قدر الفقراء .. 3

3
الهروب

أمضى شاكر أكثر من أسبوعين في محاولات حز احد القضبان الحديدية للنافذة العلوية لغرفة الاعتقال قبل أن يصل إلى الحد الذي يمكنه من ليّها وكسرها .
كان هو وعباس تنورة يترقبون نوم بقية الموقوفين . من ثم يتأكدوا من أن حرس الباب منهمك بتنظيف باحة المركز الداخلية أو منشغل بعمل آخر بعيدا عن غرفة التوقيف . عندها يبادر عباس تنورة إلى رفع شاكر على أكتافه كي يتسنى له بلوغ الارتفاع المناسب لانجاز العمل الذي أقدم عليه .
في كل مرة كان شاكر يلف قطعة المنشار الحديدي بخرقة مبللة بالماء كي لا يصدر المنشار صوتا عند النشر, ويقلل من تأثير درجة حرارته على يديه ويجعله أكثر سلاسة وسهولة . ولما وصل حدا ما عاد يتمكن منه تحريك المنشار, استعاض عن الماء بقطعٍ من زيت الطعام . أتت به إليهم دلال أيضا .
وما أن وصل إلى الحد الذي صار بإمكانه لي وكسر القضيب حتى توقف عن النشر وتركه كما هو . بانتظار اليوم الموعود .
كان عليه أن ينتظر ليلة الجمعة . ففي صباح يوم الجمعة غالبا ما يحضر المفوض الخفر متأخرا . وذلك يتيح له متسع من الوقت للابتعاد عن بغداد قبل أن ينكشف أمره . حيث من المعتاد أن يحصي مفوض الخفر الجديد أعداد الموقوفين بحدود الساعة العاشرة ليستلمهم من المفوض المنتهية خفارته .
فجر يوم الجمعة وبعد أن اطمأن من أن جميع من في الزنزانة نيام, أعلن لعباس تنوره بان ساعة الصفر قد حانت .
تمر بالإنسان لحظات يظن فيها إن عقارب الساعة قد توقفت وان نبضات قلبه تعالت وغدت كما صوت الطبل وتفتق سمعه وبصره وصار أكثر رهافة وحدة , فيظن أن بإمكانه رؤية وسماع دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء . كما يقولون .
بخفه ارتقى شاكر أكتاف عباس تنوره دون أن ينسى توديعه . أرهف السمع لحظات . ثم طوى قضيب الحديد ذات اليمين وذات الشمال فانخلع بين يديه بيسر .
الصق قدمه اليسرى بالجدار واتكأ باليمنى على كتف عباس ودفع برأسه خارج النافذة بعد أنْ تأكد من أنَّ لا احد في الخارج . أنعش روحه الهواء الطلق وزاده حماسة .
أعانه عباس بأحد كفيه كي يتمكن من رفعه أكثر وييسر عليه دفع جسده خارج النافذة .
مرق بخفة من بين الفتحة الضيقة للنافذة .
الآن صار فوق سطح بناية مركز الشرطة .
التفت يمينا ويسارا .. يا الله .. هناك في الجانب الآخر سرير .. !!
يبدو أن احدهم نائم فوق سطح المركز .
لا مجال للتراجع .. التصق بالأرض وضل يترقب . كتم أنفاسه وأرهف السمع . أغمض عينيه قليلا كي ترتاحا وتتمكنا من رؤية الأشياء بشكل أوضح . فقد خيل له أن كل ما يراه من حوله يتحرك, حتى الجدران والمباني القريبة .
بينه وبين شروق الشمس أمد بعيد, فلا هو يريد البقاء على سطح البناية إلى أن تشرق الشمس, ولا هو راغب بالتسلل في الظلماء خشية أن يراه الحراس الليليين ويشكون في أمره .
كان ينتظر آذان الفجر وبدء خروج الناس من منازلها إلى أعمالهم, ليتسلل بين الأزقة حتى يبلغ شارع العمل الشعبي .
في ذات الوقت كان يخشى أن يستيقظ النائم على السطح فيكتشف أمره .
قرر أن يجازف وينسل بجوار الجدار الخلفي ويتسلل إلى اقرب زقاق في القطاع 24 ويختبئ تحت عربة يجرها حصان رآها متوقفة غير بعيد في مدخل اقرب زقاق من الزاوية الغربية للمركز .
كان لابد له أن يمر بجوار السرير, إن أراد أن لا يراه احد . فالنائم على السرير اختار مكانا معتما لا تصله إنارة مصابيح الشارع العام .
بخفة اجتاز المسافة بينه وبين السرير . انبطح بجوار السرير . كتم أنفاسه واستمع إلى ما يصدره النائم من شخير .
أطمأن ..
زحف على بطنه إلى أن وصل إلى حافة الجدار الخلفي للسطح, حيث المكان أكثر عتمة .
مد ساقيه عند الحافة وتدلّى بجسده . انسل على الجدار كما السحلية . لم تكن خلف المركز سوى أكوام تراب ومستنقع صغير لمياه أسنة مليئة بالأحجار والنفايات .
سار بمحاذاة الجدار إلى أن وصل إلى الركن المقابل لعربة الحصان .
تشتهر الأحصنة برهافة حسها وقوة سمعها . حتى أن الناس يضربون فيها الأمثال . فيقولون ( أن فلانا يمتلك أذان مثل آذان حصان ) .
شعر الحصان بوجود شاكر . اصدر نفيرا من منخريه وضرب الأرض بحافريه وحرك ذيله مرة تلو المرة .
أجبرت حركات الحصان شاكر على تغيَّير اتجاه سيره .
غير بعيد .. هيكل سيارة قديمة متهالكة متروكة في وسط الجادة الفاصلة بين الأسواق المركزية والبيوت المجاورة, تحيط بها كومة أزبال ونفايات .. ولج داخل هيكل السيارة واختبأ .
يبدو أن ساكني الحي قد اتخذوا من السيارة مكبا لنفاياتهم . فمن داخلها تفوح روائح كريهة .
ارتفع صوت الآذان من مسجد قريب ..
الله اكبر .. الله اكبر .
انتظر قليلا . ريثما ينهي المؤذن آذانه . ثم تسلل إلى اقرب زقاق .
ضل يمشي بخفة إلى جوار الجدران .. اجتاز عدة أزقة دون أن يراه احد ودون أن يلتقي احد . ودون أن يلحظ مروره الحراس الليليين الذين غالبا ما ينسحبون إلى بيوتهم ما أن تدب الحركة في الحي بعد سماع صوت آذان الفجر .
عندما وصل إلى شارع الفلاح كانت أولى سيارات نقل الركاب قد باشرت بنقل العاملين إلى أماكن عملهم في مركز المدينة وما حولها .
يومها لم يكن يملك شاكر من النقود سوى ثلاثة دنانير منحها له عباس تنوره بعد أن ربحها من لعبة مقامرة لا تخلو من الغش مع زملاء زنزانته في الليلة المنصرمة .
فحرص أن لا ينفق منها فلسا واحد ألا عند الضرورة .
ركب في احدي سيارات النقل العام وتوجه صوب منطقة النهضة .
من النهضة استقل سيارة أخرى للنقل العام أوصلته إلى كراج علاوي الحلة .
كان في نية شاكر التوجه إلى الديوانية حيث عقد صلة صداقة مع زميل له في سجن أبي غريب يسكن في أطراف ناحية آل بدير .
ظن انه إن بلغ صديقه سيكون في مأمن إلى أن يستقر به الحال ويتمكن من العبور إلى السعودية عن طريق بادية السماوة ليترك العراق إلى غير رجعة .

عندما وصل كراج العلاوي كان قرص الشمس قد ارتفع قليلا وانعكست أشعتها الحمراء على أطراف سعف نخيل التمر هندي الباسقة والمصفوفة بإتقان وسط شارع جمال عبد الناصر .
لم يكن لشاكر سابق معرفة بمناطق الكرخ وأحيائها فقد نشأ وترعرع في جانب الرصافة ومارس أعماله هناك . لذا كان يتمعن في كل ما يراه في طريقه .
عندما ترجل من السيارة في ساحة المتحف العراقي بانت له قمة مئذنة جامع بنية وقبته الشذرية بطرازها البيضوي الفريد, فراح يتطلع إليها متفقدا المكان .
من هناك شاهد ولأول مرة ساعتي برج محطة القطار المعطلتين منذ زمن لا يعلمه . كانت أميال الساعتين متوقفتين عند الساعة العاشرة وعشر دقائق . فتسأل لِمَ لَمْ يرى برج الساعتين من قبل وهو الذي قد مر من هنا غير مرة ؟
شأنه شأن الهاربين من العدالة . كان شاكر مرتبكا رغم سعيه للتظاهر بالهدوء ..
يتلفت يمينا ويسارا ويدور حول نفسه بين الحين والأخر خشية أن يكون قد تبعه شرطي . ظنا منه بان لا عمل للشرطة الآن سوى البحث عنه .
دخل إلى المرافق الصحية الملحقة بجامع ابن بنية . غسَّل وجهه وأعاد ترتيب أفكاره وحاول إدخال الطمأنينة إلى قلبه .
أمضى ثلاث أو أربعة دقائق هناك . ثم خرج نافضا عن نفسه الأفكار التي تثير قلقه .
توجه إلى محطة حافلات الديوانية .
ركب سيارة من تلك السيارات التي تسع لأكثر من عشرين راكبا - من نوع O M - . اتخذ له مقعدا في آخر صف للمقاعد داخل السيارة رغم ان عدد الراكبين لم يكن ليتجاوز عدد أصابع اليد . وكانت معظمها فارغة .
بقي ينتظر بوجل اكتمال عدد الراكبين .
طال انتظاره . ربما يستمر الأمر ساعة أو أكثر .
ارتفع قرص الشمس سريعا ولم يكتمل عدد الراكبين . كثر الهرج والمرج في الكراج . تقدم منه أكثر من مرة بائع معجنات وبائع بيض مسلوق ملفوف بالصمون, من أولئك الباعة الذين يحملون فوق رؤوسهم بضاعتهم المصفوفة في صواني معدنية . بائعون يجولون بين المارة والسيارات منادين بأصوات لا تخلو من لحن غريب عذب . فكان يتمنع عن شراء ما يبيعون رغم شعوره بالجوع .
أخيرا قرر أن يشغل نفسه ويسد جوعه ويشتري لفة بيض يفتح بها ريقه ويخفف شعور التوتر الذي ما انفك يراوده .
مد للبائع قطعة نقود من فئة درهم عبر نافذة السيارة, وناوله ذاك لفة بيض .
انشغل بقضم اللفة, وقبل أن يتمها فوجئ بحضور مفرزة من الانضباط العسكري, تبحث عن هاربين ومخالفين للتعليمات العسكرية .
لم يكن قد رآها إلى أن اعتلى احد أفرادها درجات باب السيارة وطلب هويات الراكبين .
صدم بالأمر .. لا مجال ولا متسع للهروب .
يا الله .. ماذا يفعل وكيف يتصرف . لا هامش لديه للتفكير والبحث عن عذر .


. لم يكن شاكر يحمل أية مستمسك ثبوتي .
من يراه يدرك انه جاوز سن العسكرية . غير أن هذا لا يعني أنه ربما يكون متخلفا عن السوق إليها .
حقيقة الأمر إن شاكر لم ينخرط في الخدمة العسكرية الإلزامية يوما . كونه كان معيلا وحيدا لوالدته . يومها لم يكن يحمل دفتر الخدمة العسكرية . لم يعد يذكر أين تركه . أما بطاقته الشخصية فقد سلمها لمفوض الشرطة وأرفقها ذاك بالأوراق التحقيقية .
تحاشى نظرات جندي الانضباط . وتظاهر بقضم لفة البيض .
صاح جندي الانضباط :- أنت عمي .. الگاعد ليورا . لا تسوي نفسك ما تشوفنا .. انطيني هويتك .؟
:- هااا . تقصدني ..
:- أي .. أي لا تغشم روحك .
وضع شاكر لفة البيض على المقعد بجواره . بعد ان كان قد قضم أكثر من نصفها .
تظاهر بالتفتيش بجيوبه .
:- اعذرني ( أبو خليل ) نسيتها .. أي .. هااا .
لم تكن تلك إجابة مقنعة لجندي الانضباط . حال سماعها تقدم من شاكر وامسك بأطراف قميصه وسحبه إليه وانزله من السيارة عنوة دون أن يكترث لتوسلاته .
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي