الفصل الرابع

قالت (كارين) وبصوت مبحوح يعتريه الحزن:
-لماذا تأخرت؟ أسرع يا (ديفيد) أرجوك فما حدث لها الآن يختلف عن كل ما حدث لها بالمرات السابقة.

-أنا خائفة جدًا عليها.

تابعت كلامها قائلةً:
-إنها بغرفتها يا (ديفيد) لا أعلم ما الذي يجري؟ لقد كنت أتحدث إليها ثم قامت وتركتني دون أي تعليق منها على حديثي كأنها تمشي نائمة،

لقد تبعتها لغرفتها لكنها دخلت إلها وما إن لحقتها لأدخل ورائها حتى اُقْفِلَ الباب بوجهي كأن شخصًا آخر كان معها بالغرفة.

-لقد حاولت مرارًا الدخول إليها لكنَّ باب غرفتها كان موصدًا وبإحكام، والآن تخرج رائحة كبريتية من غرفتها ملأت أجواء المنزل كله فأسرع يا (ديفيد).

-لقد كنت أريد أن أتصل بالشرطة لكني أعلم أن لا سلطة لها ها هنا.

دخل (ديفيد) والدمع بعينيه، فمشاعره مختلطة لا يدري أيبكي أم يتماسك.

ترك (ديفيد) (كارين) الباكية عند باب الحديقة.

ثم دخل مسرعًا للمنزل ليدفع الباب الخشبي بقوةِ، لتظهر له الزينة المعلقة للاحتفال بعيد الميلاد.

وشجرة الأرز المزينة بأجمل الألوان، والهدايا المزينة بعناية التي وضعت بحرص تحت شجرة الميلاد.

لم يهتم (ديفيد) لأي شيء من كل هذا.

حتى أنه كاد أن يتعثر بالطاولة الخشبية الصغيرة الموضوعة بجوار السلم الخشبي رغم علمه تمامًا بمكان كل شيء بالمنزل.

تدارك (ديفيد) نفسه قبل أن يقع مستندًا إلى سور السلم، وبسرعة صعد الدرج وهو يكاد يختنق من انقطاع أنفاسه المتسارعة.

فالعجوز يأخذ أنفاسه بصعوبة بالغة، فلا تعلم السبب الحقيقي وراء تعبه أكان قلقه الشديد على (ماريت) أم بسبب كبر سنه وهِرَمِه.

وصل العجوز إلى الطابق العلوي وأنفاسه تتعالى، ولسبب غير معروف أخذ يصرخ ويردد "لا هذا مستحيل."

وقعت عيناه على المرآة البلورية القديمة المعلقة فوق المدفأة، وهو يردد لن أتركك.

كأنه قد رأى فيها شبحًا، ثم تناول (ديفيد) بيده عمود المدفأة الحديدي المثبت إلى جانبها.

وقام بضربها بأقصى ما أوتي من قوة لتتهشم على الأرض الرخامية للمنزل، ثم ركض متمايلًا من شدة التعب ليصل إلى غرفة (ماريت) المتواجدة في آخر الرواق.

وهو ينادي بصوت مبحوح:
-(ماريت) أنا هنا يا حبيبتي.

لم يقدر العجوز (ديفيد) أن يفتح باب غرفتها، وعلى عكس (كارين) استطاع (ديفيد) أن يستمع للهمسات التي تصدر من داخل غرفتها.

حاول أن يتمالك نفسه لكي يفكر بطريقة لفتح الباب دون أن يتسبب بأذية (ماريت)؛ فهو الآن لا يعلم حقيقة الكائن المتواجد معها بالغرفة الآن.

وماهي إلا لحظات حتى خطر بباله أن يستخدم طريقة قد تعلمها من والده وهو صغير.

أخرج من جيبه قلمًا وأخذ يرسم به على باب غرفتها دائرة، ورسم بمنتصفها عين كبيرة.

أحاطها برموز غريبة وهو يردد:
-بحجر الدم أناديك (ماريت).

وأخذ يهمس بصوت يكاد لا يسمع حتى انفتح باب الغرفة، ليتفاجأ (ديفيد) بمشهد لم يكن ليتخيله أبدًا.

(ماريت) تطفو بمنتصف غرفتها المظلمة واقفةً في دائرة رسمت على الأرض بأحجار حمراء.

نقش حولها خمسة رموز لم يعرف منها (ديفيد) سوي رمز واحد.

وهو رمز (الدورانيين).

(ماريت) البالغة من العمر الثامنة عشر ربيعًا تحول شكلها تمامًا فلقد إِبْيَضَّ شعرها الطويل صار كلون الثلوج المتساقطة خارج البيت، وبشرتها صارت كالألماس المصقول؛ وعيناها صارتا باللون الأحمر الدموي.

وظهرت على بشرتها الألماسية اللامعة نقوش كأنها طلاسم ورموز تتوهج كأنها نار مستعرة.

هي الآن تطفو فوق الأرض وكأنما انعدمت الجاذبية لتطفو هي بهذا الشكل العجيب.

تصدر من (ماريت) همهمات وكلمات بلغة غير مفهومة لكن (ديفيد) يعلم جيدًا أنها الآن بصورتها الغير بشرية.

"لكن تحولها هذا غريب عن تحول كل الهامسين من قبلها."

"أيعقل أنهم سيطروا عليها لتبدو بهذا المظهر المختلف؟"

"أم أنها بالفعل مختلفة عن الجميع؟"

أسئلة كثيرة وردت إلى فكر (ديفيد) في تلك اللحظة دون أي إجابات شافية لما يراه الآن.

يتبع...

...
العودة إلى زمن الماضي والدا (ديفيد).
...

-لم تكن (إليز) تصدق ما تراه!.

لقد رأت في العلبة المزخرفة ما رأته بحلمها تمامًا.

نظرت إلى زوجها (كريس) قائلةً:
-(عزيزي) أهذه مزحة؟ كيف لك أن تحضر لي شيئًا قد رأيته في حلمي؟.

والأكثر غرابةً أنني لم أخبرك عن حلمي هذا بالأساس!
لقد أصبح الأمر بالفعل غريبًا جدًا!"

قاطعها (كريس) قائلًا:
-هذه محض صدفة يا حبيبتي، هيا أخبريني الآن أأحببتها؟.
-لقد جلبتها من تاجر النوادر بالهند السيد (دانيال).

قالت وصوتها يحمل كل معاني الدهشة!.

-أجل إنه (دانيال) تاجر النوادر أعرفه جيدًا، فهو صديق لوالدي منذ زمن.

أكملت كلامها قائلةً:
-صدفة شديدة الغرابة لكنها في غاية الروعة يا حبي."

حملت القلادة الفضية وتمعنت النظر بها يا إلهي! حقًا هو ذاته نفس النقش الغريب!.

تركتها حاملةً القلادة الخضراء، تأملتها لتُمْعِنَ النظر بها فهي بالفعل صورة طبق الأصل من تلك التي قد رأتها بمنامها.

أخذت تتفحصهما لمدة من الزمن وتتأمل جمال التفاصيل بكلتيهما وهي تقول:
-ما أجملهما!.
-كأنما صُنِعَتَا بيد الجان من شدة الدقة بهما.

أكملت كلماتها قائلةً:
-فلا أظن أن هناك بشريًا يستطيع أن يصنع تحفةً بهذا القدر العالي من الجمال والدقة.

نظر إليها (كريس) وقال بكل حزم وقوة:
-(إليز) حافظي على تلك القلائد جيدًا فهي مهمة جدًا ولا تقدر بثمن يا عزيزتي.
.........

تقدم أحداث الماضي بعد مولد (ديفيد)، وبعد مرور عشرة أعوام على مولد (ديفيد).

السيد (كريس) يجلس في حديقة منزله على كرسيه الهزاز، وهو يرتدي قميصًا صيفيًا لونه يميل للون الأزرق وبنطالًا أسود اللون وقد نسق معهما حذاءً جلديًا أضفي على مظهره الأناقة الفاخرة.

تناول السيد (كريس) جريدته، ثم ارتدى نظارته ليقرأ جريدته الصباحية كعادته.

أمامه طاولة زجاجية صغيرة وُضعت عليها علبة للسجائر الفاخرة، وإلى جوارها وضع كوب من القهوة الساخنة تتصاعد منه الأبخرة لسخونته.

تجلس في المقعد المقابل له (إليز) التي ترتدي فستانًا ورديًا قصيرًا نقشت عليه زخرفة صغيرة أضفت على مظهره جمالًا ناعمًا يعبر عن أناقتها في اختيار ما تلبسه.

ارتدت مع الفستان الحريري حذاءً بنفس لونه الوردي الزاهي يبدو من مظهرها أنها تختار كل شيء بعناية بالغة.

في يدها بعض الخيوط الصوفية والإبر.

يبدو أنها تحيك سترة شتوية لابنهما (ديفيد) وذلك بمناسبة عيد مولده العاشر.

على مقربة منهما (ديفيد) الصغير وعلى غرار والديه لقد ارتدى قميصًا أبيض اللون ذا ياقة حمراء، وبنطالًا بنفس لون ياقة القميص.

مرتديًا عليهما حذاءً أبيض اللون ليظهر أن (ديفيد) قد ورث منهما نفس الذوق الرفيع بالاختيارات.

يجلس (ديفيد) ليرسم رسوماته المميزة التي اعتاد أن يرسمها كل يوم.

فهو طفل موهوب منذ طفولته ولقد تفوق على أقرانه بالمدرسة مظهرًا ذكاءً غير معتاد لمن هو في مثل سنه الصغير.

بعد أن أنهي (ديفيد) رسوماته اتجه ناحية والديه وهو يقول: "أبي أمي أنظرا ما رسمت أليس جميلًا؟"

ابتسمت (إليز) وقالت:
-ما هذا الشيء يا عزيزي (ديفيد)؟.
-رسماتك تزداد غرابة كل يوم.

انتبه السيد (كريس) لكلماتها حيث أنزل الجريدة على الطاولة التي أمامه وهو ينزع نظارته ليضعها فوق الجريدة.

ليري ما قد رسمه (ديفيد) لتتغير ملامح وجهه وقد بدى مذهولًا...

فهو لم يتوقع أبدًا من ابنه الصغير أن يكون قد وصل لتلك المرحلة من تحوله المبكر.

تساءل (كريس) أيمكن أن يكون ولدي (ديفيد) هو الطفل المنشود من النبوءة القديمة؟.

...يتبع
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي