الفصل الثالث

"المصائب نادرًا ما تأتي فرادي" هذا المثل الانجليزي ينطبق عليه وبشدة، كلما ظن أنه على بعد خطوات بسيطة منها يجد نفسه يعود إلى نقطة الصفر مجددًا، خيبة أمل أخرى وخذلان آخر لا يتسبب به سواها وكأنها تنتقم منه هو على كل ما تعرضت له على يدي عائلته.
لا يملك سلطانًا على قلبه الذي أحبها منذ أن كان بعمر الثامنة عشر، بالبداية ظن أن الأمر لن يتعدى كونه شعورًا بالحماية نحوها، فهو كان شاهدًا على كل ما تعرضت له "رهف" على يدي أفراد عائلته كما أنها لم تسلم من جدتها وطريقتها الغليظة معها، حاول مرارًا أن يتقرب منها بكافة الطرق لكنها بكل مرة كانت تدفعه بعيدًا عنها وعلى الرغم من عدوانيتها الشديدة نحوه إلا أنه لم ييأس أبدًا بل ظل يحاول التقرب منها باستماتة غافلًا عن تلك المشاعر التي تكونت بداخله نحوها فقد اختفى شعوره بالحماية الواجبة نحوها ليحل محله شعورًا آخر..العشق.

تنهد "آدم" بألم شديد ينحر صدره وأغمض عينيه متذكرًا ذلك اليوم عندما أتمت "رهف" عامها الثامن عشر، وقتها ذهب إلى جده السيد "محفوظ" ووالده السيد "ناجي" وأخبرهم برغبته في الزواج من "رهف".
……..

_أنت تمزح صحيح!، أو أنك تقصد أخرى تحمل نفس الاسم.

كان هذا رد والده السيد "ناجي" الذي لم يتخيل باكثر كوابيسه بشاعة أن يرغب ابنه في الزواج من تلك الخادمة المسماة "رهف"، بالتأكيد جن وفقد عقله وعليه أن يعيده لرشده في الحال.

قرر "آدم" مواجهة موقف أبيه بشجاعة بل وبدأ بإقناعه بالأمر ظنًا منه أنه سيرضخ لرغبته في النهاية وكم كان مخطئًا بظنه.

_بلى أبي، أنا أقصدها هي بعينها.

صمت لثوان ثم أردف بكلمات واضحة:

_أنا أريد الزواج من "رهف" إبنة عمي "سمير"، لقد أتمت اليوم عامها الثامن عشر وهو عمر مناسب للزواج فلا داعي للتأجيل أو الانتظار.

ويحفظ تاريخ مولدها أيضًا، أو الأسوأ أنه كان يحسب الأيام و الساعات لتتم عمر مناسب للزواج ويستطيع إخبارهم برغبته في الزواج منها.
كاد "ناجي" أن يتحدث إلى ابنه بعنف رافضًا طلبه اللعين هذا حتى أنه كان على استعداد تام ليهشم رأس ابنه إذا ما ظل متمسكًا برغبته، تدارك السيد "محفوظ" الأمر مشيرًا إلى ابنه بالصمت والسيطرة على نفسه وهتف بنبرة هادئة:

_هل صارحتها بالأمر يا "آدم" ؟، أم أنك تود مفاجأتها؟.

لم يتحمل "ناجي" ما قاله والده وهو يراه يبدي موافقته المبدئية للأمر ليهتف مستنكرًا:

_ماذا تقول يا حاج؟، أنا أرفض هذا الأمر كاملًا، تلك الفتاة ليست مناسبة لابني.

لم يلتفت أحد إلى حديث "ناجي" ليهتف "آدم" بسعادة ظهرت على تقاسيم وجهه الجذابة:

_لا، لقد قررت أن افاجئها بالأمر.

ها قد وصل لغايته وبأسهل الطرق، أراح "محفوظ" جسده المتشنج منذ أن أخبرهم "آدم" برغبته في الزواج من "رهف"، وحاول إيجاد حلًا مناسبًا للأمر مع مراعاة الدقة والحذر الشديد لتفادي وقوع أية خلافات بينهم وبينه بسبب "رهف".

مط "محفوظ" شفتيه وهتف بنبرة أسف مصطنعة:

_مع الاسف الشديد بني، لقد تم الاتفاق على موعد عقد قران "رهف" صباح اليوم، أو لأكون أكثر دقة منذ بضعة أشهر أخبرني "عبد الله" ابن البستاني برغبته في الزواج منها حالما تتم عمر الزواج وعندما سألتها عن رأيها وافقت، من الجيد أنك لم تفاتحها بالأمر وأخبرتنا أولًا.

منذ بضعة أشهر إذا!، إنها نفس المدة التي صارحها فيها بمشاعره نحوها ليفاجأ بعدائيتها الشديدة نحوه ورفضها للأمر حتى أنها صرخت فيه بغضب جم عندما سألها عن سبب الرفض بإلحاح

"أنا لم أربط مصيري برجل من عائلة "محفوظ" أبدًا، يكفيني عار الرجل الذي أحمل اسمه وخسة محفوظ بك".

وقتنا غضب منها كما غضبت هي أيضًا، كل منهما ابتعد عن الآخر محاوًلا لعق جراحه ومداواتها و هذا الشخص كان "آدم"، أما هي فكانت تحاول بشتى الطرق إيقاف نزيف جروحها التي فتحها "آدم" مرة أخرى بحديثه عن الزواج منها فقد كانت بدأت تعتاد وجوده كصديق بحياتها لتفاجأ بأنه لا يريد منها سوى نفس الشئ الذي يريده الرجال من النساء الأكثر ضعفًا، وبحالتها هي كانت أكثر ضعفًا من أي إمرأة على الأرض، بالتأكيد "آدم" سيتزوجها لفترة حتى ينالها فقط بعد أن تكون حملت منه طفلًا ليلاقي نفس مصيرها المهين، لكنها لن توافق وإذا حاول أحد إجبارها على الزواج وقتها ستذهب إلى والدتها الحبيبة كما تمنت دومًا.
……..
عاد من شروده أخيرًا ينظر حوله بتركيز شاملًا بنظراته قصر عائلة "محفوظ" المهيب ولأول مرة يراه حالك السواد و ليس ناصعًا كما كان يراه بصغره، وكان ظلمهم ل"رهف" ترك آثاره على جدران القصر البيضاء ليلطخها بالسواد.
رفضهم زواجه من "رهف" للمرة الثانية حتى ولو بنظرات فقط يزيد إصراره على الظفر بها وربط إسمها بإسمه لكن عليه أن يحاربها هي أيضًا!.

_هذه فرصتي الثانية ولا أنوي إهدارها، ستكونين لي رغمًا عن أنف الجميع.

قضي الامر فإذا كان بالسابق شتبًا صغيرًا يسعى وراء رضاء والده عنه مهما كلفه هذا إلا أنه هذه المرة تعلم درسه جيدً، زواج "رهف" منه لن يؤذ أحد سواه إذا فما الضير منه!

.....

عقلها يعمل بدون كلل أو ملل حتى أصيبت بنوبة من الصداع النصفي أثر إجهادها الذهني، لا يشغل عقلها سوى أمرا واحدا فقط، ما مصير هذا الطفل الذي تحمله بأحشائها!، لا تريد العودة ل"محمد" مجددا وبنفس الوقت تدرك جيدا انها إذا أخبرت عمها بأمر الطفل سيجبرها على الرجوع لزوجها مرة أخرى معللا الأمر أنه لا يريد سوى سعادتها فقط وأنه ليس من الصواب أن يولد الطفل ليجد والديه منفصلان.

اغرورقت عيناها بالدموع حسرة وقهرًا على حالها، لا أحد يهتم بها أو بما عانته بزواجها البائس على النقيد تمامًا مما يحدث مع شقيقتها "ورد"، لم يتحمل والدها إساءة خطيبها السابق لها وأصر على إنهاء الخطبة رغم رفض السيد "محفوظ" للأمر لكنه تصدى للجميع فقط حتى لا يعرضها لإساءة لفظية أما هي فيترك أمرها إلى والده وأخيه يفعلان بها ما يحلو لهما ولا تستطيع هي الرفض بل تفعل ما يريدونه كآلة صممت خصيصاً لتطيعهم، لم تختار شئ بحياتها سوى "محمد" وقد خذلها أيضًا.

دلفت إليها جدتها السيدة "زينب" وقد نجح "آدم" في ارباكها و توترها، يجب عليها أن تخبر "رهف" بما أخبرته لآدم حتى يتسنى لها التفكير جيدا للتصرف بحكمة.
التفتت "رهف" إلى جدتها تطالعها بتركيز شديد في محاولة منها لاكتشاف ما حدث وعندما فشلت في التنبؤ هتفت تسألها بنبرة جافة:

_ماذا حدث؟.

ولم تحتاج "زينب" أن تكرر "رهف" سؤالها مرة أخرى فهتفت بنبرة متلعثمة:

_لقد علم آدم بأمر الحمل.

ما قالته "زينب" كان كفيلًا ليجعل "رهف" تنتفض من جلستها متجاهلة الألم الذي انتشر بذراعها المكسور أثر حركتها المفاجئة وهتفت بنبرة حادة وهي تنظر لجدتها باتهام:

_لا أحد يعلم بالأمر سواكِ، بالتأكيد انت من أخبرته رغم تحذيري لك ألا تفعلي، ألن تكفِ عن محاولاتك لتدميري مرة بعد مرة!.

هزت "زينب" رأسها نفيًا بقوة وقد دمعت عينيها ظلمًا و قهرًا من اتهام "رهف" لها هي لا تريد تدميرها أبدًا، ربما بالسابق كانت تتمنى أن تتخلص منها وتختفي من حياتها هي وابنتها _رحمها الله_ لكنها ما أن شعرت بآلام فراق ابنتها الحبيبة وهي تراها بقبرها تغمرها الرمال حتى حنّت إلى "رهف" وطوال الخمس سنوات الماضية كانت تحاول بكل قوتها أن ترمم علاقتها بحفيدتها الوحيدة والذكرى التي تركتها ابنتها لها لكن "رهف" كانت تبتعد عنها بقوة فكلما اقتربت منها خطوة تدفعها "رهف" مئات الخطوات إلى الخلف.

هتفت "زينب" بصوت ضعيف واهن:

_لم أكن لأخبره بسرك الصغير ، لكنه أجبرني لأخبره، هددني بالطرد من القصر بدونك وهذا الأمر أنا لن أحتمله أبدًا يكفيني خسارتي لطفلتي، أنا لا استطيع الابتعاد عنك ولو لدقيقة واحدة.

انفرجت شفتي "رهف" بنصف ضحكة ساخرة هازئة يتخللها الغضب الشديد، هل تنتظر "زينب" أن تصدقها مثلًا! بالتأكيد جنت أو أنها تعاني من إحدى امراض عمرها المزمنة أثر تقدمها بالعمر، الان تخبرها أنها لا تستطيع الابتعاد عنها بينما بالسابق كانت تتركها بيدي عمتها لتفعل بها ما يحلو لها دون أن تسارع لإنقاذها!.

عائلتها الوحيدة و حصنها المنيع كان متمثلًا في والدتها الراحلة التي رغم ضعفها إلا أنها كانت تدافع عنها قدر استطاعتها أمام والدها وعمتها البغيضة وكان لها نصيبها من التعنيف الجسدي بالطبع، بموت والدتها ماتت عائلتها جميعًا.

هتفت ملاك بنبرة قاسية هادئة:

_أما أنا فعلى النقيض تماماً، أنا أتوق للإبتعاد عنك وعن كل سكان القصر، يكفي ما نلته منكم لسنوات.

بكت "زينب" هذه المرة والتفتت لتغادر الغرفة في محاولة منها لجمع شتات روحها، "رهف" لا تريدها وإذا كانت لم تسمعها بذلك اليوم الذي أجرت فيه اتصالا بمعمل التحاليل لتحصل على نتائجها لم تكن لتخبرها بحملها أبدا.

أراحت "رهف" جسدها على الفراش مرة أخرى وهذه المرة كان ذهنها يعج ويزدحم بالتفكير خاصة مع معرفة "آدم" بحملها، ما هي حركته التالية بعدما علم بحملها!.

......

المواجهة شئ حتمي لا بد منه، مهما حاولا الفرار من بعضهما البعض ألا أن الحل الوحيد أمامهما هو المواجهة لذلك بنفس الوقت الذي كان "آدم" يتجه فيه إلى غرفتها كانت هي تسلك نفس الطريق لباب الغرفة مقررة الخروج والبحث عنه لتتحدث معه.

التقى الإثنان بمنتصف بهو القصر الواسع و ما أن شاهدا بعضهما حتى توقفا عن السير تلقائيًا وأصبحا كالتماثيل الرخامية الجامدة، لم يصدرا أي صوت أو حركة حتى أن من يراهما يظن أنهما مجرد تمثالين من الشمع لا أكثر.
كانت هي أول من انتبهت لتلك الحالة الغريبة التي أصابتها ما أن ظهر أمامها "آدم"، لم تحاول التحدث بتروِ أو حتى تزيين كلماتها لتخرج بصورة ألطف و إنما هتفت بنبرة عدائية لطالما خصته هو بها وحده وهتفت بغضب شديد وصوت مرتفع:

_ابتعد عني وعن حياتي، لا أريد أن أراك مرة اخرى، يكفي ما فعلته بزوجي.

اشتدت عضلة فكه بقوة، فقد نجحت في إثارة غضبه بلحظة وبكلمة واحدة فقط، مازالت تقول عن هذا المخنث زوجها!، بل وتطلب منه الابتعاد عنها وعن حياتها!

أخذ نفسًا عميقًا ثم هتف بنبرة حادة محاولًا إخافتها وترويعها:

_حياتك ملكًا لي، أفعل بها ما أشاء وليس عليك سوى الطاعة، وللعلم فقط هذا الحقير لم يعد زوجك وإنما هو طليقك أردت أن اذكرك بالأمر فعلى ما يبدو أنك تتمتعين بذاكرة ضعيفة.

لن تعود إلى القصر أبدًا ولو كلفها ذلك العيش مع والدة "محمد" ، ستتحملها إلى ما لا نهاية لكنها أبدًا لن تعود لحياتها هنا مرة أخرى، عاشت عامان بالجنة بعيدًا عن عدم اهتمام والدها بها أو بما تعانيه، بعيدًا عن قسوة عمتها "فاتن" وبطشها، بعيدًا عن تظاهر جدها الأكبر "محفوظ" بالعمى تجاه كل ما تتعرض له على الرغم من انتباهه وتيقظه الكامل لكل ما يحدث بالعائلة لكن بالطبع حينما تتعرض هي لأية مشكلة يغض الطرف عنها تاركًا ابنته تفعل بها ما يحلو لها.

تستطيع أن تسامح "محمد" وتغفر له ذنبه بحقها، على كل هو يستحق..أو بالأحرى هي تستحق أن تسامحه لتنقذ نفسها من العيش بهذا القصر مرة أخري.

هزت رأسها بنفي ثم أردفت بنبرة هادئة وابتسامة عريضة تزين شفتيها:

_بلى، انت من يعاني من ضعف الذاكرة ولست أنا، فأنا لم أتسّلم وثيقة رسمية بطلاقي، كما أنني بشهور العدة أيضا أي أنني عمليًا مازلت زوجته، بل و عليّ قضاء شهور العدة بمنزل الزوجية كذلك، ثم أنني وافقت على العودة لزوجي ومنزلي فهناك طفل ينمو بأحشائي وأريد استقباله انا ووالده معًا كعائلة سعيدة.

صمتت لثوان ثم أضافت متعمدة إثارة غضب "آدم" متمنية أن يصاب بارتفاع ضغط الدم وتزهق روحه:

_أنا أحب محمد وأستطيع مسامحته على ما اقترفه بحقي، هو يعشقني وأنا كذلك ونستطيع تجاوز ما حدث.

انفرجت شفتيه في ابتسامة متهكمة لم تصل لعينيه وهتف بنبرة جافة:

_استطاع هذا الحقير ترويضك أيضًا لتتحملي المزيد من الإهانة وها انت بعد ما فعله بك تريدين العودة إليه وكأن شيئًا لم يكن!.

هزت كتفيها باستسلام وأردفت بنبرة هادئة يتخللها المرارة والألم الذي استطاع تمييزه بوضوح بصوتها:

_ربما هذا قدري أن يجتمع الجميع على إهانتي ومحاولة اذلالي، وها أنا اليوم أضطر إلى الاختيار بين أمرين أحدهما سئ والآخر أسوأ منه.

اقترب منها "آدم" خطوتان ليمسك بجانبي ذراعيها بين يديه قائلًا بنبرة مستجدية:

_أمامك خيارًا آخر لكنك تغضين الطرف عنه، أنا أريدك "رهف" بمجرد انقضاء شهور العدة سيتم عقد القران، أنا أعدك أنني لن أمسك بسوء أبدًا، أنت جوهرتي النادرة سأحرص ألا تتأذى بأي شكل، فقط ارفضي العودة لذلك الحقير.

وردها جاءه عنيف قاسٍ وحاسم أيضًا:

_أنا لن أربط مصيري بشخص من عائلة محفوظ.

دفعته بعيدًا ليبعد ذراعيه عنها وعادت إلى غرفتها وجسدها ينتفض بشدة من فرط غضبها، أما هو فقد ازداد إصراره على الزواج منها حتى ولو أنجبت طفل رجل آخر، عليه الآن التعامل مع "محمد" وإيجاد حلًا ليجعله يوثق طلاقهما وعن اقتناع تام حتى لا يشكك أحد بالأمر.

....

بعد مرور بضعة أيام، اجتمع كبار العائلة بغرفة المكتب الواسعة بأثاثها العتيق وألوانها الداكنة التي تدل على الفخامة والتميز، الصمت يسود الغرفة ونظرات الجميع موجهة نحوه يتهمونه بما حدث فهو المسئول الأول والأخير عما حدث، ومن غيره سيفعلها؟.
تراصٌ كلٍ من السيد "محفوظ" والسيد "ناجي" والسيد "سمير" على الأريكة الواسعة بلونها الكُحلي الفاخر وأمامهم يجلس "آدم" على مقعد خشبي غير مريح بالمرة وكأنهم تعمدوا ذلك، كان عليهم محاسبته على ما فعل فلن يمر الأمر مرور الكرام بهذه البساطة، لقد أفسد خططهم تمامًا وتسبب بتلك المصيبة التي حلت على رؤوسهم بعدما تخلصوا منها بشق الأنفس.

كان أول من تحدث بهذا الجمع هو السيد "سمير" وقد نفذ صبره من تصرفات ابن أخيه ليهتف بغضب شديد:

_بأي حق تُجبر محمد على تطليق زوجته عند مأذون شرعي بطلقة بائنة؟، ألم يحذرك جميع من بالغرفة بالابتعاد عن هذا الأمر!، هل أنت راضٍ الان بعدما حلت تلك المصيبة على رؤوسنا من جديد!.

رفع "آدم" إحدى حاجبيه وأردف بثبات انفعالي يحسد عليه:

_أنا لم أجبر أحد على شئ، حتى أنني لم أرى محمد منذ ذلك اليوم الذي أبرحته فيه ضربًا، لا أعلم أي شئ عما تقوله يا عمي.

كان دور والده ليتحدث فصاح به بصوت حاد مرتفع أجفل جميع من بالغرفة فلم يعد يتحمل المزيد من تصرفات ابنه تجاه "رهف"، يريده أن يبتعد عنها تمامًا كما الجميع، يريده أن يكف عن وضعه بوضع حرج ومخزي كالآن:

_آدم، نحن نعرف تمام المعرفة أنك اصطحبت "محمد" إلى المأذون بعدما مارست عليه كافة وسائل الضغط ليرضخ ويطلق "رهف" بأوراق رسمية.

قطب "آدم" جبينه مصطنعًا الاستغراب والتعجب مما يقوله أبيه ليردف قائلًا بتردد:

_أنا لم أصطحب أحد لأي مكان "محمد" كاذب لعين، كما أن معلوماتي المتواضعة عن هذه الأمور أن طلاق الزوج لزوجته مرغمًا لا يقع، أي أنني لو فقدت عقلي وأقدمت على فعل شيء كهذا فلن أصل لغايتي.

استطاع "آدم" أن يكتم أفواه والده وعمه بحديثه، فقد كان الاثنان ينظران إليه بوجه محمرًا من الغضب بل ويوشك على الانفجار أيضًا وهذا ما جعل طيف ابتسامة خفيفة يظهر على شفتي "آدم" لم ينتبه لها سوى "جده" الذي لم يتفوه بحرف واحد منذ أن دعاه للغرفة بل ظل يتابعه بصمت وتركيز شديدين ليهتف أخيرًا بنبرة هادئة ذات مغزى فهمه "آدم" على الفور:

_صحيح بني إذا أقدمت على فعل شيء كهذا فلن تصل لغايتك..

نظر "سمير" إلى والده وقد ازداد غضبه أكثر وأكثر، هل سيصدق مكر "آدم" ويدعه يفلت بفعلته أم ماذا!، هتف معترضًا بصوت حاد:

_ماذا تقول يا حاج!، أنا أكيدًا مما أقول "آدم" وراء هذا الأمر برمته هو من أجبر محمد ليوثق الطلاق رسميًا.

رفع "محفوظ" كفه الضخم ليكف ابنه عن الحديث وأكمل ناظرًا بعيني حفيده:

_ما الثمن الذي حصل عليه محمد مقابل طلاق رهف؟.

سمح "آدم" لنفسه بالابتسام مظهرًا أسنانه البيضاء المتناسقة ليهتف مجيبًا جده:

_مبلغ ضئيل من المال أشبع نفسه الطامعة وجعله يطلقها عن اقتناع تام وبهذه الطريقة أستطيع الإيفاء بوعدي معكم، بعد انقضاء شهور العدة سيتم عقد قراني على رهف.

انتصب "سمير" من جلسته وقد بلغ منه الغضب الشديد ليهتف بنبرة قوية حادة ونظرات ساخطة يسلطها على "آدم" :

_من أفسد شئ عليه بإصلاحه، آدم هو المسئول عن هذا الأمر برمته، وكما تسبب بطلاقها إما أن يتزوجها هو أو يجد آخر ليفعل، هذه الفتاة لن اتحملها سوى لثلاثة أشهر فقط.

امتقع وجه "ناجي" مما يقوله أخيه، فهو لن يوافق أبدًا على زواج ابنه من سليلة الخدم ليهتف مستنكرًا:

_ما الذي تقوله يا سمير؟، هذا لن يحدث أبدًا آدم لن يتزوجها إبحث لها عن صيد آخر!.

هز "سمير" رأسه يمينًا ويسارًا بقوة رافضًا أن يتحمل هو عواقب خطأ ارتكبه "آدم" برغبته الكاملة متجاهلًا حديثهم بألا يتدخل بأمورها:

_إما أن يتزوجها هو أو يبحث عن آخر، أنا لن اتحمل عواقب فعلة ابنك، لقد حذرناه أكثر من مرة باللين والشدة كذلك لكنه لم يستمع بل كان يضرب بحديثنا عرض الحائط، وانظر بنفسك إلى ما آلت إليه الأمور بسبب تصرفاته الطائشة.

لم يتحدث "آدم" بحرف واحد بل كان يجلس ويتابع تلك المشاداة الكلامية بين عمه وأبيه باستمتاع شديد وهو ينظر لجده بقوة و تحدي..وانتصار!.
أخيرًا قرر "محفوظ" التدخل بالأمر وإنهاء النزاع القائم بين الأخوين ليهتف بصوت عميق ولم يحد بنظراته عن "آدم":

_رهف وحدها من ستقرر، سأعرض عليها بنفسي طلب آدم وإذا وافقت سيتم عقد القران بعد ثلاثة أشهر، وإذا رفضت أنا بنفسي سأعيدها لطليقها.

صمت لثوان ثم أضاف بتحذير شديد اللهجة قاصدًا به إبنيه:

_هذا الأمر انتهى ومن الآن فصاعدًا أصبحت مقاليد الأمور بيدي، لا أريد أن أسمع أحد يتحدث بهذا الأمر مرة أخرى خارج هذه الغرفة مفهوم؟.

وما قاله "محفوظ" ترك أثرًا وشعورًا بالراحة بنفس الأخوين، ف" ناجي" اطمأن للغاية لرفض "رهف" الزواج من "آدم" سابقًا فقد أوضحت الفتاة أكثر من مرة أنها لا تريد الارتباط بأحد أفراد العائلة بل تريد أن تتنصل منهم تمامًا لذلك كان أكيدًا من رفضها، أما "سمير" فبكلتا الحالتين هو الفائز إذا وافقت "رهف" على الزواج من ابن عمها سيكون تخلص منها للأبد وإذا عادت لطليقها مرة أخرى فالأمور تسير على ما يرام أيضًا لذلك لم يعترض على حديث والده وإنما أومأ برأسه بطاعة.
كان الخاسر الوحيد بكلتا الخياران هو "آدم" فهو لم يستطيع تركها لتعود إلى طليقها مرة أخرى، كما أنه أكيدًا من رفضها له وهنا كان دور "محفوظ" ليسدد له نفس النظرة المنتشية بانتصار
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي