قلب رجل و 99 أنثى البارت الثاني

*"قلب رجل و99 أنثى" "البارت الثاني"*
مرت الأشهر سريعا وأصبح بطن عائشة يكبر بشكل ملحوظ، كانت الأعين دائما ما تنظر إلى عائشة وإلى بطنها الذي كان حجمه أكبر مما يجب، كانت نظرات الناس تزعج عائشة فكانت تخبيء بطنها بقدر الإمكان، كانت تؤمن تماما أن الأعين تفعل ما يعجز عنه السحر والسحراء،

لذلك قررت في أشهرها الأخيرة أن تظل في المنزل لـ حين أن تضع المولود.
مرت الأشهر كسنوات طوال، وأخيراً جاء اليوم الموعود، كانت الساعة الثانية عشر والنص بعد منتصف الليل، استيقظت عائشة وقد اشتد عليها الألم،

لم تستطع تحمل ذلك الشعور الذي لا يطاق، هذه كانت المرة الأولى التي تلد فيها لم تكن تعرف ما الذي ستشعر به وكيف تتصرف، فقد توفيت والدتها عندما كانت صغيرة جدا ولم يخبرها أي أحد عن ذلك الأمر.

إستيقظ صادق على إثر صوت عائشة عندما كانت تئن، علم حينها أنه لن تشرق الشمس سوى ومولودهما بين يديهم، سارع في الخروج من المنزل وذهب إلى بيت الحكيمة وطلب منها أن تأتي معه لأن زوجته ستضع مولودها بالتأكيد.

كان صياح عائشة يسيطر على أسماع كل من في القرية، اجتمع الكثير من أصدقاء صادق برفقة زوجاتهم أمام بيت صادق حتى يطمئنوا على صحة عائشة ورضيعها.
أتت الحكيمة وأجرت الولادة التي كانت ستودي بحياة عائشة ولكنها نجت بفضل الله،

بعد مرور الكثير والكثير من الوقت نظرت الحكيمة إلى عائشة وقالت بابتسامة مضطربة:
_مبارك يا عائشة، لقد رُزقتِ بـفتاة تشبهكِ كثيراً، ولكن،
لم تستطع الحكيمة أن تكمل حديثها وأطاحت بنظرها بعيدا عن عائشة،

التقطت عائشة صغيرتها من بين يديْ الحكيمة وقالت بنبرة مضطربة كالتي تحدثت بها الحكيمة:
_ماذا هناك؟! هل الصغيرة بها خطب ما؟!،

تحدثت الحكيمة سريعا وقالت:
_لا يا عائشة الصغيرة بخير وصحتها جيدة جدا، ولكن ما لم نكن نعلمه من قبل أنكِ كنتِ تحملين في أحشائك جنينين، فتاة وصبي ولكنه وُلد ميت،
ارتعد فؤاد عائشة، وضعت صغيرتها بجانبها واعتدلت في جلستها وقالت:
_دعيني أراه.

نظرت إليها الحكيمة بحزن ومدت يدها بالطفل ناحية عائشة، أمسكت به عائشة كان يشبه القمر كثيرا عندما يكون بدرا، كان ساكنا بلا حُراك، كان صامتا لا يبكي، شعرت حينها عائشة وكأنها ستتقيأ أحشائها حزنا عليه،

طلبت من الحكيمة أن تخبر صادق بأن عائشة تريده في الحال.
خرجت الحكيمة من الغرفة وأخبرت صادق بما قالته عائشة وسرعان ما لبى الطلب ودلف إلى الغرفة سريعا، رآها تبكي في صمت وهي تقبل وجه طفلها،

كانت تحتضنه بحنان وتتحدث إليه وتخبره أنها تحبه كثيرا، اغرورقت عينا صادق واقترب من عائشة وضمها إلى صدره وقال:
_ليس لنا في الأمر من شيء، إنها حكمة الخالق.

هَمَّ صادق كي يأخذ الطفل فشهقت عائشة بالبكاء حينها فقد كان فؤادها يعتصر من شدة الحزن ولكن ما باليد حيلة، أخذه صادق وذهب كي يدفنه، لم تستطع عائشة أن تذهب معه فإن ذهبت سيصيبها مكروه لا محال.

حاولت عائشة أن تتقبل الأمر وأن تهتم بالصغيرة وتنشغل بها، كانت تحممها وتتحدث إليها وتقول:
_أتعلمي سراً!! من قبل كنت أقول لـ والدك أنني لن أسمح له حتى بالنظر ألى امرأة أخرى أو أي فتاة،

فأنا منذ سنوات طويلة استوليت على قلبه ولن أدع أي فرصة لأحد بأن يقاسمني تلك المكانة عنده، ولكن الآن أنا أسمح لكِ بأن تتخذي مكانا عنده سيروقني ذلك كثيراً،

ابتسمت الرضيعة وكأنها تدرك ما تقول والدتها، إنتهت عائشة وألبست رضيعتها ثوب صغير للغاية قد انتهت من حياكته مؤخرا قبل ولادتها بعدة أيام.

التحفت عائشة في الفراش وهي تضم الرضيعة إلى صدرها وتقول:
_بعد عدة سنوات سأحيك ثوب الزفاف لأجلك، أنظري لنتفق من الأن أنا أعدك أنه حينما تبلغي سن الزواج سنترك لكِ أنا ووالدك حرية إختيار الزوج المناسب، وفي المقابل سأكون أنا صديقتكِ المقربة أريد أن أكون على دراية بكل أمر تفعلينه وتقومين به،

ابتسمت عائشة وقد سرحت في الخيال وقالت:
_ستكونين فتاة غاية في الجمال والذكاء، ستكونين حلم كل رجل في هذه القرية سيكون الجميع يقفون رهن إشارتك،
تنهدت عايشة وتابعت بقولها:
_سيكون لكِ شأن عظيم في المستقبل هذا ما أشعر به.

مرت ساعات النهار سريعا حتى أتى الليل وعائشة لم تنتبه، عاد صادق إلى البيت بعدما قام بدفن الرضيع، لم يكن يريد شيء سوى أن تستكن روحه في أحضان زوجته، إنها ملجأه التي لا يهدأ ولا يشعر أنه بخير سوى بجانبها،

عندما دلف إلى الغرفة وجد الصغيرة نائمة كالملاك الصغير، وكانت عائشة بجانبها ما زالت مستيقظه تنتظر عودته، تحرك صادق نحو الصغيرة وقبَّلها برفق واشتم رائحتها التي جعلته يبتسم تلقائيا، ومن ثَم التحف في الفراش بجانب عائشة ووضع رأسه على فخذها،

ابتسمت عائشة وظلت تمرر أصابعها فوق رأسه بحنو يشبه حنان الأم تماما الذي حُرم منه في طفولته، قالت عائشة محاولة أن تخرجه من بؤرة الحزن:
_ماذا سنسمي صغيرتنا يا عزيزي؟! لا بُد وأنك اخترت لها إسماً جذابا غير معتاد،

ابتسم صادق فقد فهم ما تريد عائشة وأحب ذلك جدا، قال وهو ينظر إلى الطفلة
_: فلنسميها جويرية،
ابتسمت عائشة وقالت:
_لقد أعجبني حقا، ولكن ماذا يعني؟!.

إعتدل صادق وقال بعدما قبَّل جبين عائشة
_جويريّة، هو الاسم المنسوب إلى الجورى، أي الورد الأحمر، أراها تشبهه كثيرا، أنظري إلى وجنتيها وشفاهها شديدة الإحمرار، ما الذي سيليق بها أكثر من هذا الإسم؟! إنه يليق بها أليس كذلك!!.

تبسّمت عائشة وقالت:
_هو كذلك.
مرت السنوات ونعمت جويرية بعائلة صغيرة ولكنها سعيدة جدا، كانت مدللة والديها، علماها سويا كل شيء في الحياة، كيفية تحضير الطعام والعمل في المزرعة وكيفية إدارة شئون البيت،

لقد تعلمت كل شيء وبجانب ذلك كانا لا يكفا عن اللعب سويا، لقد أتت وجلبت لهم حياة كم تمنياها من قبل حتى أصبح لهم حاسدين لهذه السعادة العارمة.
بلغت جويرية سنتها الحادية عشر،

حينها جلب لها والدها بعض الورد الجوري، إنها مولعة حقا بهذا اللون، أحبت تلك الزهور جدا كانت أجمل شيء تحصل عليه على الإطلاق.
لم تستمر سعادتهم لأكثر من ذلك، فقد حدث ما لم يخطر على قلب أي منهم.

في يوم من الأيام كان صادق قد انتهى من عمله وفي طريقه إلى المنزل، فوجيء بالجلادون يجذبون إحدى الفتيات بقوة،

اقترب منهم وقال وهو يحاول أن يخلصها منهم:
_تمهل يا أخي ما الذي حدث؟! لماذا تعاملونها بتلك الطريقة المهينة ما الذي فعلته؟!.
نظر إليه أحدهم وقال:
_ليس من شأنك هل تقربك؟! إن لم تكن كذلك فافسح لنا الطريق ودعنا نأخذها كي تعاقب،

لم يتحمل صادق شهقات تلك الفتاة المسكينة التي بدا وكأنها في سن السادسة عشر أو أكثر، اعترض طريقهم وقال:
_أجل هي تقربني عليك أن تخبرني ما الخطأ الذي ارتكبته كي تأخذونها بتلك الطريقة،

فقال جلاد آخر:
_لقد أصبح عمرها سبعة عشر عاما منذ عدة أيام ولم تخبر أحد بذلك، لقد أرسل لها شيخنا الكبير الذي يختص عمله بذلك الأمر تحديدا برقية حتى تذهب إليه ويقوم بالترتيبات اللازمة كي يزوجها من رجل مناسب ولكنها لم تلقِ له بالا،

وأنت تعلم يا أخي قوانين قريتنا من تأبى الزواج عندما تبلغ السن المناسب للزواج تُقتل رميا بالسهم أو الوئد ولكن حاكمنا يُفضل الرمي بالسهام حتى لا تتعذب إحداهن كثيرا قبل موتها،

تظاهر صادق بأنه تفهَّم الأمر وعلى حين غرّة ركل أحد الحلادين في بطنه ووجه لكمة قوية للآخر وأمسك بيد الفتاة وولّى بالفرار، كان صادق يحاول أن يحمي الفتاة بقدر المستطاع، كان كلما اعترض طريقه أحد الجلادين كان يوسعه ضربا،

ظلا يهربان حتى خرجا من القرية وابتعدا عنها كثيرا، توقفا لبرهة حتى يلتقطا أنفاسهما، تحدثت الفتاة وقد تبدلت ملامحها بالكامل، بعدما كانت خائفة تخشى الموت منذ قليل عاد وتجدد الأمل بداخلها ثانية:
_شكرا جزيلا لك، لا أصدق أنني تمكنت من الإفلات من قبضتهم.

تبسم صادق قائلا:
_هذا واجبي يا صغيرتي،
حدقت به الفتاة وقالت باندهاش:
_صغيرتك!!! أنا لست صغيرة يا سيدي أنا أبلغ سبعة عشر عاما أي في سن الزواج كيف تقول لي صغيرة؟!.

ضحك صادق وقال:
_وهل قانون قريتنا الذي ينص على أنه يتوجب عليكِ الزواج في مثل هذه السن المبكرة صحيح!؟ ليس ذلك فقط وإنما إن رفضتِ ذلك فستكونين حينها حكمتِ بموتكِ لا محال، قانوننا ظالم لم أتحمل حينما رأيتهم يأخذونكِ رغما عنكِ

_لماذا ساعدتني وأنت لم يسبق لك معرفتي!؟.
فقال صادق بابتسامة صافية كصفاء قلبه:
_لدي ابنه، خلتها في محلك ولم أستطع تحمل ذلك، لذا قمت بمساعدتك فربما يأتي في المستقبل من يساعدها،

تبسمت الفتاة وكادت أن تذهب لولا أن لاحظت الطوق الذي يضعه صادق حول رقبته، كان كالعقد الذي تضعه الناس ولكن لم يكن مرصع بالذهب، بل كان عبارة عن سلسال به دائرة من النحاس حفر عليها إسم جويرية بدقة وإتقان،

تحسست الفتاة ذلك الطوق وقالت:
_مذهل، إن أسم جويرية منحوت ببراعة، بالمناسبة من هذه جويرية؟!،
ابتسم صادق وقال:
_إنها ابنتي تبلغ من العمر إحدى عشرة عاما.

تبسمت الفتاة بمرح وقالت بعينين مغرورقتين:
_هنيئا لها بوالد مثلك، إن كنا في غير هذا الظرف لكنا تحدثنا كثيرا وكنت تعرفت إلى ابنتك ولكن عليّ الفرار قبل أن يجدونني.
ذهبت الفتاة بعيدا واختبأ صادق في كهف في الجبال لحين غروب الشمس.

عند منتصف الليل عاد صادق إلى القرية وكان يتخفى ويختبيء كثيرا حتى يفلت من الجلادون، وأخيرا وصل إلى بيته ودلف إليه سريعا، وما إن التقط أنفاسه وشرب بعض الماء ومن ثَم قص كل ما حدث على مسمع عائشة التي انتفضت وقالت بذعر:
_لا شك في أنك قمت بعمل جيد حينما ساعدت تلك الفتاة المسكينة،

ولكن في المقابل تورطت مع أعوان الحاكم، ألا تتذكر ما حدث حينما كنت تعمل معهم!؟عندما وجدتهم يتهاونون في حقوق الناس ولم يكترث أي منهم وعندما تحدثت في ذلك الأمر قاموا بطردك من العمل، ترى ما الذي سيفعلونه هذه المرة؟!.

فقال صادق وقد طرق الخوف فؤاده:
_ماذا عليّ أن أفعل الآن؟!.
تنهدت عائشة وقالت بحزن:
_ليس أمامنا خيار، عليك أن تغادر القرية لحين أن يتناسوا ذلك الأمر، أنت تعلم أنني لا أطيف المكوث دقائق بدونك فما سيحل بي إن قاموا باحتجازك وردعي من رؤيتك؟!
_إذاً سأغادر عند الفجر.

ذهب صادق إلى فراش ابنته وقبّل جبينها ونزع الطوق من رقبته ووضعه في رقبة ابنته حتى تتذكره دائما.
غفي برفقة عائشة بجانب جويرية لم يمر سوى القليل واستيقظا منتفضين على إثر ركلات متتالية في باب المنزل،

لم يستطيع أي منهم أن يحرك ساكنا وكأنه شلّت حركتهم، لم يخض صادق لمثل هذه الإهانة من قبل، كان يُجر إلى خارج المنزل بواسطة الجلادين، وزوجته وابنته لم يكفا عن الصياح باسمه ولكن دون جدوى فقد أخذوه في النهاية.

في الصباح الباكر اجتمعت الأهالي وكان صادق مقيد في جزع النخلة، لم يمر وقتا طويلا حتى وجد الجلادون ينصبوا جزعا آخر، ظن أنهم سيعدمون زوجته ولكن فوجيء حينما رأى أحد الجلادين أتى ومعه الفتاة التي ساعدها صادق بالأمس،

كانت آثار التعذيب بادية على وجهها بوضوح، اعتصر فؤاده حينها لرؤيته لها في هذه الحالة، كان يود لو أن باستطاعته مساعتها ولكن ليس بوسعه فعل أي شيء فقد قضى الأمر وليس هناك فرصة للنجاة.

أتى الحاكم وظل يتحدث كثيرا عن الوفاء وعن الخيانة، كان يقول أن مصير الخائنين كمصير هذين الإثنين، وكان يقول أيضا أن الخيانة خطأ فادح ليس له عقاب سوى الموت، كانت صرخات عائشة وابنتها المتتالية تمزق الأفئدة، كانت عائشة ستصاب بالجنون،

لا يمكنها العيش بدون زوجها، ذهبت إلى الحاكم وأخذت تقبّل قدمه ويده كي يعفي عن زوجها ولكنه ركلها بقوة حتى سقطت أرضا، ثارت ثورة صادق حينها وأصبح يسب ويلعن الحاكم الذي لم يتحمل المزيد من الإهانة وأخذ قوسه من الجلاد والسهم وصوّب نحو الفتاة فاخترق السهم قلبها وماتت في الحال،

وعندما أخذ الحاكم سهما آخرا وأخذ يصوّبه نحو صادق، فركضت عائشة سريعا واحتضنته وهي تقول:
_لا تتركني أرجوك، ليس لي عون على الحياة سواك، جد حلا الآن كما اعتدت أن تفعل وكنت تنقذني من جوف المخاطر، لن أسامحك إن ذهبت وتركتني، لن أسامحك،

تبسم صادق وقال بحب:
_كم تمنيت أن يكون وجهك هو آخر شيء أراه،
فجأة توقف الزمن والأصوات حتى الهمسات، لم يكن هناك صوت يسيطر على مسمع عائشة سوى صوت انغماس السهم واستقراره في صدر صادق،

الألم الحقيقي كان يكمن في قلب عائشة، لقد تناثرت دماء زوجها توا وهي لم تستطع مساعدته، ظلت تنظر إليه كثيرا بينما كان هو ثابت الملامح بارد الأطراف، كانت عيناه لم تُغلق بعد فقامت عائشة بغلقها وهي ما زالت لا تدرك ما حدث،

كانت تظن أنه ليس سوى أضغاث أحلام وسينتهي وتستيقظ وهي تنظر إلى وجهه وتخبره أنها رأت كابوسا مزعجا فيطمئنها ويضمها إلى صدره بقوة كي لا تعود إليها تلك الكوابيس ثانية، ولكن لا محيص من الحقيقة،

نظرت إليه وقالت وهي تضع يديها على خديه برفق:
_لا يمكنني العيش من دونك، أجبني فقط وقل لي ماذا علي أن أفعل الآن؟! هل تتذكر حينما فقدنا جويرية ولم نجدها بجانبنا كان سوف يجن جنوننا ولم نهدأ سوى عندما وجدناها، في ذلك اليوم أنت سألتني سؤال لم أستطع حينها الإجابة عنه،

كان السؤال ترى ما الذي شعرت به جويرية حينما فوجئت بأن عائلتها ليست بجانبها؟!، الآن سوف أجيبك، حينها شعرت جويرية بالدوار الشديد ليس لأنها مرضة وإنما بسبب الشعور بالتيه، وأنا الآن أشعر بالتيه، لا تتركني أرجوك، أنت قوتي، لقد هُزمت الآن لقد خارت قواي كليا ولم يعد لدي شغف للعيش بدونك لا ترحل.

#صغيرة_الكُتَّاب
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي