الفصل الثاني

.
استيقظ "يوسف " بعد سويعات قليلة من النوم،  صباح يوم جديد يقوده الشغف، أطل من نافذة غرفته المشرفة على الحدائق، وها هي الأفق تتفتح في نفسه ترتدي ثوبها الأول، تخطو بعض الخطوات إلى مطلعها،  أمامها جمُ من الأشعة المضيئة تسبقها، والسحب تطل بثوب أحمر يقتم بدايته ويقل تدريجيًا مع تقدمه بألوان ذاهبة للعقل، وهنا قد بلغ يوسف بالطبيعة الربانية هذه مبلغ الراحة للزهن، والعزم على بداية جديدة، وأحداث زاهلة.

ارتدى حلته الرسمية ومن ثم استقل سيارته قاصدًا المشفى، لطالع آخر أخبار مصطفى الصحية، أخبره الطبيب أن الحالة ما زالت كما هي، تلتقط أنفاسها بواسطة الأجهزة، جسده خارجيًا يتجاوب مع الأدوية، ولكن ما يشق علينا علاجه أن قلبه مصاب بقصور في الشريان التاجي، يلزم التدخل الجراحي.

أردف من دون أن يستنزف وهلةً في التفكير:

- وماذا تنتظر؟ عليك بالتدخل في الحال، نجى من الموت بعد سقوطه من هذا الارتفاع وسنتركه يموت لهذا السبب! افعل ما تتطلبه منك مهنتك في الحال، وما يتوجب عليك فعله، أخبرتك أنني أريده أن يستعيد وعيه في أقرب وقت، هو شغلك الشاغل من الآن فصاعدًا، هذه أوامر، لا تلبية رجاء.

الطبيب بتوتر يكسو ملامحه:

- هناك مخاطرة بحياته يا سيد يوسف، هو فعليًا لا يستجيب مع منشطات القلب العادية، ولا يتجاوب قطعًا مع أدوية السيولة، لا بد من التدخل الجراحي نعلم ذلك، ولكن المريض نفسه زاهدًا العيش، يأبى التجاوب معنا.

عصر جفليه يتمالك أعصابه حتى لا يزرف نهاية ما تبقى لديه من صبر:

- أنا لا أفهم أو بالأحرى لا أثق بهذه التقارير الحسية، شاب لديه قصور بالقلب يلزمه التدخل الجراحي عليك بهذا في أقرب وقت، أكره العبث بحديث الحس كثيرًا، قُل ما يدور بخاطرك، هناك مغزى من حديثك أعلم ذلك.

حدثه الطبيب على الفور ما دام قد فهم مقصده:

-المصاب حالته تتطلب اللجوء نفسيًا إلى معالج، وهذا قد يتطلب بعضًا من الوقت في شفائه، ولكن سيعود بالإيجاب على صحته تدريجيًا، وهكذا يمكننا التدخل الجراحي ونحن على مأمن من هذا.

ـ تستلذ بإعادة الكَرة من جديد، وتعلق فشلك المهني وترددك بالمجازفة على معالج نفسي، حسنًا، اليوم تكون أنهيت هذا الأمر، وعثرت على الأفضل لمعالجته.

أومأ الطبيب مردفًا بمقت من جفاء حديثه:

- حسنًا،سأفعل ما طلبته مني في الحال.

_أنا ذاهب الآن، وأتكل عليك في الإهتمام لأمره وكافة شئونه.
ثم تابع حديثه بنبرة تلتمس السكينة بينهم رغم ما يجول بخاطره من عواصف فكرية:

- اسمع مني، أثق بك وبأصول وبأمنتك جيدًا، وأعلم حد اليقين أنك لن تهمل حالته، هذا الشاب البالي ضحية تستحق العون من قلوب ما زالت تنبض بالرحمة، تفهم مقصدي بالتأكيد؟

- نعم، حالته تفسر ذلك دون عناء أو جهد للتفكير، وأعدك بتحري اللازم حياله.

_ حسنًا، سأذهب الآن، لدي بعض الأعمال المهمة سأنجزها وسأعود ثانيةً، وإذا جد عليه أمر أخبرني في الحال.

-حسنًا، تفضل.

تركه وخرج من المشفى، ومن ثم بوجهته إلى منزل إبراهيم على الفور، وما كانت إلّا مسافة الطريق ووصل إلى المنزل.

ابتسامة ثقة جلت ملامح وجه إبراهيم أثناء رؤيته يقف على بابه من بكرة الصباح مردفًا بترحاب لرؤيته:

- أهلاً بك يا رفيقنا المحقق، أنرت المنزل بوجودك، وأضفت إليه السمو والأثر المميز.

ابتسم بودٍ مردفًا باحترام وهو يسحب يده ليقبلها:

- المنزل منير ببركة وجودك يا جدي، كيف حالك الأن؟ ناجيت الله اليوم في صلاتي أن يديم عليك صحتك ودهاء عقلك.

ـ أنا بخير بعد رؤيتك، مشكور يا ولدي، غمرني لطفك حقًا، أشعر وكأن مصطفى هو من يقف أمامي.
كيف حاله الأن؟ هل سيعود إلى المنزل اليوم أم ماذا؟

ـ تجلى الأسىٰ ملامحه متمتمًا بأسف:

ـ الحقيقة يا جدي أن مصطفى سيلجأ إلى معالجة نفسية تدوم لفترة لا نعلم مدى استمرارها، وممنوع عليه الآن الزيارات والتعاملات الخارجية، أخبرتك بالصدق حتى يهدأ قلبك، ولا تقلق حياله أكثر.

ـ عن أي اطمئنان أو هدوء يا ولدي تخبرني، أصبحت أكثر قلقًا عليه الأن، لا يسمح الأطباء لي بلقياه لو لمرة واحدة فقط؟ أنا سأطالعه من بعيد، لن أرهقه أقسم لك بهذا.

ربت على عاتقه مغمغمًا بهدوء:

- أعدك، أعدك أنني سأصحبك إليه قريبًا، قريبًا جدا يا جدي.

ثم أردف مغيرًا مجرىٰ الحديث،بثًا بداخله عشمًا زائداً، لمغزى سيكشف قريبًا:

ـ ألديكم فطور هنا أم ماذا؟ جئت للتو من منزلي إليك دون تناول فطوري، ومعدتي تصرخ جوعًا الأن.

ابتسم إبراهيم وهو يجوب بالمنزل مستنداً على عصاته بخطى متأرجحه وهو يقول:

- لا طبعًا يا ولدي، لدينا من أنعم الله لا تعد ولا تحصى، عسى أن تليق بمقامك، دقائق ويكون الفطور أمامك على الفور، استرح هنا وأنا سأعده بنفسي.

وما إن دلف للداخل أخذ يجوب المنزل بنظراته الثاقبة، ومن ثم دلف إلى المطبخ لمساعدة إبراهيم، فهو لن يجلس مبجلاً ويقوم عجوز كاهل بخدمته، لا تربيته ولا أخلاقه تحثه على ذلك.

انتفض إبراهيم فور سماع صوته يأتيه من خلفه قائلاً:

-جئت لمساعدتك يا جدي، لا أطيق الجلسة بالخارج وأنت تعد الطعام من أجلي، أعتذر منك أيضًا إن أزعجك تصرفي.

أجابه إبراهيم سريعًا:

ـ لا لا يا ولدي، لا داعي لتعبك ، أنا أفعل ذلك بكل ترحاب وسعة صدر، استرح أنت بمكانك، لم يتبقى سوى القليل.

ـ حسنًا يا جدي، هل لي بكوب من الماء البارد فضلاً؟

ـ نعم، سأجلبه لك في الحال.

نظر يوسف سريعًا صوب محط أنظاره على الثلاجة وتقدم هو وفتحها بنفسه مردفًا:

ـ اسمح لي بهذا يا جدي أنا سأجلب الماء لنفسي، وأنت أكمل ما بين يديك.

تمتم إبراهيم ممتنًا لزوقه ولطف حديثه:

- العفو منك يا ولدي، المنزل بمثابة منزلك، تفضل بالتأكيد.

جلب يوسف أنينة الماء ومن ثم سأله عن عمر قائلاً:

ـ أين هو حفيدك، لم أره منذ أن وصلت إلى هنا.

حدثه ومحط أنظاره لم تتحول إنشًا عما بيده:

- عمر ذهب لجامعته منذ البكور، أخبرتك قمنا بزيارة لأهلنا بالصعيد استغرقت أكثر من أسبوع، وقد أضاع عليه بعض من الدروس المهمة ذهب باكرًا للاستعلام عنها، ومن بعد سيحضر محاضراته ويأتي في الثانية.

صمت لبرهة وتمتم بحزن جليّ:

- كيف له بأن يتهمك بعدم الاهتمام لأمره، أو تفقد شؤنه وأنت تعلم خط سيره بالكامل؟

التفت ليلتقي بملامحه الماقتة مردفًا:

-لا عليك يا ولدي، هو ما زال طائش بعقل طفل مهما شاب هيئته، أو بلغ من الرشد مبلغه، وأنا لا أغضب منه ولا من جفائه أبدًا، توفى والده وهو صغير سن أربعة سنوات، وأودعه أمانة عندي، وأوصاني بحسن معاملته، فأصبح محور حياتي، يزعم أنني لا أحبه ولكن كل ما أفعله بالحياة من أجل تأمينه بعد موتي، سيعلم بذلك في الوقت المناسب أنا أعلم.

- فعلت الكثير، أليس كذلك؟

تاه الجد في كلمته مغمغمًا بصوت هادئ:

- ما لا يخطر على بال بشر، ويشق العقل استيعابه.

رفع حاجبيه بملامح مستنكرة:

- ألهذا الحد بذلت من أجله؟ يبدو أن هناك خفايا كثيرة لا يعلمها سواك.

ـ انتبه إبراهيم لما أردف وحاول تغير الحديث:

- الفطور جاهز، هيا بنا نتحدث بالخارج.

تناول من يده صينية الطعام وأردف:

-عنك يا جدي، سأحملها، سلمت يداك، الطعام يبدو شهيًا.

جلس على مائدة الطعام متمتمًا:

- لا تحكم على الأمور ظاهرًا، عليك الغوص بعمق التفاصيل لتعثر على حقيقة موقنة ومنطقية، من يتكل على قشرة الشيء متكاسل لا قيمة لحياته وجوده من عدمه لا يعني للبعض، شتان بينه وبينه لذه العثور على الحقيقة، وأما الشغوف الحالم بالعثور على لُب القصة، يجزى بعظيم الثقة بالنفس وأثر سيرة عظيمة تدوم طيلة حياته، ورفاء متعة داخلية بالنصر.

أراح بظهره للخلف وهو يداعب عارض لحيته نزولًا بالعنفقة، ثابت النظرات تخل بثبات من يطيل النظر بها لبرهة واحده، وجفل يحمل صفا من الأهداب الكثيفة المرتبة بحسن صنيع الخالق، هناك الكثير والكثير يجول بزهن لا يعلمه سواه.

ساد الهدوء دقائق معدودة، قطعه إبراهيم قائلًا:

- تناول فطورك، هيا، الطعام لا يحلو وهو بارد، لا تخسر لذته بالتفكير كثيرًا.

ـ ها، لا، لا أفكر بشيء، فقد سرحت في منطق ما قولت الآن.

إبراهيم متجاهلًا النظر بعينيه، وبدأ بقطع أول لقمة من الخبز معلنًا البدء في الطعام:

-لا تكترث لحديثي كثيرًا، الهزيان أمر اعتيادي ووارد في سني هذا، هيا إبدأ.

لم يصل حلقه سوى لقمة في الثانية وسأله يوسف وعينيه تجوب الأطباق بلقمة فارغه:

- لم تقل لي، تعرف مصطفى منذ متى؟

أصابته سعلة طفيفة تجاوزها برشفة من كوب الماء الذي بجانبه وتمتم:

- أعرف مصطفى منذ خمس سنوات، جئت حديثًا لهذا البلد بعد وفاة ولدي مع عمر، ليتم ما تبقى دراسته هنا، تاركين خلفنا عالم من الزكريات المشؤمة، واستأجرت هذا المنزل وتعرفت عليه، ومن حينها وأصبح بمثابة ولدي، أيضًا كان يدعى مصطفى، العمر الطويل لرفيقي وولدي الثانِ مصطفى.

تابع أسئلته وهو على نفس وتيرة الثبات، يحملق بين الأطباق:

- كيف كانت حياته هو؟ هل كان طبيعيًا كأي شاب في سنه، أم منطويًا عن العالم، لا علاقة له بأحد؟ وخلال معرفتك به طيلة هذا الوقت، لم يدلف أحد جديد إلى حياته بعد وفاة والدته؟

ابتلع غصة حلقه، وترقرقت قطرات العرق على جبينه وترك ما بيده من طعام مردفًا بجمود يكسوه بعض من الغضب المكتوم:

- أنا استقبلت هنا بمنزلي وأثبتك مكانة ولدي، وتجاهلت أمر عملك، وأيضًا لم أستفسر منك عن أمر معرفتك بمصطفى، فلا تجزي ذلك بستعراض أصول مهنتك عليّ، ولكن ما أعتريه حقًا، لما أسألتك المبطنة من حين لآخر هذه؟ 

ألم تخبرني بنفسك أنه بخير! بدأ الشك يساورني حياله، أظن بأن علي الذهاب بنفسي لرؤيته.

ترك ما بيده من طعام ورمقه بنظرة أطاحت  بحلة أسارير ثباته الثرى مردفًا:

لم ترى بعد نبذة من أصول مهنتي، أجاهد التريس بالصبر يا سيد إبراهيم، موقنًا بأني لن ألجأ لبذل الكثير من العناء معك، هذا صحيح أليس كذلك؟
لا بد أن يكون كذلك.

أستأذن منك الآن لدي تحقيقات جمة في انتظاري، فطورًا شهيًا، سلمت يداك، سنتلتقي عن قريب، لم يبدأ حديثنا بعد.
وما إن خرج من منزله صفًا خلفه الباب بعزم،
ضرب إبراهيم الطاولة بكفه غاضبًا، لا ينكر إصابته بذعر داخلي أنه ليس بغافل عن ما يخفيه، وبيد مرتجفة سحب هاتفه من جيبة ردائه واتصل بعمر على الفور:
ـ عمر، عد إلى المنزل في الحال.

كاد يجيبه قاطعه قائلًا:

-لا تسأل عن أسباب الآن، نفذ في الحال، اترك مكانك وعد إلى المنزل.

.......

كطائر  سجينُ قفصه وحُل حاجزه حبسته للتو، أخذ يحلق بين شواهد ظنونه حد اليقين، ألقى ما يجول بعقله لرئيسه ومن ثم حصل على إذن النيابة وذهب إلى منزل مصطفى في الحال.

كان يقود سيارته ولذة العثور على الحقيقة تمحي دُجى أفكاره، يقينه بالحياة أن الثقة الكاملة بعزيز أمر احتياجيِّ مرغوب به، وحين تمنحها للجميع تصبح أنت الأبله الوحيد بحياتهم، الأحق أن  تمنح الثقة للمحترفين بهذا العالم فقط، مُستبدل العظام التقليدي محترف، صانع المحتوى المؤثر محترف، وأيضا الضابط الشغوف الباحث عن تمام الكمال لعمله محترف، وهؤلاء هم محط الثقة بالنسبة له.

أتاه اتصال هاتفي أثناء سيره لحظة وقوع نظره على اسم المتصل، قهقه وجنون شغفه تتزايد مع سرعة سيارته، فأجاب على المتصل سريعًا:

- احضر كمية وافرة من الطلاء الفسفوري "لومينول" يا رفيقي،لدينا رحلة عمل لا يبدوا عليها الهوان، أنا في طريقي  لمسرح الجريمة ومستودع سرها.

أجابه صديقه ورفيق مغامراته الدائم "مازن ":

- هناك لغز جديد أليس كذلك؟ 

ـ نعم، وهل من قبل آتيتك بيدٍ فارغه؟

ـ وهل يعقل؟ بالتأكيد لا، أعطيني عنوان مسرح الجريمة ومستودع سرها على قولك وأنا سأكون هناك في انتظارك.

ما إن أملى عليه العنوان، وأمره أن يسبقه يتحرى اللازم لحين وصوله، بعد ما أخبره "مازن " أنه على مقربة بالفعل  من العنوان، أغلق معه الهاتف ولحظات وصدح بالمكان صرير عارم من أصوات السيارات التي ظهرت حوله في غضون لحظات تلتف حوله، لتصدم إحداها بالسيارة من الخلف، وقبل أن يرتد إليه طرفه من وهلة ما حدث، صدمته الثانية من الأمام، مما أصابه بالخلل القيادي، وصعوبة السيطرة على تارة السيارة، كانت سيارته تتردد بين صدمات السيارات كالكرة في الملعب.

والمدهش أنهم في أناة واحدة اختفوا جميعًا،  وكأن ما حدث للتو هو تهويشًا، أو إيصال رسالة معينة لا أكثر.

حاول لملة شتات نفسه من جديد، متغافلًا عن بعض الخدوش السطحية  التي أصابت وجهه و زراعة أثر قوة الصدمات، وغير مسار سيارته ثانية وبوجهه إلى المشفى حيث يقبع مصطفى والشك والقلق ينهشه حياله.

.....
وفي تلك المشفى التي يلبث بها مصطفى سرير مرضه يكابد الآلام النفسية والجسدية ما قدر له أن يكابد، فلم تبل حالته حتى ولو لقليل، بوجه لا يهيمه ليل ولا نهار، يستبد الحزن جسده، وآضت الشحوب نظرة وجهه، كآية للسابلين والرائحين  أصبحت هيئته، يقبع ک جثة هامدة بقلب يأبى معاونة نفسه في التعافي، جسد وعقل يرفض الاستجابة لمن حوله.

دلف الطبيب المسؤول عن حالته وتعقب خطاه المعالجة النفسية، بعد جلسة استمرت لوقت بداخل مكتب الطبيب مستفسرة عن كل ما يخص حالته، ولم يمل الطبيب في إعطائها كل ما يعرفه عنه ليساعدها في العثور على سبب وصوله لهذه الحالة، حتى يبرأ في الحال، تركها بمفردها معه في الغرفة بجانبه تتطلع إليه بحثها الطبي، هامسة بجانب أذنه إحدى الكلمات لتعلم أنه رغم حالته ولكن يعي بشكل مضطرب  لما يدور حوله.

أعادت الهمس ثانية حتى شعرت بقلبه يخفق خفقًا متداركًا، وأنفاسه باتت وكأنها تتعلق بالنجاة، بدأ الأمل يتدفق داخلها مردفة بحنو:

- أنا هنا لمساعدتك، أخبرني، اسمها أيلول صحيح؟

شعرت بتصلب جسده وتزايل أوصاله، حتى ما يكاد يتحرك من مكانه، وهامت جفونه في السماح لأهدابها بالانفتاح حتى ظهر لون غائم  يشتت مقدار الضوء داخل قزحية عينه، مما شق عليها العثور على لونها الحقيقي.
تنهدت بثقة يتبعها الراحة متهجية مكان  الوشم  الذي يحتل موضع النبض بيده، يتكون في اسم "أيلول" 

غاصت في عينه الهائمة التي بدا ينبثق منها ضوء خافت من الحياة، ظلت تتمعن فيه لدقائق مستبقة طفيف من المبادلة، أو نظرة طفيفة لها، ولكن من دون فائدة، جسد هائم في عالمه.

لا تعلم تلك المستكشفة أنه الآن في رحلة بين زكرياته، عاد بالزمن حيث سنة من الآن وصدى صوتها باسمها يتردد صداه مقرعًا في أذنه، هام في ماضيه منذ بداية اللقاء الأول وتحديدًا عندما دقت حروف اسمها آذانه..

في ليلة شتاء قارصة يداعب الجو قطرات مطر طفيفة، كان عائدًا من إحدى المكاتب المعلنة عن الوظائف الشاغرة مكبًا الرأس، مسلوب الطاقة، فاقد الأمل كعادته، بعدم توفيقه بفرصة عمل جديدة للمرة التي يأبى أن يتذكر عددها،  يجول بقدميه الطرق جاهلة مرسى وصولها، حتى مر بجانب بائع النقانق واللقيمات السريعة، رائحة الطعام تبدو شهية، مزيج رائحته الدالة على نضجه مع مزيج قطرات  المطر الخفيفة المداعبة للثرى في هذا الجو البارد تالفها الروح وبشدة، دس يده في جيبه باحثًا عن  ما يكفي حاجته لشراء شطيرة واحدة يهاوش  بها جوعه المؤلم على الأقل.
عثر على بعض العملات تذكر أنه تركها حتى يدفعها ثمن عودته للمنزل، لطفًا للسهو، أنساه أمر البحث عن مواصلة للعودة وهام سارحًا في الطريق  سيرًا على الأقدام.

تفقد قائمة الأسعار بزعر، فكل ما لديه لا يحصل ثمن شطيرة فارغة، ولم يكن حديثًا، بالفعل طلب شطيرة خالية من الحشو، مما أزهل عامل العربة ولكن لم يكترث للأمر كثيرًا، من هيئته وإطالة نظره على قائمة الأسعار اكتشف أنه لا يملك سوى ثمنها، وجود منه وضع بها بعضًا من شرائح اللحم، حتى يستطيع بلعها.

تناولها منه متعجب الملامح وهم يتفوه قاطعه البائع قائلاً:

- الأسعار المكتوبة على القائمة صحيحة، ولكن اليوم هو يوم الخميس وأنا في مثل هذا اليوم من كل أسبوع أمنح عشر شطائر مجانية لكل ضيف جديد، ولحسن حظك كنت الرقم التاسع، تفضل بالهناء ولا تعطي للأمر أهمية أكثر، أنا افعل ذلك دائمًا والجميع حولي يعلم ذلك.

تناولها من يده ممتنًا رغم شكه، وبدأ في تناولها بنهم وإعجاب لحسن صنيعها.

وما هي إلّا دقائق وقدم له كوبا من الشاي الساخن قائلًا:

- الإرهاق ولهث البارد جليّ عليك، تناول هذا سيعادل حرارة جسدك قليلًا، ولكن لا تعجب، هذا ليس مجاني، هذا بنقود الشطيرة، حتى لا تعتاد على هذا، ههههه، تفضل.

- سلمت يداك .

وعلى الجهة الأخرى من الطريق المقابل لوجه عربة الطعام، كانت تقف إحدى الفتيات بثوب ذا بريق صارخ، يبدو عليه لا يستخدم سوى بالمناسبات فقط، تلوح يمنةً ويسرةً لسيارات الأجرة المارة ولكن من دون فائدة، دلف منتصف الليل والجميع بهذه المنطقة الكانة الصامتة لا يعرف أحد، لم يعتلي لشأنها اهتمام وبات يفكر في حاله وكيف سيعيش بهذا الشح المقبل من دون أي وظيفة أو عمل يسد حاجته.

قطع شرود تفكيره صوت الفتاة تعبر للجهة الأخرى بمقابله وتختلس خلوة تفكيره بصوتها المرتفع طالبة من بائع الشطائر واحدة.

هز رأسه أنفًا صوتها العال المزعج وهم بالذهاب ولكن حتمًا سيشكر البائع على كرمه وحسن ضيافته أولا، وأثناء ما كان يفعل هذا لاهيًا بالحديث معه، ظهر شابين بسيارة فخمة أمام العربة يبدوا عليهم الثمالة،

أردف  أحدهم موجهًا حديثه للفتاة:

ـ كم سعر الشطيرة يا جميلة؟

لم تعيره الفتاة اهتمامًا حتى أنها لم تلتفت إليهم وكأنها لا تسمع، مما أثار تطاول الشباب ثانيةً وأعاودا الكَرة ولكن بصيغة خادشة، جن جنون شاب منهم على عدم مبالاتها وهبط من السيارة سريعًا مقتصر المسافة بينه وبينها في خطوة،  ولكن سبقته يد مصطفى الحائلة بينهم مردفًا:

ـ هذه الفتاة معي، تفضل من هنا حتى لا ألقي عليك الطريحة أمامها وأساوي بشأنك الأرض.

مط شفتيه السفلى مستنكرًا حديثه، ضاحكًا هو ومن يعتلي كرسي السائق خلفه، متمتمًا بثقة وهو يهندم ملابسه:

- انتظر فقط سأجعلها تتركك أمامك وتصعد جانبي بالسيارة وسألقنك أنا الطريحة المبرحة بعدها  على حق.

مد يده يلتمس كتفها قائلًا:

الجميل لا يرانا أما ماذا؟ 

وهنا أخيراً دارت الفتاة بوجهها نازعة سماعة الأذن من أذنها قائلة:

- نعم تتحدث معي؟

ـ نعم،  أسألك عن سعر الشطيرة.

نظرت إلى القائمة الموضوعة قائلة:

- ها هي الأسعار أمامك، أراك تراني جيدًا ونظرك يبدوا عليه السلامة، أم أنك أمِّي! 

كاد يتصاعد دخان غضبه من رأسه لتجاهل الأزعر هذا حديثه، ولكن أطفأته بلاهتها في الحديث معه فاقترب منها هامسًا بعد أن حال جسده بينها وبين الشاب:

- هذا المكان والوقت والزيّ الذي ترتدينه يخضع قلب هؤلاء الشباب بالتفكير السيء حيالك، ثم ابتعد عنها وأردف وهو يقبض ملابس الشاب من قبته:

- أخبرتك أنها معي، هي خطيبتي، فالترحل من الخيّر لشأنك.

اتسعت حدقتيها بصدمة قائلة:

- لا، لا تصدقه، أنا حقًا لا أعرفه.

نظر إليها مصطفى وشرار الغضب يتطاير من مقلتيه،مسترسلًا إليها بعض النظرات التي تحثها على تأييده، في ذلك الحين استغل الشاب التفاته إليها ونزع يد مصطفى وكاد يلكمه ولكن هنا تدخل البائع هماسًا لها بعض الكلمات جعلتها تصرخ مردفة:

- إياك وأن تلمس خطيبي يا **** وإلا اشتهيت النظر إلى يديك ثانية، أقسم لك بأنني أستطيع قطعها الأن.

وقبل أن يستوعب  عقله ما خرج من فاهها للتو، سحبت أحد الآلات الحادة التي يستخدمها البائع وكادت تعتلي ظهره وبيدها السكين تحاول أن تصل بها لرقبته، ولكن لقصر قامتها بجانبه لم تستطع.

ابتعد عنه الشاب على الفور وجسده  يرتعد من صدمته على  رد فعلها واعتلى السيارة بجانب رفيقه الثانِ  مردفًا:

- هيا بنا يا غبي، إنها حقًا فتاة مجنونة، انهض بنا الأن.

وما إن اختفى طيف سيارتهم حتى انفجر ثلاثتهم بالضحك على ما حدث، تمتمت الفتاة شاكرة العم:

- مدينة لك بالشكر يا عمي، لا أعلم ما فعل بي هولاء دون أن تفهمني ما يدور بعقلهم.

نظر مصطفى إليها بحاجب مرفوع وابتسم مردفًا:.

- حقًا، الشكر لك يا عمي، وسلمت يداك على الشطائر، وداعًا.

ـ ستعود ثانية أليس كذلك؟

التفت إليه قائلًا:

- أعدك، ولكن على انفراد وفرصة حتمًا ستكون أسعد من هذه أكيد.

ابتسم متفهمًا ما يدور بعقله قائلاً:

- انتظر،لم تخبرني باسمك على الأقل.

- مصطفى.

تفاجأ بردها مغمغمة بحروف مترنمة:

- وأنا"  أيلول " اسمي أيلول.

اعتلى ثغره ابتسامة طفيفة، محتها تجاهلها له الأوَّلي  لما فعله معها وأعطاها ظهره وذهب.

تمتمت للبائع بخزي يكسو ملامحها:

- كان من الواجب عليّ أن أشكره أليس كذلك؟

- لا عليك، يبدوا عليه السماحة، لا تلومي حالك أكثر، وأنا موقنٌ أن نصيب اللقيا سيجمعكما قريبًا.

كست حمرة الحياء وجنتيها وتمتمت متوترة الجوارح:

- على خير، سعدت بالقائك، ولكني أعدك من بعد هذه الشطيرة الشهية سأعود بالتأكيد ،  إلى اللقاء.

وسار كلاهما على نهج متضاد من الطريق وبريق صدى اسم كلاهما يقرع في آذانهم، مزينًا وجه كلاهما ابتسامة تائهة، أطاحت بما يجول بخاطرهم من هموم الحياة أرضًا.

وصل مصطفى إلى بيته دون أن ينتبه لعناء الطريق سيرًا على قدميه، وألقى معطفه على مقرب أول مقعد ومن ثم  بجسده عليه مرددًا:

- اسمها أيلول.

ظل يتردد حروف اسمها على مسمعه حتى عاد بأفكاره لأرض الواقع، حيث المشفى والطبيبة بجانبه تحاول اجتياز سكونه بشتى الطرق الممهلة،  حتى صدمت بنبض قلبه يرتفع تارة ويهدأ تارة ومن ثم بنخفاض مفاجأ، دون أي إشارة لمعرفة سبب هذا. استغلت جهاز الإنذار بجانبها في النداء على الطبيب الذي لم يستغرق سوى وهلات في الوصول وخلفه الممرضين.

الطبيب مستفهمًا:

- ماذا حدث؟ كانت حالته شبه مستقرة على ما هو عليه.

ـ سأخبرك بكل شيء، ولكن عليك العجلة في إنقاذه أولا.

- اشحني جهاز النبض على المأتين هيا.

جاوبته الممرضة بأعين مستفهمة: 

- على المأتين! قلبه لا يتحمل يا سيدي.

- إذا تعال وقفي مكاني، هيا قولت على المأتين.

هرولت تنفذ ما أمره بها على الفور، وأمر الطبيبة النفسية بالخروج لحين إنقاذه، وبدأ يفعل كل ما يتوجب عليه فعله جاهدًا لإنقاذه.

أمام الغرفة بالخارج كانت تنتظر خروج أي فرد منهم ليطمئنها على حاله ولو بكلمة، ولكن يأتيها شخص يلهث أنفاسه كمن تتبعه السباع يعتلي وجهه  بعض الخدوش،وبعض من بقع الدم تلطخ صفاء قميصه الأبيض   قائلًا:

- ابتعدي من طريقي، أريد الدلوف للحالة التي تقطن بهذه الغرفة.

وما إن هم الدلوف حتى اعترضت يداها الصغيرة طريقه متمتمة:

- لا يمكنك الدلوف إليه الأن، إنه بحالة حرجة بين يدي الأطباء.

طالعها بنظرات يسودها العجرفة قائلًا:

- نعم، ومن أنت لتقطعي طريقي؟ هيا من أمامي الأن، لا يسمح لي وقتي بسماع هزيانك هذا.

ولم يمنحها فرصة للرد وأزاحها من طريقه كقطعة جماد لا قيمة لها، ودلف للداخل بخطى  همجية، مما جعل الطبيب يعترض فعلته بالداخل بِرَدٍ غاضب:

- إذا سمحت سيادة المحقق، عليك بالتمهل قليلًا وانتظاري بالخارج.

تجاوبت نظراته بينه وبين مصطفى وحالته، وخرج صافًا باب الغرفة خلفه بقوة أطاحت بأسارير تلك المسكينة أرضًا.

رمقته بنظرات حارقة تلاشت تدريجيًا فور سمعاها لصوته على الهاتف يحدثه شخص على الطرف الأخر يخبره بوفاة شخص أو جثة  أو ما شابه.

ظلت تستبق السمع والفهم حتى دوت آخر كلماتٍ قبل رحيله المهرول:

- مقتول!  كيف؟  ومتى؟  تركته فقط منذ ساعة واحده،  حسنًا، أنا آتٍ إليك لا تفعل أي شيء قبل قدومي.

لا تعلم ما هو الداعي لهذا القلق الذي ساور قلبها ولكن لم تكترث للأمر أكثر خاصة بعدما خرج الطبيب من الغرفة محدثًا إياها بنبرة لا تحمل النقاش:

- طبيبة "حسناء " هيا خلفي إلى مكتبي إذا سمحتى.

أوطأت برأسها أرضًا مردفة:

-حسنًا يا أبي، أنا أتبعك.

تجمدت خطواته مردفًا من بين أسنانه: 

- أبي!  هنا!  ثانية!  يا صبر أيوب.

أوطأت برأسها أرضًا لاعنة غبائها مردفةً:

- حقًا أعتذر منك.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي