قدر الفقراء ..2

2
أم شاكر

أم شاكر لا يعرف لها تاريخ ميلاد . ربما تكون جاوزت السبعين . أنهكها الفقر والعوَز وعوادي السنين فالتصق جلدها بعظمها, فكثرت وتشعبت خارطة التجاعيد على وجهها وكفيها . انحنت قامتها وانكمش جسدها وقصرت وتباطأت خطواتها, فاضطرت للاستعانة بعصا تتوكأ عليها في مشيتها .
تسكن أم شاكر في غرفة ببيت هجره أصحابه من سنين طويلة, في محلة قنبر علي, المحلة البغدادية العتيقة .
يزعم بعض جيرانها إن البيت يعود في الأصل لأحد التجار اليهود ممن هاجروا من العراق عقب أحداث ما يسمى بثورة رشيد عالي الكيلاني سنة 1941 أو ما يسمى بسنة الفرهود . وآخرون ينكرون ذلك .
البيت خربة تكاد تتهاوى أركانه على ساكنيه, يشاركها السكن فيه عوائل فقيرة احتلت كل عائلة منها غرفة أو غرفتين من المنزل .
غالبا ما كان يتغاضى القائم على جمع الإيجار عن استحصال ما بذمة أم شاكر من اجر, لإدراكه مدى فقرها .
يوم أن عاد إليها شاكر بعد أن أطلق سراحه من السجن, بعد طول غياب, احتضنته وبكت كما تبكي الأمهات لحظة لقاء أبنائهن بعد طول فراق . بكت بدموع شحيحة . فقد أنضبت المآسي والسنين الدموع في مآقيها .
لم يتبق لها من احد في هذه الدنيا غيره . بل لم يكن لها من قبل احد قبله . لقد كانت كمن ظهرت من المجهول . حتى إنها لا تتذكر من يكون أبوها ومن تكون أمها . فمنذ أن غادر أبو شاكر الحياة وترك ابنه رضيعا في حجرها آلت على نفسها أن تهتم بابنها وان تبقى عزباء طيلة حياتها, عسى أن يعوّضها ربها بابنها خيرا فترعاه ويرعاها .
شانها شأن معظم الأمهات كانت تتمنى وتحلم أن يُتِمَّ شاكر دراسته وتكون له وظيفة حكومية يعتاش منها, لكن الفقر حال بينها وبين أمنياتها . كذلك فعل الفقر بشاكر . لما بلغ مرحلة الصبا رافق أصدقاء سوء علموه ما لم تتمنى له الأم أن يتعلم .
مع كل الذي جرى لها بغيابه إلا أنها لم تظهر له ساعة لقاءها به أية شكوى من زوجته هيفاء, ولم تتطرق إلى سوء معاملتها بغيابه, ومن ثم تركها للمنزل في غفلة ودون إذن منها . كي لا تعكر صفو اللقاء بينها وبين ابنها. من ثم فإنها ما عادت تهتم لشأنها . كما تقول, كانت تنتظر أيامها الأخيرة, بعد أن ادركت أن الحياة رحلة قصيرة لا تستحق أن تعاش .
عندما وجد شاكر زوجته هيفاء آثر أن يتجاوز كل هفوات الماضي بينهما . فقد خبر من قبل عنادها . وقرر أن لا يفتح صفحات العتاب والمسائلة وأن يبدأ معها صفحة بيضاء جديدة . كما انه عاهد نفسه قبل أن يعاهدها بان يسعى لعيش حياة مختلفة . تتسم بالهدوء والركون إلى الراحة, بعد أن يبحث له عن عمل شريف يقتات منه . كأن يكون في مهنة الحدادة التي تعلمها في السجن .
فوجئت هيفاء بخروج شاكر من السجن . وصدمت بزيارته لها في بيتها الجديد البعيد عن محلته القديمة, وهي التي كانت تظن أن غيابه سيطول سنين, وان لا يتمكن, إن هو خرج من السجن, أن يسترشد على عنوانها .

بعد أن استقر به الحال في المنزل سألها وابنتها عن ذاك الشاب الذي تقدم لخطبة البنت وظن انه تزوجها . حينها لم يعد يتذكر اسمه, فذكرت له الأم متمتمة متهكمة بأن الزيجة لم تتم :- اهااااا . محسن .. محسن .. كانت خطوبة فاشلة .. مممم .. لم يتم الزواج من ذاك المتسكع القذر . الحمد لله على أن الزيجة لم تتم .
عندها رمقته ابنته بنظرة لهى معنى فغير حديثه ولم يدقق في التفاصيل .
فيما تغاضت هيفاء فلم تسأله عمن اخبره بالأمر , لانشغال فكرها بما لا يخطر على بال شاكر .
منذ نعومة أظافر ابنته أزهار كانت أمها هي المسيطرة . تتحكم بتصرفات ابنتها وأقوالها وتوجهها الوجهة التي تريد, ولا تترك لها فرصة اتخاذ قرار لوحدها . لذا كان موقنا إن الأم هي من دبرت تلك الخطبة الفاشلة وإنها ربما تكون حضرت معهما إلى السجن إلا أنها آثرت الانتظار في الخارج ريثما يأخذون موافقته . كما أيقن, وربما يكون على وهم, بان الأم هي من وقف عائقا بوجه تلك الزيجة .
طيلة السنوات الثلاث ونيف التي أمضاها شاكر في سجنه, لم تزره هيفاء سوى مرة واحدة, في أول أيام سجنه . من ثم انقطعت عنه دون أن يعرف لذلك سبابا .
***
مضت الأيام على شاكر في زنزانة مركز شرطة الثورة . بطيئة .. قاتلة .
في كل يوم يمر دون أن يستجد أمر يجتاحه إحساس باليأس والضياع والخشية من أن لا يجد منفذا ينجيه من التهمة الموكلة اليه .
في السجون غالبا ما تنعقد علاقات صداقة ليس ككل الصداقات . إنها تشبه الى حد بعيد تلك العلاقات الوثيقة بين الصبية والمراهقين . غالبا ما يكون احد أطرافها مستعد للتضحية بالكثير من اجل الآخر كي يحافظ على كلمة أو عهد قطعه .
كذلك كانت لشاكر علاقات من هذا النوع سواء في سجن أبي غريب أم في غرفة الموقف في مركز شرطة الثورة .
لما يأس من أن تتمكن الشرطة من الاستدلال على عنوان محسن وتحضره ليدلي بشهادته . بدأت تساوره الشكوك والظنون في قدراته العقلية وفي حقيقة ما ذهبت إليه زوجته وابنته في شكواهما ضده . حتى ظن إنهما ربما كانتا صادقتين فيما ذهبتا أليه .
صحيح انه لم يحتس الخمر ولا جرب تناول الحبوب المنومة يوما ولكنه في اليوم الذي أمضى ليلته عند زوجته وابنته نام مبكرا واستيقظ متأخرا .. ولما استيقظ أحس بوعيه مشوشا . عزا ذلك حينها إلى انه كان تعبا . وللنوم في البيت طعم آخر .
كل الذي يتذكره ليلتها أن زوجته قد تمنعت عنه ساعة أراد أن يأويا إلى الفراش معا, ولما لم يكن يريد ان يثير بينه وبينها شجارا اكتفى باحتضان ذراعها . وقبل إن يغفو هيأ له انه امسك بيد ابنته, التي قدمت لأمر ما, فجلست إلى جواره .
فهل كان يا ترى قد فقد وعيه لسبب لا يعلمه, وفعل فعلته التي فعل . أم أن الزوجة دبرت كل ذاك أمرا .
كثيرة هي الأفكار السوداء التي جالت بخاطره . من بين تلك الأفكار السوداء التي أقضت مضجعه وطيرت النوم من بين جفنيه . هو خشيته من أن يساق إلى المشنقة يوما ما . بعد أن يعجز عن إثبات براءته, هذا إن كان بريء حقا .
تضائل أمل حضور محسن وصار ضربا من الخيال . حتى انه شك في أن يكون التقى بشاب اسمه محسن .. ومن يقول انه إلتقاه .؟!! ليس هناك أي شهود ..!! .
وإن التقاه ..!! من يقول إنَّ اسمه محسن .؟!! لا احد يثبت ذلك .
ربما يكون الشاب قد اتفق مع زوجته وابنته على التخلص منه لأمر لا يعلمه .
بعد كل الذي حصل, لم يعد أمام شاكر إلا منفذ واحد يمجيه مما هو فيه .. ألا وهو الهروب .. نعم لابد من الهروب من السجن للخلاص من حبل المشنقة أو البقاء في السجن إلى أن يدركه الموت .
لذا بدء يعد العدة لهروبه .
فها هو قد ذاق طعم الحرية لأيام معدودة بعد خروجه من سجن أبي غريب . فما عاد مستعدا لفقدانها مرة ثانية وإلى الأبد .
ولأنه موقن أن فكرة الهروب من غرفة التوقيف أمر ليس بالهين إن لم يساعده فيها احد, فقد لجأ إلى صديقه عباس تنوره .
عباس تنورة والذي لا يُعْرف له اسم غيره, دون أن يُعْرف احد السبب الذي جعل الآخرين يطلقون عليه هذه الكنية . عباس .. رجل ينزع إلى الطول, بل إن طوله يقارب المترين إلا قليلا . مفتول العضلات .. ذا شاربين أسودين معقوفين, يتباهى بهما .. وبهما يغلظ الأيمان كلما أقسم على أمر أو عاهد عهدا ... فيقول مثلا :- اخذها من هذا الشارب .
. سأتكفل الأمر بشاربي .
اسر شاكر إلى عباس تنورة نيته بالهروب من السجن, بعد أن امسك بأطراف شاربه وطلب منه أن يقسم بألا يبوح بالأمر لأحد حتى وان لم يرُقه الأمر ولم يرغب بتقديم المساعدة .
بعد أن اقسم له عباس بشاربيه أوجز له شاكر خطة الهروب من السجن مبينا أن بإمكانه مساعدته بقص احد القضبان الحديدية في النافذة العلوية لغرفة التوقيف, والمطلة مباشرة على سطح بناية المركز كي يتمكن من الهروب . لذا اوكل امر تدبير منشار حديدي إلى صديقه عباس . كذلك كان على عباس مساعدة شاكر وحمله على أكتافه ليمكنه من قطع قضبان النافذة العلوية .
وبما أن عباس تنوره من الباحثين عن المغامرة فلم تمنع . بل انه تحمس للأمر وعاهد شاكر على الآتيان له بقطعة من منشار حديدي بأقرب فرصة مواتية ووفق ما يريد .
***
لعباس تنوره عشيقة تأتي لزيارته بين الحين والأخر . غالبا كل يوم جمعة . وكلما حضرت أحضرت معها ما لذ من الطعام وطاب .
عادة ما كانت تحضر تلك العشيقة إلى مركز الشرطة, واسمها دلال, متبرجة متعطرة متغنجة . ولأنها كانت كذلك فغالبا ما كانت تلقى الترحاب من مفوض الخفر أو الحراس الذين لا يخفون شرههم بما تبديه من مفاتنها متغاضين في أحيان كثيرة عن تفتيش ما تحمله من أمتعة وملابس لعشيقها لقاء ابتسامة أو كلمة دلال تبديها هم .
لما حضرت دلال في اليوم الذي أعقب اتفاق شاكر وعباس تنورة على تدبير أمر هروب شاكر . طلب منها عباس أن تحضر معها في الزيارة القادمة قطعة منشار حديدي لا يتجاوز طولها الشبر, وان تدس هذه القطعة في كعب قدر الطعام . وحذرها من النقاش أو البوح بالأمر .
نفذت دلال ما طلب منها . وأحضرت بعد عدة أيام قطعة المنشار, وباشر شاكر بتنفيذ خطته .
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي