القبض على شاكر .. 4

4
القبض على شاكر


بعد أن اكتمل عدد المقبوض عليهم من ( المخالفين ) في گراج العلاوي العشرين وكان من بينهم جنود بملابسهم العسكرية, يبدو أنهم لم يكونوا ملتزمين بالقيافة او بحلق اللحية أو ممن تجاوزوا على إجازاتهم الدورية أياما معدودة .
انطلقت السيارة الايفا العسكرية إلى دائرة الانضباط العسكري في منطقة الحارثية .
سمع ذلك من الجنود .
كان شاكر يعرف حق المعرفة معظم شوارع بغداد وأزقتها في جانب الرصافة . إلا انه لم يكن ذا معرفة بشوارع جانب الكرخ من بغداد . فقليلا ما كان يزور الكرخ . لم تكن أحياء الكرخ تلاءم مهنته في السرق و( النِشل ) فلا زحامات في الكرخ ولا أسواق مكتظة . كان نطاق عمله يتمحور في سوق الشورجة وشارع النهر والباب الشرجي, لما عُرِف عن هذه المناطق من اكتظاظ بالمتسوقين . وخصوصا النساء السافرات ممن يتركن حقائبهن اليدوية تتدلى عند خصورهن . ويتمايلن بأجسادهن بغنج بين المارة . وحتى اللاتي منهن يرتدين العباءة العراقية . كانت لشاكر من القدرة وخفة اليد ما يمكنه من اصطياد طريدته بسهولة ويسر .
غالبا ما كان يدس يده من بين فتحات أردان العباءة خلال ثوان ليبلغ صيده ويسرق من دواخل حقائب النساء ما تحتويه من دنانير .
ومن اجل أن ننصف الرجل . فانه كان مقلا في عمله .
لم يكن يبحث عن الغنى ولم يمارس لعبة القمار ولم يدخل قط ملهى أو بار . وفي كل مرة يسرق فيها ينطوي على نفسه ويضل يفكر بما قد تعانيه المرأة التي سرقها من مرارة فقدانها لمالها . كان نادر ما يسرق من الرجال . فالرجال ليسو من اختصاصه .
كان يفكر كثيرا بالعقاب الذي من الممكن أن تتعرض له المرأة المسروقة على يد زوجها أو أبيها أو أي من ذويها أن هي عادت خالية الوفاض إلى البيت وقد سرق ما بحوزتها .
في كل مرة كان يعتصره الألم ويتمنى لو انه افلح في المدرسة أو تعلم مهنة غير مهنة النشل والسرقة . لكان حاله الآن أفضل .
مختصر القول يمكننا أن نصف شاكر المحمود بأنه صاحب ضمير .
بقي طيلة الطريق إلى الحارثية صامتا . يفكر بحجة وذريعة تمكنه من النفاذ مما هو فيه . حتى انه لم ينتبه إلى المناطق التي مرت بها السيارة التي تقله .
إن أعادوه إلى مركز شرطة الثورة هذا يعني فيما يعنيه الحكم على نفسه بالإدانة وتشديد العقوبة .
فكر بكم الركلات والصفعات التي سيتلقاها من الحرس ومن المفوضين .
ربما يعلقونه فلقه ويجبرونه على الاعتراف على من قدم له المساعدة للهرب . عند ذاك سيضطر إلى رد فعل الخير الذي قدمه له عباس تنوره بسوء . وسيتعرض عباس تنوره إلى العقاب .. وربما أرسلوا بطلب دلال العاشقة المسكينة .
فيكون بذلك سببا في عذابات من قدموا له المساعدة وهذا ما لا يرضاه لنفسه .
بحث عن حل ..
لم يكن عسيرا عليه الاهتداء إلى حل ينجيه وينجي عباس تنوره ودلال .. ويخلصه أيضا من العقاب المنتظر .
طالما لا يحمل أي مستمسك يشير إلى هويته فبإمكانه انتحال اسم غير اسمه . بحث له عن اسم .. فاحتار أي الأسماء يختار له .
فكر أن يستمر في لعبته ويدعي انه من أهل الديوانية أصلا . وان سفروه إلى هناك سيدَّعي في التجنيد أو مركز الشرطة بان ليس له سجلات في دوائر النفوس . عندها سيبقى في دوامة . سيتحمل عذابات كثيرة إلى أن تمل منه الدوائر الحكومية ويطلقون سراح . بعد طول تفكير وجد أنها فكرة سخيفة .
لم يخطر على باله أن له سجلا في التحريات الجنائية يمكِّن الشرطة من الاهتداء إلى شخصيته الحقيقية بعد مضاهاتهم لطبعات أصابعه .
عاد للبحث عن أسم يلائمه . نط إلى أطراف لسانه اسم محسن وعباس تنوره .
حاول جاهدا أن يبعدهما عن تفكيره ويختار أسما أخر, لكنه عجز .
استعصت عليه كل الأسماء . وكأن ليس في الكون إلا أسم عباس تنوره ومحسن .
ثم انه أخيرا فكر أن يتقمص دور المجنون إضافة إلى تغيير اسمه . ذلك أيسر وأسهل . هو يعرف جيدا بأنه سيتعرض للضرب . ربما يلاقي ضربا مبرحا . فقد سمع كثيرا من جنود شاركوه زنزانات سجن أبو غريب كانوا قد تعرضوا لضرب مبرِّح وعقاب شديد على أيدي أفراد الانضباط العسكري في سجن الحارثية .
اقشعر جسده وهو يتخيل العصا تتكسر على أكتافه . عليه أن يكون صلبا صبورا ويتحمل .. سبق له وان تعرض لآلام الضرب . لكن ليس على أيدي أفراد الانضباط العسكري .
في آخر سرقة قام بها تعرض للضرب على أيدي افراد الشرطة يوم امسكوا به متلبسا بالجرم المشهود .
كان ذلك في صيف عام 1973 . يومها كان قد تسلل إلى حافلة نقل الركاب ذات الطابقين رقم 4 المتوجهة من الباب المعظم إلى ساحة الأندلس . ركبها باحثا بين راكبيها عن صيدٍ وضحية .
كانت الحافلة مكتظة بالركاب . اختار أن يكون قريبا من بابها الخلفي الوحيد – كانت حافلات نقل الركاب أيامها لها باب واحدة في الخلف, غالبا ما يقف الجابي بملابسه البنية اللون وحقيبته الجلدية عند الباب ساعة تكون مزدحمة بالركاب – .
تلصص بين الراكبين . فجأة وبنظرة ثاقبة رأى عملة ورقية حمراء من فئة الخمسة دنانير ( كان هكذا لون العملة أيامها ) تطل إحدى حواشيها من جيب احد الراكبين .
كان صغر حجم جسده يمكنه من المروق بين المتزاحمين بخفة . أغراه لون العملة وقيمتها ووضعها, ويسر له الزحام الأمر, أو هكذا ظن . نادرا ما كان يسرق من الرجال .
تسلل بخفة واقترب من الرجل . مد يده كما اعتاد .. بخفة متناهية استل الخمس دنانير من جيب الرجل . ظن انه فاز . قبل ان يدس الورقة في جيب بنطلونه امسك الرجل بتلابيبه . وصرخ :- جابي .. سد الباب .. سد الباب .. نشال .. دگ الجرص .. دگو الجرص يا جماعة .. انباگيت .
ما ان أغْلِق باب الحافلة حتى وانهالت عليه اللكمات من كل مكان . كان الرجل ممسك بيد شاكر دون أن يكف عن الصراخ :- انطوني الخمس دنانير .. شمرها يالگاع .. يجماعة لا تمردوها .
ناوله احدهم الورقة النقدية .
توجهت الحافلة الى مركز شرطة العبخانة .
هناك تبين بان الرجال الذي سرقه شاكر لم يكن سوى شرطي متنكر بملابس مدنية من اجل ان يمسك بالسارقين .
إذا فقد كانت تلك الدنانير الخمس طعما اعد له مسبقا .
يومها حاول ان ينكر التهمة رغم تلبسه بها . فذاق من العذاب ما ظن أن لا احد ذاقه قبله . اخيرا اقر بفعلته وأضاف اليها اعترافا بامتهان السرقة والنشل .
كان عليه ان يعترف بسرقات أخرى كي يحال الى المحاكم . فعملية سرقته للشرطي لا يؤخذ بها كونها من اعمال التوريط التي لا تصح قانونا . وهكذا اعترف على عمليتي سرقة من نساء سجلن شكاوى في مركز شرطة العباخانة عن مبالغ سرقت منهن تتراوح بين العشرين دينارا والسبعين .
أحَسَّ بلسعة ( الصوندات ) على جسده وهو يستذكر واقعة الفلقة .
لذا استقر رأيه على أن يتقمص دور المجنون المسكين, عسى ان يفلت من العقاب . لن يكون مجنونا مشاكسا . فجسده لا يتحمل العقاب الذي يتعرض له أولئك المجانين المشاكسين .
ثم انه لم يكن يمتلك الخبرة لحياة المجانين .. كل الذي يعرفه عنهم إنهم فاقدين للعقل .
احد المجانين في محلته .. محلة قنبر علي .. كان شارد الذهن دوما, يلف بين الأزقة ليتصدق عليه الناس . ذاك هو هلال أبو علاگة الذي كان يحمل كيسا من خوص يجمع فيه فضلات طعام وقطع خبز أو أقماع صمون مما يتركه الأطفال غالبا على الحافات الخارجية لنوافذ بيوتهم ليرمي بها إلى الكلاب والقطط التي تتجمع عادة بالقرب من ساحة السباع . أما الدراهم التي يتصدق بها الناس على هلال فقد كان أحيانا يرفضها وان قبلها فانه يتصدق بها على آخرين يظن أنهم أكثر حاجة منه بها .
كانت تحاك الكثير من الحكايات عن كرامات هلال أبو علاگة ومن انه ولي من أولياء الله الصالحين .
عدى عن ذلك فانه شاهد مرة في يوم من أيام احد الأعياد ومن على تلفزيون مقهى قنبر علي - التي لم يرتادها إلا في المناسبات والأعياد - فلم مصري للمثل إسماعيل يس في مستشفى المجانين وهو يرتدي بيجامة مقلمة تشبه البجامة التي يرتديها هو . يومها لم يهتم لإحداث الفلم ولا لأمر المجنون . بالقدر الذي انصب اهتمامه على حركات الممثل البهلوانية وهو يمط شفتيه ويحركهما كما تحرك القرود شفاهها .
لمعت فكرة الجنون في ذهن شاكر بعد ان سرح بخياله واستذكر كل أولئك المجانين الذين مروا بحياته .
***
في باحة دائرة الانضباط العسكري في الحارثية اجلس ومن معه القرفصاء بصفين منتظمين كل صف من عشرة أفراد داخل حديقة واسعة تضللها أشجار العفص .
كان جو الصباح ميالا إلى البرودة .
جاءت سيارات أخرى تحمل مخالفين آخرين . بعض السيارات لم تأتي سوى بفردين أو ثلاثة .
قارب عدد من تم جلبهم الأربعين .
حضر رئيس عرفاء الوحدة يمشي بخيلاء . معتدا بنفسه مرتديا بيرية حمراء وحذاء موشحا بقطعة من قماش ابيض واضعا تحت إبطه الأيمن عصا تبختر متسقة مع قيافته . حاملا في أحدى يديه دفتر ملاحظات مغلف بجلد صناعي بني .
صاح بالجنود الواقفين إلى جوار المخالفين دون أن يلقي عليهم التحية :- وگفوهم .
نهض معظم الجالسين قبل أن يصيح احد الجنود :- وقوف .. الكل توگف .
صاح النائب ضابط :- شوفوا .. ياهو اللي اوگف گبالة ينطق باسمه بلا ما اسأله . مالي خلگ كل واحد منكم اكرر عليه السؤال . واللي يعرف عنوان وحدته ينطيني عنوان وحدته . ويگلي ليش جابوه .. الهارب خلي يگول هارب .. لا يعذبنه . أشعل شيب الخلفه إلي يطلع هارب ويضم عليَّ . اول وتالي راح اعرف . بالمروة بالقوة راح اعرف . افتهمتوا ؟؟
صاح بعض الواقفين :- نعم سيدي ..
كرر النائب ضابط السؤال . كان يريد من الجميع رفع أصواتهم بكلمة نعم سيدي كي يتباهى بها أمام جنوده :- افتهمتوا .؟
صاح الجميع بمن فيهم شاكر وبصوت مرتفع كما الزعيق :- نعم سيدي ..
ثم استدار وخاطب بقية الجنود :- عريف ساهي تعال يمي .. الزم العصاية بين ما اكتب أسماء ذولي المخربطين .
بدا بآخر الصف .
عندما توقف أمام شاكر, بقى شاكر صامتا لبرهة قبل ان ينطق بالاسم :- اممم .. اممم عباس .
:- لك شنو عباس .. اسمك الثلاثي مخربط .. لا تخليني اعيد عليك .
:- ااااا محسن .
:- شنو عباس ..؟ شنو محسن . عوف هاي الكلاوات لك .. مخربط . شسمك الثلاثي . وين هويتك ..
قبل أن يجيب شاكر .. صفعه العريف بكف يده على وجهه .
قال دون تفكير :- عباس عبود .. محسن عباس ..
صاح النائب ضابط بالعريف :- عوفه .. مو وكتها عريف ساهي .. خل انشوف شنو قصته .. وين هويته .
توقف النايب ضابط ودقق النظر مليا في شاكر .. ابتسم بسخرية . ثم ادار وجهه وخاطب الجنود :- لكم هذا منين جبتو . حسبالك ستوكم مصحينه من النوم وجايبينه . چماله لابس بيجامه مقلمه . ومزين شواربه .. ههههه .
صاح الجندي الذي القى القبض على شاكر :- سيدي من گراج العلاوي ما عنده مستمسكات .. كان راكب بالسيارات الرايحة للديوانية . شكله مال واحد كلاوچي . وريحته حسبالك ريحة مساجين .
:- لك هذا حتى شكله مو نظامي . مبين عمره فوگ الأربعين ..
كرر السؤال على شاكر :- لك شسمك احچي .؟ّ!! وين هويتك .؟!! دفتر خدمتك .؟
التزم شاكر الصمت وتلافى نظرات النائب ضابط . فأجاب الجندي :- سيدي اشتميت ريحته حسبالك كان بالسجن .
:- أي لك مو افتهمنا .
قرب نائب الضابط منخريه من وجه شاكر وشمَّ رائحته :- لك هذا ريحته عنبه وبيض . ههههه يا سجن .
خاطب الجندي الذي جاء به :- سيدي .. عاهدتك اجيب لك عشرين واحد بيوم الجمعة .. وهاي جبت لك العشرين .. حتى ..
:- كافي .. كافي افتهمت .
ثم وجه حديثه لشاكر :- لك اوگف على صفحة بين ما اخلص من ذولي المخربطين .
أسرع احد الجنود وابعد شاكر من بين صف الواقفين .
بدء شاكر يشعر بالارتياح . يبدو أن النائب ضابط إنسان طيب . ربما يطلق سراحه قبل أن يصل إلى علمهم خبر هروب احد الموقوفين من مركز شرطة الثورة .
عليه أن يستمر بتقمص الدور . ابتدع حيلة جديدة . جمع ما أمكن من لعابه داخل فمه وقرر أن يخرجه من بين شفتيه في الوقت المناسب .
بعد أن فرغ نائب الضابط من تسجيل أسماء المخالفين وذكر نوع الجرم الذي ارتكبوه, عاد إلى شاكر .
أمر احد الجنود بتفتيشه, عثر في جيبه على النقود .. لا شيء سوى النقود, ثلاثة دنانير إلا ثلاث دراهم .
:- لك هاي منين لك .؟
سأله نائب الضابط بود .
اخرج سيل اللعاب من فمه قبل ان يتمتم بكلمات غير مفهومة .
اشاح النائب ضابط بوجهه عنه اشمئزازا .. يبدو أن الخدعة انطلت عليه .
صاح بالجندي :- لك ادري گلت لك اعفيك من العقوبة اذا جبت لي عشرين مخالف, خوما تروح تجيب لي مخابيل .
:- سيدي والله هذا ما مخبل .. اذا مخبل شعنده رايح للديوانية .. بعدين هاي الفلوس منين له .
:- لك بابه شعليك بالفلوس .. يجوز مگديهن .. بعدين ما شفت شيباته وعمره . هذا حتى اذا ما خادم عسكرية هماتين يعفو منها لكبر سنة .. مبين عمره اكثر من خمسة وأربعين .
:- والله سيدي بعد بقت بكيفك .. بس اشوف احسن شي اندزه للشماعية .. يجوز مهزوم منها .
تمعن نائب الضابط بشاكر ومن ثم نظر الى الجندي والعريف وهز رأسه معبرا عن حيرته .
:- أي .. معقولة .. حتى اذا ما كان هارب من الشماعية .. هماتين مبين عليه مجنون .. بلكت يشوفون له چاره ويحافظون عليه .. احسن ما يبقى بالشارع, ويجوز تجيبه مرة ثانية ههههه .
***
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي