الفصل الخامس

أمقت ما يلجأ إليه الإنسان في حياته هو الحاجة.
الحاجة للمادة أو الوسيلة أمر محتوم، وعليك تدبيره، بينما الحاجة النفسية لا تطلب، تمنح.
إحساس من التلاشي الروحي يهزم نفسك، المطالبة بها من عزيز كان الجفا وليد  هجره، بينما نظرة حنو طفيفة منه تكفيك عن من هم حولك،  العالم أجمعه أنت بغنى عن وجوده مادام حنانه كافيك، وما حولك كله كماليات بجانبه، ولكن تشاء وهو بعالمه متغافل ويمنحك الله الحنان ممن لا دراية لهم عن أصلك وعرفك وشخصك، ويأتيك العوض ليسعد روح هامت مشاعرها بالإنجراف على الرحيل.
هنا عليك التمسك، والمواصلة، والتخطي.
التمسك بمن اعتلاه أمرك حتى لو منًا وعطفًا، والمواصلة على السير بنفسك لنفسك، والتخطي وعبور أشخاص باتت بخاطرها لا تبالي العطف جامدة، ومن ثم يحنو عليك بدوام عوضه بأناس غيرهم دام الحنان غريزة لا ميزة.

.....

ثم تابع سؤاله بشك وعدم فهم يجوب عقله:

- ولكن من أين لك بكل هذه التفاصيل؟

جئت متلهفًا للتو لمعرفة ما دار!

ارتبك إبراهيم من سؤاله المفاجئ، فقد خانه اندفاعه بالحديث دون علم منه لما ردف.

ساد الصمت بينهما لدقائق، ومصطفى ينتظر الإجابة بفضول يتضاعف.

قاطع جلستهم رنين جرس الباب حينها وهم إبراهيم الوقوف، ولكن أشار له مصطفى بيده بمعنى استرح وذهب هو لرؤية الطارق:

- وهم! خير هناك شيء ما؟

كانت تتحدث بجسد يرتعد من الخوف متمتمة ببعض الحروف جاهد الكثير لفهمها.

- أبي، أبي لا، لا ينطق وأنا..

- اهدئي، فقط اهدئي ما الأمر؟

انهارت حصونها وجشت بنفسها باكية:

- أبي، سقط مغشي عليه بالمنزل وأنا لا أعرف التصرف، أو ما يجب علي فعله.

انتفض إبراهيم على صوتها مهرولًا يقف خلفه:

- حسنًا، هيا يا ابنتي، لما نحن ننتظر هنا،  تعالِ  ننقله للمشفى ونسعفه.

لم ينتظر مصطفى سماع آخر ما قاله إبراهيم، وهرول بخطواته تجاه المنزل دالفًا للداخل من بعد ما فتح له آخواتها المنزل.

وجد والدها يعتلي الأرض جثة هامدة، لا أثر لنفسها، وأطفاله الصغار يلتفون حوله يبكون ووالدتهم بجانبهم تجاهد التقاط أنفاسها من البكاء، مد يده موضع نبضه يتفقده وإذا  ظاهره لا جدوى حياله، النبض بالكاد مختفي والرجل على مشارف الوداع.

جاوبت نظراته بينه وبين تلك المستغيثة وحمله على الفور بين يديه، هام إبراهيم يسانده أشار له بأن يستغل الوقت ويستدعي سيارة أجرة لحين خروجه به.

وما هي إلا مسافة الطريق وكان بالمشفى بين يدي الأطباء يفعلون اللازم لأجله.
كان يقف على مقربة من باب غرفة الطوائ منتظرًا خروج أي أحد يبشر بما هو متوقع في حالته.

عاصفة من المشاعر أحاطت جوارحه متذكرًا والدته وكيف كانت ليلتها الأخيرة معه.

يتذكر وهو عائد من جامعته وبيده مستلزمات المنزل ودالف بها للبيت يبحث بعينه عينها بلهفة كعادته، وجدها على نفس وتيرة والد وهم،  طريحة الأرض لا أثر لنفسها، مجمدة الأوصال، يشق القلب رؤياها.

هامت عبراته بالسقوط لا إيراديا حاول إخفائها سريعًا بباطن كفيه مجاهدًا التماسك كثيرًا، ولكن تلك الوغزة التي أصابت قلبه من حينها، أعاد هذا الرجل البالي زكراها.
مر عام على موتها ولكن أثر ندبة فراقها ما زال ينزف بحرارة سكين حاد مر على قلبه دون دراية،
كثيرًا ما حاول التعافي والتظاهر بالعبور، ولكن تفكيره في فراقها ومتابعة الحياة دونها يشعره بالقسوة والأنانية، كيف له بتخطي روح من روح؟ صحيح هي جسد بين الثرى ولكن روحك ما زالت تتلبد روحي يا أمي، جميع من حولي لا يعلمون أن أنفاسي الملتقطة هذه ما هي إلا أثر  وجودك بداخلي.

اقترب منه إبراهيم مربتًا على عاتقه:

- أنت بخير؟

طالعه بعيون يكتم الدمع داخلها:

- لا، سأخرج للتنفس بالخارج.

ـ انتظر سآتي معك.

ـ لا، لا تترك وهم ووالدتها، لحظات وسأعود ثانية.

سارت به أقدامه نحو متسع بعيدًا عن ممشى العامة قليلاً محاولًا تعبأة صدره ببعض من متسع الهواء الطلق، عسى أن يهدأ من نيران الوحشة والألم الحارقة هذه.
ولم تمر سوى دقائق معدودة من خروجه ودوت أصوات العويل والصراخ، أغمض جفليه بحسرة وكرة عصيبة من الألم نفسها تعاد، لتنهار حصونه وتشق العبرات وجنتيه بندبات حارقة متتالية.

عادت به قدميه للداخل بخطى مثقلة وعقل شارد يصاحبه التيه، الجميع حوله يهرول ويصرخون وهو لا يرى بعينيه، سارح الأزهان لا وجود سوى لجسده بينهم، حتى عقله عجز عن التصرف بمواساة أو تربيت.

حاول إبراهيم السيطرة على الوضع قليلًا وتهدئته والعودة لإفاقة ذلك الهائم وسط أحزانه.

بعد مرور ساعتين من الإجراءت والتصاريح، تم فعل كل ما يتوجب فعله بمساعدة إبراهيم لوهم ووالدتها، عادوا إلى المنزل ثانية لإتمام مراسم الدفن الأخيرة.

ليأتي الصباح بتأثير حلة الأمس الحزينة، على الجميع.
مازال إبراهيم ومصطفى بجانبهم لم يفارقا وهم ولا والدتها طوال الليل هم وأهل الحي معهم وأيضًا بعض الأهل والأقارب حتى تمام أمور الدفن الأخيرة.

الجميع حوله ذهبوا وعادوا لمنازلهم وهو ما زال يقف أمام قبر والدته يتطلع حروف اسمها المدقوقة على القطعة الرخامية الموصودة على قبرها بعقل شارد وقلب مثقل بالآلام.
لم يعي كم مر عليه من الوقت وما زالت وتيرة أحزانه تشد عاتق قدميه للصمود، أفاق من عالمه هذا على صوت والدته تنادي عليه.
نعم صوتها!  ها أنا أسمعه يدنو مسامعي.

التفت حوله يبحث عنها بعينه كالمجنون، يهرول بين القبور من هنا لهناك، يلمح طيف ردائها من بعيد يمر أمام عينيه.

ظل يتردد صدى صوتها حتى عادت به إلى زمن الواقع وأصل الحاضر ثانية، حيث المشفى و كم الممرضين يلتف حوله يناظرون نبضه المتزايد تارة والمنخفض تارة بأيدي وعقول متجمدة، وكأن الأمر من لحظة دخوله إلى المشفى أصبح اعتياديا عليهم رؤياه.

....

بداخل غرفة الطبيب الخاص بحالته، كان يعتلي مقعده يحاول التمسك بأعصابه على تلك التي تجلس أمامه ترتعد من الخوف.

تنهد محاولا التماس بعض من الهدوء:

- لن أحدثك بشأن ما فعلت مع مصطفى وكيف تعاملت معه لتصل حالته إلى هذا الحد، ولكن كل ما عليّ إلزامه بكِ من أمور أن هذه الحالة لها قضية خاصة، وأنا على ريبة من أمر هذا الشاب وصحته.

جاوبته بحروف مرتبكة:

- يا أبي لم أفعل شيئا حتى، أنا فقط ناديت باسمٍ  مستوشم على يده، أظن أنها حبيبته، وهي بالأساس سبب حالته هذه.

نفض رأسه يلعن غبائها:

-أين نحن؟

فرغت فاهها بعدم فهم قائلة:

- ها، بالمشفى.

تابع بصوت يفيض ما به من غضب عليها:

- حسنًا، أناااا لست بأبيك.

هنا أنت الطبيبة حسناء المختصة النفسية لحالة أنا أتابعها، أبي هذا على مائدة طعامنا، فهمت.

هزت رأسها للأسفل مردفة برعب من نبرته الحادة:

- حسنًا، حسنًا، اعتذر منك.

وهرولت للخارج مفصحة عن احدى عبراتها المكبوتة أثر نهراته وجفاء معاملته، معاودةً خطاها نحو غرفة مصطفى ثانية، عسى أن تفهم شيئا آخر.

.....

بينما كان يدور كل هذا بالمشفى، كان ذلك الشاغف المعثر خطواته القادمة  يوسف يسابق الطريق والزمن ليصل لمنزل إبراهيم ويتأكد من صحة ما أتاه من أخبار  حول قتل إبراهيم.
وما هي إلا مسافة الطريق وكان بمنزله، وطاقم الشرطة تجوب المنزل وتتفحص الجريمة وحدوثها.

القى نطرة سريعة على الشقة كما هي، حتى صينية الفطور ما زالت تقبع مكانها، كيف حدث هذا؟

كان هذا سؤاله لمازن و خالد المتواجدين بالمكان ليأتيه رد خالد:

- التقرير المبدأي يدل على دلوف شخص واحد هنا منذ الصباح، وهو حتما من قام بهذه الجريمة، ولكن الغريب أنهم كانوا يتناولون الفطور سويا، يا الله على الدنيا، انهى فطوره معه ومن ثم قتله.

أردف يوسف:

-خالد، هل لك بالإختفاء من أمامي الأن، أنا من كنت أقاسمه الفطور قبل دقائق، اصمت ودعني أتمسك بآخر ما تبقى لدي من عقل للتفكير.

هالة من الصدمة أصابت كلا من مازن وخالد، وهو يدور حول نفسه محاولة استيعاب ما هو فيه الأن من عصبة فكرية وأفكار متضاربة المنطق.

ماذا حدث في لحظات؟

وما شأن كل هذا بمصطفى؟

وهل هناك أمر خطير لهذا الحد يستدعي  قتله؟

كم هائل من الأسئلة التي تدور بعقله لا يجد لها تفسير.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي