الفصل الرابع

التفت سريعًا إلى مصدر الصوت فإذا بها تقف مع عمها تضحك بقهقهة عالية، تجمدت أوصاله في مكانه، مصنم كمن تقف الطير على رأسه، يعجز عن الحركة، ها هي حقًا! أم هذا تأثير لقاء أول أمس؟
لم يشعر بخطاه إلّا وهي تحمله باتجاهها، وإذا بدقات قلبه المرتجفة تسابق خطواته، حتى بدت المسافة بينهم بالاقتراب دلفت هي وعمها للداخل.

هنا اعتلاه التيه وبعض من الغضب، كادت يتأكد ويقتلع الشك، ولكن عانده القدر وغدرت به اللحظات.

تابع جلسته بالخارج ينتظرها، مر من الوقت أكثر من نصف ساعة وهو يجوب الطرقات الأمامية تارة ويرسل ابتسامات باردة للحارس الذي يطالعه بضحك كأنه مجذوب تارة.

حتى قطع ذلك خروجها من الدار وهي تتشبث بيد عمها، هنا ازداد توتره، عندما شعر بأن عليه التصرف في الحال والتدخل، لعن نفسه على غبائه حينها، لما لم يستغل الوقت الذي قضاه بالانتظار هذا في حجة للحديث أو التعرف عليها.
وأخيرًا ما داهم عقله فكرة سازجة، أنه يعرف بائع اللبن ومر صدفة من هنا وأتى ليسلم عليه.

أطاح بتوتره تحت قدميه وتقدم راسمًا على وجه ابتسامة وفرحة وحشةٍ زائفة وهو يسلم عليه متجاهلًا النظر بعينيها مردفًا:

- عم "تامر" كيف حالك يا رجل؟ أين لي بلبن الصباح؟

دارت نظراته المتوترة بينها وبينه بصدمةٍ من وجوده، ولكن قاطعه بسحبه داخل أحضانه في عناق مشتاق هامسًا بإذنيه:

- تصرف على طبيعتك حتى لا تلاحظ، ستكشف أمرنا بنظراتك وسذاجتي هذه.

ـ ها، حسنا، ثم تابع بدهشة مصطنعة:
-أستاذ مصطفى، اعتذر منك لم أسرح باللبن اليوم لانشغالي مع فتاتي وابنة أخي لقضاء بعض الأمور المتعلقة بها، دعني أعرفك عليها.

أشار إليها بيده قائلًا:

ـ أيلول، ابنة أخي الصغير، وصلت لتوها مع أبيها من خارج البلاد.

ثم أكمل مشيرًا إليها:
- أستاذ مصطفى، جارنا هنا بالمنطقة منذ أزل، ورفيق طيب.

مر حديثه على أعينهم والصمت يسود بين ذلك المصدومين كلاهما بوجود الأخر ، مما لفت انتباه تامر أنه يحدث نفسه وكلاهم بعالم آخر من النظرات الهائمة.

وأخيرًا ما حرر مصطفى لسانه مردفّا:

- يا لها من صدفة حقًا يا عم تامر، سررت بلقائك مجددًا.

ـ ها، حقًا صدفة! حسنًا سأصدق أنك لا تتبعني على الإطلاق لا.

اتسعت حدقتيه بزهول مما أردفت متمتمًا:

- أنا أتبعك! ولما؟

رفعت محط أنظارها السماء بغرور مردفة:

- حسنًا، سأخبرك، وليكن صدقت كونك خطيبي حقًا، وجئت لتبحث عني وهكذا.

طالعها بغير تصديق لما تهذي، لم يكن يعرف بالأصل أنها هي نفسها ، وأن الصدفة ستكون خليفته لهذا الحد.

لاحظت هي جموده وتوتره المضحك، مما جعلها تنفجر بأخر ما تمسكت به من قوة مردفة بروح مرحة لطيفة:

- يا أبله، أمزح معك، أنا من جئت هنا صدفة، ربما لأسباب وحديث لم ينتهي بعد، حسنًا سأقولها لكسر هذا الحاجز قليلًا ولكن لا تعتاد عليها، أيلول لا تشكر أحد، ولكن مدينة لك بالشكر عما فعلته معه قبل أمس.

نفض هو حينها على كتفيه براحة مدعيًا الغرور مردفًا:

- لا، لا داعي للشكر، ما فعلته كان أمر اعتيادي محتوم فعله، معكِ أو غيرك

ـ امممم، حسنًا، اعتيادي ومحتوم!
هيا يا عمي، ظلل علينا الطائر بأجنحته، ولحظات قليلة أكثر وسنقدم له التبجيلات، هيا لدينا عمل، وداعًا يا طائر الفرقاطة.

كان تامر شاردًا حقا دون فهم لما يدور بينهم من حديث يجهله، مقيد ما بين يترك لهم مجال الحديث و يرضي فضوله وعقله هل كلاهم يعرف الأخر من ذي قبل أم ماذا؟
وأخيرًا ما أردف متوجسًا:
- لحظة فقط، سبق وتعرف على الآخر؟

تمتمت وهي على مقربة منه:


- أنا! ومن أين لي بهذا؟


رفرف بأهدابه دالاً على عدم استيعابه لما قالت:

- ها، طائر ماذا؟ انتظري يا فتاة، انتظزي.

سارت للأمام متجاهلة ندائه المتتالي وترجل عمها بخطواتها للخلف عنها قليلاً وهي ما زالت تواصل السير.

ضحك عمها عليها قائلًا وهو على مقربة منه:

- ها هي عادتها المزح كثيرًا يا ولدي، آمل ألّا يزعجك حديثها، أشكرك على اهتمامك كثيرًا.


ربت على عاتقيه بعقل شارد خلف خطوات تلك التي سرقت عقله بآخر كلماتها أو بالأحرى ما نعتته به، وتمتم:

- حسنا، أنا سأذهب الأن، و سنلتقي بالتأكيد ثانية.

التفتت حوله متوترّا قليلًا وأردف:

- هي ذاهبة لل..

قاطعه:

- أخبرتك، سنلتقي، أعلم خطواتها القادمة، نحو دار الرسم أليس كذلك ما زلت أتذكر ما هو مكتوب بالورقة؟

ابتسم بتريُح مؤكدًا بإشارة من رأسه قائلًا:

- نعم، سنتمشى قليلاً وسنكون هناك على الثانية بإذن الله.

ـ حسنًا، على الله تدبير اللقاء.


وتركه ورحل بعد روح كادت تهيم بالشغف والفضول حيالها، ولكن وجد قطوف عقله الفكرية تتجمد، عليه التريس بالعقل بفكرة كيف يمكنه العبور من خلالها لحياتها؟

عادت به قدميه سيرًا يفكر فيما سيفعل حتى وصل إلى عتبة منزله، وأثناء صعوده لسلم بيته تقابل مع تلك الهائمة بعالمه وهو كالأبله لا يشعر بوجودها.

وكعادتها القت عليه التحية وردها بشاشة عادية متمتم:

- أهلا بك يا وهم، كيف حالك وحال والدتك؟

أجابته بعين تجوب الأرض حولها كالسارق وحروف متلعثمة:

- بخير الحمدلله، ما دمنا نراك بخير.

قالت كلمتها الأخيرة والخجل ينهش محياها، حتى انصهرت وجنتيها بشدة، ولكن ما جعله ينفر رأسه بتعجب ليس بجديد حين يقابلها، أنها كعادتها لم تنتظر رده وهرولت خارج البناية وكأنما لدغتها حية.


لم يشغل باله الأمر كثيرًا وتابع صعوده للبيت حتى وقف بمقابل شقة إبراهيم ليقص عليه ما حدث معه ويخبره بما يعصف به من أفكار متضاربة، ولكن تذكر أن حفيده عمر لن يذهب لجامعته اليوم وهو لا يوجد له طاقة لسماع سم بدن من تحت حروفه اليوم، فعاد بوجهه حيث شقته مجددًا.

ظل يفكر ويتابع التفكير بتيه لا يعلم من أين أتى له؟

حتى انساق بتفكيره لتشبيها الأخير له ووجد نفسه يسحب هاتفه من جيبه بلهفة سريعًا يقوده الشغف باحثًا عن اسم الطائر الذي نعتته به.

و لحظات وشغر فاهه بصدمة قائلًا:

- الفرقاطة! أنا؟ يا لكي من محتالة متلاعبة.


ظل يتابع استباق المعلومات أكثر عن هذا الطائر وبالأخير ما لبد بعقله أنه طائر يدعى "الفرقاطة الرائع" طير بحري يعيش بين الطيور البحرية التي تعيش في المياه الاستوائية وشبه الاستوائية، وتتميز ذكور هذه الطيور بأنَّها خلال موسم التزاوج تنفخ كيسًا أحمر قرمزيًا من الأمام يشبه البالون لجذب الإناث، وينقر عليه بمنقاره لإصدار صوت قرع، وبعد اجتذاب الذكر للأنثى يفرد جناحيه ويحتويها تحت جناحيه.


أصابه الزهول أكثر، لما نعتته بهذا هو حتى لم يتجاوز حدوده معاها، وبعد وقت من إعجابه عن أشكاله المميزة وجمالها الآخاذ، زين ثغره ابتسامة هائمة وهو يتذكر ملامحها الرقيقة، ليست بملفته بوشاحها الذي يغطي فقط مقدمة بسيطة من شعرها ومعطفها الطويل تخفي به معالم جسدها ، ولكنها مميزة وجذابة، وأيضا هناك ما هو بطابع سحري أكثر ولكن لها جازبية روح غير عادية، وأما عن عينيها، فمشاتل القهوة صُبت بداخلها، تناغم بينها وبين دقات النمش ببشرتها يخيل للعين بلوحة فنية لا تمل من إطالة النظر بها ، غراتها الغجرية المحجلة على وجنتيها براحة متمرد تعطيها ثقة وشخصية مثقلة رزينة رغم هياجها الخارجي.

ظل يتأمل آخر ما تبقى في عقله من ملامحها حتى قطع شروده دق الباب الذي بدا يضحك فور سماعه عالمًا بأن إبراهيم هو الطارق.


طالعه إبراهيم بمكر مردفًا:

- ما الأمر يا رفيق؟ كان اللقاء عسيرًا لهذا الحد؟

طالعه بصمود مدعيًا الغضب والضيق قائلاً:

- يمكنك قول ذلك.

ـ كيف؟ أخبرني، التقيت بها أم ماذا؟ يا الله على هدؤك الذي لا مجال لاستطاعته الأن.


ـ أنت تورطني يا إبراهيم، أنا سارح في حالها منذ وصولي، الفتاة سلبت عقلي لمجرد لقاء دام دقائق، تعلم أنني أضعف من هذا.

لم يستطع إبراهيم تحمل ما سمع وانفجر ضاحكًا:

- اهٍ يا ولدي البريء أنت، لهذا الحد قلبك رهيف!

دار حول نفسه محاول السيطرة على نفسه حقًا حينها متناسيًا تهوينه على حاله منذ قليل، والقلق الذي بدا يتدفق معالم وجهه مردفًا:

- هل لك ببعض من الجدية قليلًا، أنا الآن لا أعرف ماذا أفعل معاها، ارتبكت أوصالي وعمها يحدثني، ولم أعي بنفسي سوى وأنني أهرب من متابعة الحديث معه لحين أصل إليك ونفكر سويًا، كيف يمكنني مساعدتها؟ يا صاح لديها طاقة وحيوية تكفيني وتكفيك.

جلس إبراهيم جانبه دافعًا إليه بعض من الهدوء، بعد ما لمس تخبط أفكاره، يعلم أن وجوده بحياتها بدافع الكذب حتى وإن حالت طبيعتها على ذلك لن يكون هين على شخص مثله، حاول راسلًا الدعم والقوة بحديثه قائلًا:

- هون الأمر على قلبك ممكن؟
ليست بهذه الصعوبة، تعرفت عليها بشكل مبدأي وتم أول خطوة على خير أليس كذلك؟

تنهد مردفًا:

- نعم، وإلى حد ما لطيف أيضًا.

تابع إبراهيم:

- حسنًا، جميل، هناك الخطوة الثانية، معاودة اللقاء.
ستذهب صباح الغد للبحث عن وظيفة أخرى بإحدى الشركات التابعة لمجال عملها وعلمت أيضًا أنهم يبحثون عن شباب لديهم خبرة في مجال الهندسة والصيانة.

تاه بين حديثه مردفا:

- وأنا ما علاقتي بكل هذا؟ تعلم بسبب تعثر إتمام سنتي الأخيرة من الدراسة وعدم حصولي على الشهادة يتم رفضي من قبل جميع الوظائف.

ـ هل يمكنك الصبر قليلاً؟ تمهل سأخبرك بكل شيء، هناك طلب العمالة على موظفين صيانة براتب هين، ليس بخبث ولكن أراه خير لك أن تشغل حالك به.

- معك الحق.
ثم تابع سؤاله بشك وعدم فهم يجوب عقله:

- ولكن من أين لك بكل هذه التفاصيل؟

جئت متلهفًا للتو لمعرفة ما دار!

ارتبك إبراهيم من سؤاله المفاجئ، فقد خانه اندفاعه بالحديث دون علم منه لما ردف.

ساد الصمت بينهما لدقائق، ومصطفى ينتظر الإجابة بفضول يتضاعف...
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي