في الزنزانة .. 5

5
زنزانة جديدة

الزنزانة التي اودع فيها شاكر في دائرة الانضباط أكثر سعة من غرفة التوقيف في مركز شرطة الثورة واكثر منها عتمة .
بعد ان اعتادت عينا شاكر على الظلمة تبين أن فيها ما لا يقل عن عشرين من المعتقلين السابقين, وهكذا صارت تغص بما يتجاوز الخمسين معتقلا, فيما قًدَّر أنها لا تتعدى العشر مترات طولا والخمسة مترات عرضا .. رائحة النتانة فيها تفوق تلك النتانة التي كانت تفوح من غرفة توقيف مركز شرطة الثورة . فالقاعة هنا خالية من أية نافذة علوية, حيث فتحة التهوية الوحيدة في أعلى الباب والتي لا تتعدى القدم المربع الواحد تغلق بمزلاج ولا تفتح إلا عند الحاجة, ساعة أن ينادي الحراس على موقوف من الموقوفين أو يستدعونه لأمر ما .
الميزة الوحيدة التي يمكن أن تحسب في ميزان حسنات هذه القاعة ( إن جاز لنا أن نسميها حسنات ) هي أن فيها مروحتين مثبتتين في أعلى السقف المرتفع نسبيا توزعان الهواء النتن بانتظام, وتصدران صريرا منتظما يثير الضجر في النفوس .
بعض من جيء بهم مع شاكر من گراج العلاوي ومن أماكن أخرى, أودعوا في قاعات أو زنزانات مجاورة .
هي المرة الأولى التي يحتجز فيها شاكر بزنزانة كهذه . فالأماكن التي احتجز فيها من قبل لم تكن مكتظة بالسجناء كاكتظاظ هذه القاعة, فرائحة النتانة التي تفوح من آخر القاعة حيث يوجد مكان التبول وقضاء الحاجة ) أجلكم الله ( تزكم الأنوف .
أما الجدران فحالها كحال جدران كل السجون والزنازين . لم يترك السجناء المتعاقبين بقعة من مكان الا وضعوا لهم بصمة فيه, بأقلام الرصاص أو بغيرها . فعلى الجدران خُطَت عبارات تؤرخ لسجناء سابقين يشكون الظلم والقسوة وفراق الأهل والأحباب وفيها أيضا أبيات شعر في الرثاء والغزل وفراق الأحبة والديار . نُحِتَ بعضها بخط جميل وكُتِبَ الأخر بحروف يصعب حل شفراتها . فيما رسم آخرين صورا لفتيات شبه عاريات ومجسمات لقلوب مكسورة أو عيون دامعة أحيطت بحروف وعبارات تبعث الأسى في النفوس .
امتزجت الخطوط والرسومات على الجدران وشكلت لوحة سريالية عصية على التحليل .
بعد أن أجال شاكر بصره في المكان حَدَّثَ نفسه :- أويلي عليك شاكر .. لك هذا يوم واحد هنا يعادل الثلاث سنوات اللي قضيتهن بسجن أبو غريب .
لك شلون راح تتحمل هذا الضيم . ؟!! هاي لو جالديك مية جلده ومسربتيك من الباب ولا هاي الحصرة .!! لو باقي تنتظر مصيرك بسجن مركز شرطة الثورة اشرف لك الف مرة من هاي الخيسة .!!
لك هذا لا سجن العبخانة ولا سجن التسفيرات مثل هذا المكان .. مكان للنومة ما متوفر لك تنام ..
السجناء هنا يتناوبون في أماكن النوم . فان نام بعضهم يتوجب على الآخرين البقاء واقفين ريثما يأخذ ألنائمين قسطا من الراحة .
كل الإماكن التي سجن فيها شاكر سابقا لم تكن بهذا السوء .
فالوضع في سجن ( ابو غريب ) أفضل بكثير مما هو عليه في سجن الحارثية .
القاعات في سجن ( أبو غريب ) واسعة جدا ولكل قاعة نوافذ عدة يدخل منها الهوى, ولا تغلق أبواب القاعات إلا في المساء . أما في النهار فيتجول السجناء في الساحات الواسعة المكشوفة ويستنشقون الهواء الطلق . ولكل واحد من السجناء سرير ودولاب يحفظ فيه إغراضه .
فيما يمضي الكثير من المسجونين في ( ابو غريب ) أوقات النهار بممارسة بعض الألعاب الرياضية, ككرة القدم أو المضرب أو الطائرة . وهناك أيضا قاعة لرفع الأثقال وكمال الأجسام وممارسة رياضة الجمباز . أما كبار السن والمتكاسلون فيمضون أوقاتهم بلعب الورق أو النرد ( الطاولي ) أو الدومنا والشطرنج . وآخرين يذهبون إلى ورش العمل من حدادة ونجارة وحياكة وما الى ذلك . ولا ننسى ان في السجن مكتبة غنية بكتبها وهناك مدرسة أيضا . فيما يسمح لطلاب الكليات أداء امتحاناتهم خارج السجن رفقة احد الحراس . وآخرين كانوا ( يتطوعون ) للعمل في المزارع الحكومية القريبة خصوصا في أيام جني القطن او عزق الأرض .
لذا فان سجن أبو غريب يعتبره نزهة إذا ما قورن بسجن انضباط الحارثية .
يعرف شاكر جيدا أن السجن, أي سجن, لا يخلو من الجواسيس والمتملقين والمنافقين . وان لعب دور المجنون الذي قرر أن يتقمصه يتوجب عليه أن يجيده وان يمضي به حتى النهاية . لذا فعليه أن لا يغفل لحظة واحدة عن لعب ذاك الدور .
عموما فان دور أولئك المنافقين يتمركز حول كسب ود الحراس وإيصالهم مقابل ذلك المعلومات التي لا تخلو من التزويق والتزييف والتحريف والتهويل والتأويل عن تصرفات البعض من السجناء والمعتقلين ممن لا ينالون رضاهم لأي سبب من الأسباب . في ذات الوقت نجد أن هؤلاء الذين من الممكن تسميتهم بالمنافقين لا يتوانون عن ارتكاب أعمال أكثر بشاعة وخسة من الآخرين .
غالبا ما يختار القائمين على السجن احد هؤلاء وعادة ما يكون هذا من أكثر السجناء جسارة ومشاكسة وخسة ونذالة, يكلفونه بمسؤولية توزيع الطعام وإحصاء الموقوفين وما إلى ذلك من أمور تيسّر عملية مراقبة سلوك المحتجزين أو السجناء أو الموقوفين من الداخل .
ولان في السجن ( حسب الخبرة السابقة لشاكر ) أشخاص يتلقفون الفقير ويستغلونه ويسخرون منه ويهينونه ويُسخِّرونه لمنافعهم .
لذا فكر لحظة دخوله أن يتفحص المكان ويتحاشى جهد إمكانه الوقوع تحت طائلة من يريدون السخرية منه وان يلوذ تحت جنح من يجد انه أهلا للاستجارة ويتقرب من مسئول الزنزانة ويتملقه ويكسب وده . دون أن يجعله يشك في أمر كونه مجنونا .
دائما ما يحتل المسئولين عن الزنزانات أو المراقبين احد أركان الزنازين . وفي كل الأماكن التي أقام فيها من قبل لاحظ أنهم يتخذون لأنفسهم أماكن أوسع من أماكن أقرانهم . يتركون مسافة خالية بينهم وبين اقرب مسجون لهم, يضعون فيها أغراضهم وحاجياتهم . وأحيانا يتخذها البعض منهم مكانا يأوي إليه من يرغب إيواءه من المسجونين لمقاصد غير أخلاقية لا أحبذ الخوض فيها .
اتخذ مسؤول الزنزانة ركنا له على يمين بابها .
كان شاكر اخر من دخل الى الزنزانة ذاك اليوم, فاختار ان يتخذ له مكانا الى جوار الباب . مكانا ليس ببعيد عن مسؤول الزنزانة . جلس القرفصاء كور جسده وتظاهر بالخوف ممن يحيطون به . صاح به احد من المساجين القدماء . :- لك هاي وين .. خلي مكان للرايح وللجاي ..
لاذ بالصمت وكأن الأمر لا يعنيه .
رفع مسؤول الزنزانة راسه مبديا تذمره من اللغط الذي حصل وصاح بالجميع :- لكم هاي شنو الصياح .
فاجابه احدهم :- لا ما كو شي أبو شهاب .. هذا المسكين الخبل ما اعرف ليش جايبينه الزنابير ( يقصد الانضباطية ) يمكن دا يكملون عدد . حتى شكله مو نظامي . خوات الــقحبه ملفلفين وين ماكو واحد بگراج العلاوي وجايبينه بمصباح يوم الجمعة .. ناس على مود البيرية وناس متجاوزه على الاجازة .. ومن هالشغلات التافهة .
قبل ان يرد عليه أبو شهاب قرقع مزلاج الباب من الخارج . فتح فاطل اثنان من الحراس احدهم يحمل في احدى يديه ورقة .. صاح :- سكوت .. اللي اقره اسمه خل يتقدم للباب ..
تعالت الهمهمات :- يا الله .. يالله .
وبدت موجة من اللغط والتساؤلات . بعضهم استفسر عن سبب المناداة .. آخرين ظنوا أن قائمة الأسماء تتضمن مجموعة من المخالفين ممن يتوجب عليهم العقاب . فيما آخرين أولوا الأمر على انه يتعلق بتسخير البعض لتنظيف غرف الضباط كما جرت العادة . مع هذا تقدم ما يقرب من العشرة من المسجونين وتزاحموا عند الباب قبل ان يبدء الجندي بقراءة أسماء المطلوبين .
صاح الجندي :- عادل عباس حسن .
فكرر احد السجناء الاسم بصوت مرتفع .
:- عادل عباس حسن .
هكذا تكررت الأسماء أكثر من مرة .
ياهو اللي يقرون اسمه يتقرب من الباب ويدفع شاكر برجليه عن المكان اللي كان يريد يگعد . اكثر المساجين تقربوا من الباب حتى اللي ما صاحو أسمائهم . الكل كانو يتاملون يصيح الحرس باسماهم . حتى لو بالغلط حتى على الأقل يتنفسون هوا صافي ونقي من ينفتح الباب .
صاح بحدود عشر أسماء . كلهم من اللي جابوهم وي شاكر . قسم منهم من اللي ما كانو شايلين مستمسكات . الظاهر أهلهم سامعين عن طريق معارفهم ولاحگيهم بالمستمسكات . ذولي اكثريتهم من اللي يشتغلون بالگراجات اما سكنية ( مساعدين سواق ) او يبيعون عصير وماي ولفات .
اهم شي بالنسبة لشاكر يحافظ على مكان قريب من المكان اللي فكر يحتله, حتى من ينفتح الباب يتنفس هوى نقي . حتى لو نفسين او ثلاثة .
انفتح الباب وتنفس شاكر وطلعوا اللي صاحو باسمائهم وانسد الباب وبقى شاكر محافظ على مكانه . تكور مثل القنفذ وخله راسه بين ايديه ورجلية واحتل ازغر مكان يحتويه . وبقى ينتظر التطورات وعلى ضوئها يحدد سلوكه .
قبل لا يرتاح صاح الحرس مرة ثانية :- سكوت .. اللي اصيح اسمه يتقرب من الباب . مواجهة .
هماتين تعالت الأصوات بالقاعة :- يا الله .. يا الله .
بهاي المرة اكثرهم تقدموا من الباب . دوسوا على شاكر بلا ما يعيرون اهتمام لوجوده . قسم منهم سبه وقسم غلطو عليه وفشروا على امه .
لازم يتحمل كلشي ويصبر .. فشار دفرات .. ضرب واهانات بلكت تمشي عليهم خطته .
عصر نفسه وسوه روحه يتالم ويبچي . بلكت بشوفه مسؤول الزنزانه ويحن عليه .
بالبداية .. أن وون وبالاخير تحول بچيه من تمثيل الى صدگ .. بلا ما احد يسمعه .
تذكر كل الويلات والمآسي اللي صابته ومرت بي وانفجر وانهمرت دموعة على خدودة .
ما كان احد يسمعه . الكل كانو منشغلين بسماع أسمائهم . ما التزموا باوامر الحرس من طلب منهم يسكتون حتى يصيح أسماء اللي دايواجهون . ولا التزمو بكلام مسؤل القاعة وغيره من المساجين اللي كلنوا يتاملون يزوروهم أهلهم بذاك اليوم . .
ما عاد يسمع صياح المساجين ولا اهتم لدفرات اللي طلعوهم للمواجهة ولا عاد يسمع غير صوت الظلم والقهر والالم داخل نفسه .
اكثر من ثلاث سنوات كان يحلم يطلع بيها من السجن ويرجع لامه يداريها ويتعذر منها, لان ما كان بار وياها ولا وفّاها حقهم ولا التزم بنصايحها وكلامها من كانت تطلب منه يداوم بالمدرسة . شنو اللي سواه من طلع ..؟!! عاف امه وراح يدور على مرته وبنته . وتاليها وگعنا بداهية بلا ما يعرف سببها .
لك شاكر .. مو انته تعرف كلش زين هاي هيفاء .. شورطك وتزوجتها . مية مرة امك گالتلك .. ابني هاي ام دروب ما تصلح لك وما ضل واحد بالخانات ما لعب عليها . دگيت رجل الا تاخذها .. والله شنو ..!! كل ما تتلگاك الصبح عند فرن الصمون براس الشارع تضحك بوجهك وتغمز لك واخذت عقلك بغمزتها .
تاليها اكلتها . بس صارت يمك ما عاد تهتم لك وليل ونهار عاقچه گصتها بوجهك .
تلاشت أصوات المساجين وتوقف عن البچي بصوت عالي وبدن دموعة يسفن على خده وينزلن على شفايفه وحنچه .. كان يبچي بصمت وبحرگه .
هواي مساجين طلعو للمواجهة . من بينهم مسؤول القاعة . خفَّت الهوسة واستغل البعض المكانات الفارغة ونام بيها بين ما يرجعون الجماعة من المواجهة .
طولت المواجهة اكثر من ساعتين . بهاي الفترة صاحو الحراس بأسماء سجناء اخرين وطلعوهم بلا ما يعرف الأسباب . وعلى اثرها خف الازدحام بالقاعة .
بكل مرة يحضر الحرس ويقرا الأسماء يتهيء له يصيح اسمه .. يكتشفون حقيقة ويصيحون اسمه الحقيقي .. شاكر محمود ويضيع عليه تعبه وكل مغامرته .
مر وقت هواي قبل لا يرجعون المواجهين من الزيارة . محملين وياهم بفوكه واكل وملابس نظيفة او جديدة .
فتحوا الأكياس وبدو يطلعون الأكل ويخلوه گدام اللي ما حضر احد من أهلهم لزيارتهم .
كان ينتظر يعزمه واحد من المساجين . ما اهتم احد لامره . رفع راسه من بين رجليه اكثر من مرة حتى يشوفهم عيونه المحمرة ويعطفون عليه . ولكن بلا جدوى .
ريحة الاكل طغت على ريحة الزنزانة النتنه .
هو الجوع اقوى من قدرة الانسان على المقاومة . تندم لان ما كمل اكل لفة البيض بالگراج وتركها على كشن السيارة .
بدو يلمون بقايا الطعام . عندها اقترب منه أبو شهاب ونغزه من راسه بواحد من أصابعه .
رفع شاكر راسه بلا ما يفك حلگه .
:- هاك اكول .. ربك يحلها .. باچر عگبه يطلعوك وتديح بالشوارع . بس الويل ويلنا .. الله واعلم امته نخلص من هاي الاكلان الوحل . اكول .. اكول ..
لو بس اعرف هذا ابن العاهرة اللي جابك شگال لربه .
اخذ من أبو شهاب گرصة خبز تنز دهن ملفوفة بجريدة قديمة . كان خال بداخل الگرصة شيشين كباب وبصل وطماطة مشويه وريحان .
اخذهن بلهفه وحاول يبالغ بلعب دور المجنون .
قبل لا يفتح الجريدة نهش منها نهشه .
:- لك بابه على كيفك . ما احد ياخذها منك .. اوگف اوگف ..
جر أبو شهاب اللفه من ايد شاكر وجمع قطعة الجريدة بوحدة من ايدي وعقچها ورجع لف شيشين الكباب والبصلات داخل گرصة الخبز وناوشها الشاكر .
الحمد لله ياربي هذا طلع خوش ادمي .. انسان طيب .
حاچاها شاكر لنفسه .
بعد ما كمل اكل جاب له دشداشة نظيفه وطلب منه يبدل ملابسه . اخذها منه وخلاها بصفه .
صاح أبو شهاب على واحد من المساجين وطلب منه ينزعه لشاكر بجامته ويلبسه الدشداشة .
***
نام شاكر ذيچ الليلة بصف الباب . گضاها لليلة بين النايم والگاعد . حاول كل جهده ما يتحرك الا عند الحاجة ولا يرد على أسئلة الاخرين وكل ما يسئلونه يحرك راسه يسار ويمين ويمتمت باجاباته .
الصبح كان ينتظر بوجل يصيحون اسمه .
مثل ما توقع . صاح الحارس من ورا الباب :- عباس عبود .. عباس عبود ..
ولا احد رد بالقاعة ..
رد صاح الحارس :- أبو شهاب .. شوف لي هذا الخبل خوما نايم ..
نسى شاكر اسمه وظن ديصيحون باسم واحد غيره .
صاح بي أبو شهاب :- يا ول شسمك .. .؟
انتبه شاكر وحاول يستذكر الاسماء اللي نطقها قبل لا يدخلونه الزنزانة .
:- هاااا محسن .. عباس ..
:- لك بابه .. شنو محسن شنو عباس .. يعني انته مو عباس عبود .
هز راسه بالموافقة .
صاح بي أبو شهاب بعصبية .
:- ما تحچي وترد على الحرس .. يله گم .. ها يشلون بلوه .. ما گتلك باچر يطلعوك .. ونبقى احنا هنا .. والويل ويلنا .
تفطن شاكر على بجاماته وراد يتقن دور المجنون . التفت باللحظة اللي انفتح بيها باب الزنزانة .
وتمتم وهو يطلع التفال من حلگه :- باجامه .. بجامه ..
بقى يكرر بجامة .. بجانه حتى بعد ما جره الحارس من ايده وطلعه خارج الزنزانة وسد الباب .

وللحكاية بقية
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي