدها على كفه، أجل تعلم أن هناك فتاةً تشغل عقله وتفكيره، إنها زوجته الأولى والتي تصغره بعامٍ واحدٍ فقط بالإضافة الى أنه ابن عمها وصديق طفولتها،

تحدثت بإبتسامةٍ هادئة ملازمةً لها كهدوء وجهها ذو الثلاثة والثلاثون عامًا:
-ضع تفكيركَ جانبًا وتناول فطورك نادر كل شيء وله حل.

ابتسم لها بصدقٍ فقد علم أنها تأكدت بما يشعر به ليبدأ بتناول الفطور بصمتٍ تام وهو يبعد رويني تلك الفتاة التي احتلت تفكيره.


دلفت رويني إلى صالة المنزل وهي تضع آخر دبوسٍ في حجابها الوردي مخاطبة آمال بعجلةٍ كبيرة:
-أمي، كيف أبدو؟، وهل ثيابي مرتبة أم اقوم بتبديلها؟.

نظرت لها آمال بتفحصٍ بعد أن أغلقت مصحفها ثم طالعت ثياب رويني المكونة من حذاءٍ وردي وفستانٍ أسود بحقيبتها الوردية الصغيرة الموضوعة على جانبها وبها خطًا اسودًا من الاعلى بحجابها الوردي اسفله ببندانةٍ سوداء:
-لا، انه مرتب تبارك الرحمن فقط وجهك شاحب بعض الشيء هل يؤلمك شيء؟.

امسكت رويني حقيبتها تفتحها فليلًا كي يتسنى لها أن تضع هاتفها بداخلها:
-لا اعلم، لكن إن أسفل معدتي يؤلمني مثل كل مرة، أخشى أنني لن أكمل يومي،

ثم دبت بقدميها الأرض بتذمر تكمل حديثها:
-أوفت، ثم إنني لا أريد الذهاب للشركة أرغب بالجلوس بجانبكِ حبيبتي وآكل معك بعض المسلياتِ، ما رأيك؟.

هزت آمال رأسها بقلة حيلة من تفكير ابنتها وتذمرها الدائم:
-اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرًا منها، اذهبي لدوامكِ رويني وتوكـ..

قاطعتها رويني بصدمة مصطنعة قبل أن تكمل حديثها:
-هل انا مصيبةٌ امي؟، حسنًا فلتنجبي ابنة غيري بارةً بكِ وسوف أرحل ولن اعود.

ثم تابعت بدراما متقنةً صوت البكاء جيدًا فمن لا يعرفها في التمثيل، إنها بارعة كممثلة متمكنة:
-اربط على قلبي يا الله فليس لي اهل يقدروا هذه النعمة التي مننتَ عليهم بها يبدو انهم احضروني من أقرب مسجد و أشفقوا عليّ.

ضحكت آمال بخفةٍ من الدراما التي تفتعلها ابنتها لتخاطبها بقلب امٍ حنون:
-هداكِ الله لما يحب ويرضى، اذهبي لدوامكِ ولا تنسي أن تأخذي معكِ المال الزائد لتتناولي فطوركِ هناك، لا تجعلي معدتكِ فارغة طوال اليوم كـ كل مرةٍ تفعلينها.

ابتسمت رويني بحب لامها و استعادت جديتها:
-حسنًا أمي اعدكِ بأن أتناول شيئًا هذا اليوم.

نظرت اليها آمال بعدم تصديق ترفع حاجبها بسخرية:-
-ي كل مرةٍ تقولين هذا رويني ثم تأتين لي في نهاية اليوم بمعدةٍ فارغة، حتى طعام الافطار الذي احضّره لكِ لا تتناولينه، لقد احترت معكِ يا فتاة.

ضربت رويني على صدرها بخفة وهي تنظر لها بتأكيد:
-قلتُ لكِ وعد امي، سوف أذهب الان قبل ان اتأخر ويقوم الدكتور حسام بسؤالي عن سبب التأخير فهو لا يحب ذلك ونبدأ وصلةً من البكاء والاحراج اللا منتهيان خاصةً عندما يلفظ اسمي بشكلٍ خاطئ.

ابتسمت آمال وهي تراقب انصراف ابنتها لتخاطبها بهدوء:
-استودعكِ الله الذي لا تضيع ودائعه حبيبتي، انتبهي لنفسكِ واقرئي اذكاركِ رويني .

اجابتها الاخرى قبل ان تغلق الباب:
-حسنًا امي، في امان الله حبيبتي.


جلست نور أمام والدتها متحدثةً بهدوء وهي تنظر لها ببعض اللامبالاة:
-كما سمعتِ امي سوف يتزوج الاسبوع القادم ،فقد أخبرني بالأمس انه ومنذ فترة بعلاقة مع أحدهم وسوف يرتبط بها.

ابتلعت "سماح" ريقها بتوجسٍ من هدوء ابنتها وعدم مبالاتها:
-وما هو رأيكِ نور؟!.

ابتسمت نور بانكسار كبير وقد أخرجت تنهيدةً مثقلة تعبر عما بداخلها:
-سوف احضر زفافه وان سنحت لي الفرصة ان ارقص سوف افعل، بالمناسبة انا حامل في شهري الثالث لقد اكتشفت ذلك بالأمس قبل مجيئي الى هنا.

نظرت سماح بصدمةٍ لابنتها فحقًا هذه ليست نور ابنتها التي تجلس أمامها، تعلم أن علاقتها بزوجها سيئة ومازالت كذلك وهي مستمرة معه من اجل ابنائها الثلاثة،

لكن أن تكون موافقة على زواجه من أخرى فهذا لا تتقبله أي فتاة في العالم، حاولت الابتسام في وجهها وعدم التحدث في الأمر بناءً على طلب نور بعدم التدخل في علاقاتها مع زوجها:
-بارك لكِ حبيبتي واتمنى ان يتمم الله لكِ حملكِ على خير.

تنهدت نور بقوةٍ كبيرة لتنظر الى "مهدي" طفلها ذو الخمس سنوات ببعض الحزن قبل أن تخاطب والدتها:
-لقد طلب بالأمس من والده طائرة ورقية، أتعلمين ماذا قال له؟.

اجابتها سماح بنفي لتتابع نور بإستهزاءٍ كبير وألمٌ بادٍ في صوتها:
-اذهب لجدك في قبره واجعله يشتري لك، فهو الذي زوجني والدتكَ الخرقاء هذه.

تحدثت سماح بندمٍ متذكره أحداث زواج ابنتها نور:
-لو انني كنت أعلم أنه لا يريدكِ يا نور لما زوجتكِ اياه، لقد علم والدكِ بعد انجابكِ لمحمد انه كان يريدني أنا وليس أنتِ

ابتسمت نور بحزن ومرارةٌ تحرق حلقها:
-في كل مرةٍ يقول لي لم اكن اريدكِ ولولا الاطفال لطلقتكِ وأكملت حياتي بدونك.

لتتابع بسخرية كبيرة ولا تعلم هل تبكي أم تصبر:
-قال شيخٍ قال، لا يعلم في الشرع والدين سوى التعدد، رحمك َالله والدي
عشت ومت طيبًا لو أنني أعلم هذا لبقيت في بيته وبجانبه لكنه رحل وتركنا.

تحدثت سماح لتغير مجرى الحديث وهي ترى الحزن جلي في صوت ابنتها، فما تعيشه ابنتها لا تتحمله أي فتاة:
-ماذا كنتُ سأقول، لقد اتصلت آمال بالأمس قبل مجيئكِ وأخبرتني أنها ستأتي اليوم.

ابتسمت نور بسعادة وقد نسيت ما تشعر به، فعلمها بقدوم آمال سيجعلها تتناسى بعض ما هو بها من حزن، ولربما تساعدها وتنصحها:
-حقًا، هذا جيد اذًا سوف أبقى اليوم أيضًا لن اذهب لبيتي اللعين ذاك.

تقدمت "هبة" ذو التسعة أعوام من نور متحدثة برجاء:
-أمي، أمي ارجوكِ دعي رويني تأتي مع خالتي آمال لم تكمل القصة لي منذ آخر مرة.

اومأت لها بهدوء وهي تبتسم لها مملسة على خصلاتها السوداء:
-حسنًا سوف اخبرها بذلك، والآن اذهبي والعبي مع اخوتكِ ريثما أقوم بإعداد الإفطار لكم.

اعتدلت نور متوجهةٌ نحو المطبخ تعد الافطار لأولادها ووالدتها علّها تغير من تفكيرها الذي يحتلها .


اغلق نادر جهاز حاسوبه فاركًا جبينه بصداعٍ كبير، لقد ازداد لشرب القهوة الأسبوع المنصرم أكثر من الكمية التي كان يشربها من قبل،

نظر لبرهةٍ الى آلة القهوة متخيلًا رويني تقوم بصنعها له خصيصًا كالمرة السابقة وعلامات الجدية والانغماس باديةٍ عليها،

تنهد بقوةٍ واضعًا رأسه بين كفيه ليخرجه من حالته هذه صوت وصول اشعار رسالةٍ على هاتفه،

فتحه بعدم مبالاة ليرمش بعدم تصديق وسرعان ما تهللت اساريره وكأنه فاز بكأس العالم،

عبث به قليلًا يجيب الطرف الآخر بنفس الرسالة ثم فتح الحاسوب مرةً اخرى يبحث عن مراده المنشود ليبدأ بالمراقبة بعيون متفحصة وسعيدة.

على الجهة الأخرى دلفت رويني باب الشركة بقلبٍ منقبض لتخاطب جمال ببعض الضيق:
-أجل عمي لقد وصلت الآن، واحضرت الملف والذاكرة معي لا تقلق، لكن ارجوك لا تتأخر.

اجابها جمال من خلف الهاتف وهو يجهز نفسه جيدًا بينما يمسك ببعض الملفات بين يديه:
-حسنًا رويني لن اتأخر سوف انهي الترافع في القضية وآتي، هيّا انه ينتظركِ في مكتبه لقد أرسل لي رسالة لتوه بعد أن أرسلت له واخبرته انكِ قادمة، سوف اغلق الآن لأن الجلسة سوف تبدأ.

اغلقت رويني وهي تحدث نفسها بغضبٍ نافخةً وجنتيها بقوة:
سامحكَ الله عمي لماذا لم تخبرني منذ الصباح أنك لن تأتي،

ثم نظرت للملف الذي بين يديها باستياءٍ واضح:
-ألهذا أعطيتني اياه بالأمس؟.

قلبت عينها مكملةً صعود السلم وما زالت تحدث نفسها:
-أوفت سوف أقابل المتغطرس مرةً اخرى ولوحدي!، ما هذا يا الله.

اغمضت عينيها عندما شعرت بألم حاد اسفل معدتها لتتوقف عن السير قليلًا حتى لا يزداد الألم ضاغطة على اسنانها بقوة متحدثة برجاء:
-ارجوكَ يا الله ليس الآن.

حاولت أخذ نفسًا عميقًا بعدها أكملت صعودها لأعلى بهدوءٍ وحذر متجنبة استخدام المصعد كي لا تحدث أي خلوة بينها وبين أي موظفٍ في الشركة.

نظرت أمامها بتعجب عاقدة بين حاجبيها عندما استوقفها صوت غريب:
-هل أنتِ الاستاذة رويني ابنة اخ الاستاذ جمال؟.

نظرت اليه باستفهامٍ لتتماسك بعد ازدياد الالم عليها لكنها حاولت أن تبدو طبيعية
-أجل!.

حمحم بصوته وقد ظهرت السعادة فيه لجيبها باسمًا:
-انا الاستاذ يزن وزميل الاستاذ جمال في العمل هنا.

هزت برأسها وكأنها ترحب به متجنبة النظر اليه خاصةً لعينيه الخضراء مما جعله يكمل بتساؤل:
-لماذا لم يأتي الأستاذ جمال اليوم؟.

ضغطت على عينيها نصف ضغطة لتجيبه بصوت جاهدت لإخراجه طبيعيًا:
-لديه جلسة في المحكمة وسيأتي بعد أن ينهي الترافع بها.

أومأ بهدوءٍ متفهمًا لينظر إليها مسترسلًا الحديث ناظرًا للملف الذي بيدها:
-هل اتيت من اجل تسليم الملف؟.

اومأت بألم وهي تدعو الله بأن يبتعد من طريقها حتى تكمل سيرها، او على الأقل أن يتوقف الألم ليلاحظ هو ذلك:
-ما الامر يا انسة هل انتِ بخير؟!.

حاولت التماسك بقوةٍ بعد اشتداد الألم أسفل معدتها لتومئ بالإيجاب دون النظر إليه، حاولت تخطيه بعدما تحاملت على نفسها متوجه للأعلى فلم يبقى سوى القليل للوصول الى الطابق المتواجد به مكتب نادر.

اخرجت صرخةً بصوت مكتوم نوعًا ما عندما فعلت ذلك وصعدت درجة واحدة منحنية بظهرها تمسك اسفل معدتها بألمٍ كبير،

لقد تمكن منها الألم وكأن أحدهم يضع خناجر اسفل رحمها يوصلهم الى معدتها ثم يخرجهم بقوة من رحمها، بدأت دموعها بالسقوط عندما تيقنت من حالتها هذه التي لا محالة منها.

اقترب منها يزن لتوقفه واضعةً يدها امامه متحدثة بصوتٍ ضعيف راجي:
-لا تقترب، ارجوك.

حاولت الاعتدال بظهرها لكن؛ سحقًا بدأت الخناجر تزداد انغراسًا بها دون رحمةً وقد تكالبت على آلامها،

وضعت كفها على فمها و دون شعورٍ منها قامت بعض نفسها جراء ما تشعر به، اقترب يزن منها وقد وقف بجانبها كي يساعدها لكن صوت شخصٍ غاضب جعله يتراجع للخلف طواعيةً والذي وصل لتوه بعد أن كان يراقبها منذ دلوفها للشركة:
-ابتعد عنها ولا تقترب منها.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي