الفصل السادس

أعوام من الجحيم قضتها ايمان بقصر آل محفوظ، منذ ان عادت زينب وابنتها من المزرعة وقد اعطى محفوظ اوامره لزينب بالتزام كل منهما غرفتها المخصصة لها والتي لم تكن سوى بالجزء المخصص للخدم ذوي الاقامة الكاملة بالقصر ورغم ذلك لم تعترض زينب على الامر وانما حمدت الله وشكرته على نعمة ستره التي انعم عليها بها.

بهذه الفترة كان السيد محفوظ دائم التنقل بين محافظات البلدة لمتابعة مشروعاته الضخمة واستثماراته ليحفر اسم "محفوظ" بالصخر، اما سمير فانغمس بحياته الترفة مرة اخرى مضافا اليها حقده وسخطه على كل من "ايمان" و "زينب" و "ناجي" وكانت تعاونه على ذلك شقيقته "فاتن" فكانت هى المسؤولة عن اثارة غضب "زينب" وأذية "ايمان" سواء كان ايذاء جسدي او ايذاء نفسي، الامر الذي جعل "زينب" تحدد اقامة "ايمان" بغرفتها مع التشديد عليها بعدم الخروج من الغرفة.

أصبحت "ايمان" بشهرها السادس، قضت شهور حملها بالغرفة التي تحتجزها بها والدتها مع الالتزام بتعليماتها بعدم الخروج، بيوم ما ملت "ايمان" الجلوس بالغرفة وجلست امام الشرفة تتابع بعيناها الواسعتان الحديقة الواسعة للقصر الى ان تعلقت عيناها بالأرجوحة الضخمة الموجودة بالحديقة تجلس عليها طفلة صغيرة بخصلات طويلة وفستان قصير بلون السماء، رؤية الارجوحة والطفلة كانا كافيان ليجعلا "ايمان" تضرب بتحذيرات والدتها عرض الحائط وتخرج من الغرفة مهرولة الى الحديقة لتحظى بوقت ممتع مع صديقتها التي لم تتعرف عليها -الى الان- رغم وجودها بالقصر.
قضت "ايمان" وقت ممتع للغاية مع صديقتها "حور" حتى ان الطفلة أحبت صحبتها، وأصبحا صديقتين!، لكن لم يكد يمر على علاقة الصداقة التي نشأت بينهما أربعة وعشرون ساعة لتظهر "فاتن" من العدم، كانت تبحث عن ابنتها لتعود الى منزلها مع زوها فقد اتى ليصطحبهما معه.

اسود وجهها بشدة واصبح مخيفا ما ان وقعت عيناها على "ايمان" الجالسة بجانب ابنتها على الارجوحة بأريحية بل وتلهو مع ابنتها بإحدى ألعابها، ركضت "فاتن" نحوهما بسرعة كالقذيفة، تريد استغلال الفرصة التي اتيحت لها اخيرا، فمنذ ايام وهى هنا ولم تشاهد طرف عباءة "ايمان" بفضل الحماية والقوة الجبرية التي تفرضها عليها "زينب"، ما ان وصلت "فاتن" اليهما حتى التقطت ابنتها تحملها بين ذراعيها وبسرعة لم يدركها عقل "ايمان" الضعيف كان كف "فاتن" الضخم يسقط على وجنة "ايمان" الرقيقة وهي تصرخ بها بحدة وغضب جعلها ترتعد:

-لا تقتربي من ابنتي مرة ثانية يا حقيرة، الخدم لا يجلسون بجانب أسيادهم بل مكانهم يكون تحت أقدامهم.

مدت يدها الحرة لتمسك بذراع "ايمان" بقوة ألمتها ودفعتها بعيدا قاصدة أن تتسبب لطفلها بضرر بالغ يزهق بروحه!، صرخت بها "فاتن" بحدة:

-لا أريد ان اراك بأي مكان من الممكن ان اتواجد به، اذهبي الى غرفتك ولا تخرجي منها مطلقا الى ان يسترد الله امانته.

كان وقع الكلمة قاسيا للغاية على أذني "زينب" التي اكتشفت للتو ان ابنتها تلهو بحديقة القصر عندما خرجت لتطلب نواقص القصر من طعام من أحد الحراس، ركضت "زينب" نحو ابنتها بوجل وعاونتها على الوقوف على قدميها من جديد وهي تفحصها بخوف وقلق وتسألها:

-هل انت بخير ابنتي؟، تأذيت؟، بم تشعرين؟.

كلمتان فقط استطاعت "ايمان" ان تتفوه بهما بشق الانفس اذ بكت بقوة وعنف خوفا من "فاتن":

-أنا بخير.

كانت "فاتن" تنظر ال "زينب" وابنتها بحدة وتحدي، فلا احد منهما يجرؤ على التفوه بحرف معها بعد ما فعلته، وكم أرضاها ذلك، بالتأكيد سيكون ذلك شعور "سمير" ايضا، فهي تعهدت له ان تعاونه على تلقين "زينب" وابنتها درسا لا ينساه كلتيهما بسبب اجباره على الزواج منها، وعلى الجانب الاخر، اختبرت "زينب" شعور العجز وقلة الحيلة مرة اخرى وعلمت الان ان انتصارها السابق على كبير عائلة "محفوظ" لم يكن سوى فوز بجولة واحدة فقط وسرعان ما ستعود الامور كما كانت، فهناك ثوابت لا يمكن تغييرها بالكون، واحد اهم هذه القواعد الثابتة والراسخة ان القوة بيد أصحاب المال، وعلى أي حال ليست هي المعنية بهذه الكلمة.

ابتلعت اهانتها واهانة ابنتها والتفتت لتغادر الى غرفتها مرة أخرى لتسمع صوت "فاتن" البغيض من خلفها وهى تأمرها بتحذير وتهديد:

-لا أريد ان اراها امامي مرة اخرى، هذه المرة اكتفيت بصفعة فقط أما بالمرة القادمة فسأحرص تماما أن ازهق روحها هى وذلك اللعين الذي ينمو بأحشاءها.

لم ترد عليها "زينب" وانما سارت بطريقها نحو غرفتها بملحق الخدم بالقصر وهي تضم ابنتها الى صدرها، ادمعت عينيها بقهر وحسرة حتى أخذت مجراها على كلا وجنتيها، كانت تدعو وتتضرع الى الله بداخلها أن يعود ذلك الهدوء والبراءة اللذان كانا يغلفان حياة
"ايمان" مرة اخرى، فهي لم تفعل شئ ولم تأذ احد مطلقا.

.....
"دار الظالم ظلام ولو بعد حين" وضعت "ايمان" مولودتها بسلام اخيرا، كانت ولادتها متيسرة للغاية بشكل ادهش "زينب" نفسها لكنها حمدت ربها وشكرته أن "ايمان" لم تشعر بآلام الوضع المميتة، اغدقت ابنتها بالقبلات والعناق وهي تبكي بفرحة، فقد كانت شبه أكيدة أنها تفقدها عندما يأتيها المخاض.

جريمة اخرى وقعت خلف جدران القصر، لا تقل في بشاعتها عن الجريمة التي ارتكبها "سمير" بحق ايمان، لعنة ظلم "محفوظ" واعانته لابنه على ظلم "ايمان" كانت السبب االرئيسي لظلام داره!، عانت "رهف" ويلات ظلم جميع سكان القصر لها منذ ان كانت رضيعة لم يتعدى عمرها بضعة ساعات تعد على اصابع اليد الواحدة، لم تسـأل عنها "زينب" ابدا او تحاول حتى الاطمئنان عليها بل اهملتها تماما عن قصد، او بالاحرى كانت تريد موتها نظرا لضعف جسدها وهزله، لكن "رهف" تمسكت بالحياة بطريقة أثارت غضب الجميع نحوها، وبعد مرور بضعة أشهر أصبحت "رهف" تدفع ثمن خطيئة "سمير" مناصفة مع "ايمان" والدتها.

مرت ستة اعوام كاملين على ولادة "رهف"، عادت "ايمان" الى مرحها المعتاد بوجودها، فقد كانت تعوضها عن احتجاز والدتها لها بالغرفة، تلهو معها تشاركها الطعام، حتى الخروج من المنزل، كانت حياة "ايمان" متمثلة "برهف" وكذلك حياة الاخيرة، كانا يدعما بعضهما البعض وكانهما طفلتان وليس ام وابنتها، حتى ان "ايمان" كانت تحزن من والدتها للغاية عندما تعنف "رهف" وتعتدي عليها بالضرب المبرح.

بأحد الايام، دلفت "زينب" الى الغرفة التي تمكث بها "رهف" فقد كانت تريد ارضاءها ببضعة حلوى عن ضربها لها، دوما كان شرط "ايمان" ارضاء "رهف" والاعتذار منها كما تفعل هى معها عندما تخطئ، لكن الصغيرة استغلت الامر هذه المرة أسوأ استغلال.

مدت "زينب" يدها بكيس بلاستيكي به بعض الحلوى المغلفة وهتفت على مضض:

-انا لا اقصد تعنيفك بقسوة هكذا، لكن اصرارك على عدم تنفيذ اوامري يثير غضبي، ولذلك اتصرف على هذا النحو.

ضمت الصغيرة يديها الى صدرها، وزمت شفتيها قائلة بغضب طفولي:

-بلى، انت تقصدين، حتى انك تتصيدين لي الاخطاء لتجدي مبررا لتعنيفي، ولذلك انا لن اقبل اعتذارك بعد الان!.

صمتت لثوان ثم التفتت تنظر الى جدتها بتشفي وانتصار هاتفة:

-ووقتها لن تسامحك ايمي ايضا.

ما تقوله "رهف" كان الموت بالنسبة لـ"زينب" فـ"ايمان" اظهرت اكثر من مرة استعدادها التام للتخلي عن والدتها لاجل عيون "رهف"، هزت "زينب" رأسها بنفي وهتفت محاولة استرضاء "رهف":

-لا يمكنك، انا اعتذر عن تعنيفي لك، كما انني اعدك انني لن اكررها مرة اخرى، وهاك الحلوى المفضلة لديك لقد اكثرت منها هذه المرة، هل انت راضية الان؟.

هزت الصغيرة رأسها بنفي وهتفت بخبث:

-بلى ستفعلين، لقد قطعت وعدا كهذا من قبل وحنثت به، كما انني لا أريد حلوى هذه المرة، اذا انا لست راضية.

هتفت "زينب" تسألها باصرار:

-ماذا تريدين؟.

ابتسمت "رهف" بخبث طفولي محبب وأردفت بما جمد الدماء عروق "زينب" وكذلك ألصقها بمكانها:

-أريد الذهاب الى المدرسة كما ي
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي