إحياء الموتى

Rania.Adel`بقلم

  • الأعمال الأصلية

    النوع
  • 2022-12-14ضع على الرف
  • 93.4K

    إكتمل التحديث (كلمات)
تم إنتاج هذا الكتاب وتوزيعه إلكترونياً بواسطة أدب كوكب
حقوق النشر محفوظة، يجب التحقيق من عدم التعدي.

إحياء الموتى الفصل الأول

غربت شمس الإسكندرية معلنة بداية ليلة جديدة من ليالي ديسمبر الباردة لعام 1910م, انعكس ضوء البرق على زجاج نافذة الغرفة المضيئة لذلك المنزل الفخم في شارع فؤاد تلاه صوت الرعد الذي اختلط صداه بصوت الأمطار الغزيرة التي هطلت فجأه وتساقطت قطراتها بقوة لتصطدم بالشرفات والنوافذ عازفة لحن الطبيعة الخالد, كانت الرياح شديدة القوة في هذه الليلة الليلاء.

لم ينتبه سكان المنزل لكل ذلك فقد كان الجو متوترا داخل المنزل أكثر من خارجه, كان هذا المنزل المكون من طابقين مملوكا للتاجر الشهير عبد العظيم بك, وكان يقيم فيه هو وزوجته امال وابنته فريدة التي رزقه الله بها بعد طول انتظار.

جلس عبد العظيم بك في غرفة مكتبه بالدور الأرضي للمنزل وقد علا وجهه الحزن والألم وقد احنى رأسه في خزي وانكسار وأخذ يسترجع كل ما مر به في حياته منذ ان تزوج.

تذكر كيف كانت فرحة أسرته وأسرة عروسه المتحضرة من أرقى العائلات بالإسكندرية, تذكر انتظارهما لأول مولود الذي تأخر قدومه مثيرا الإستياء لدى والديه وأعمامه وضغوطهم عليه ليتزوج بأخرى لتنجب له وريثا لأمواله وأموال العائلة, تذكر زياراته وزوجته للأطباء الذين اكدوا عدم وجود أى موانع لحمل زوجته, تذكر زياراته للشيوخ ووقوعه ضحية للدجالين وأساليبهم الملتوية في جني المال, تذكر زياراته وزوجته لأضرحة الأولياء, تذكر تلك المرأه العجوز التي تتخذ مجلسها على رخام إفريز النافذه إلى جوار ضريح سيدي المرسي أبو العباس وكيف أستوقفته هو وزوجته أثناء زيارتهما للضريح, إنه يتذكر كل التفاصيل, يتذكرها بعبائتها السوداء وغطاء رأسها الأخضر, يتذكر نظرة عينيها الحادة التي تثير أغوار من تحدثه من خلف نقابها الأسود الذي يخفي بقية وجهها, يتذكر ذلك الحوار الغريب الذي دار بينهما حينما نادته بعدما مر بجوارها لقراءة الفاتحه والدعاء عند الضريح هو وزوجته وهي تصيح به (انتظر يا عبد العظيم، تعالى إلى هنا).

عبد العظيم: هل تناديني يا أماه؟ هل تعرفينني؟
العجوز: لقد ناديتك باسمك أوليس هذا اسمك؟
عبد العظيم: بلى هو, و لكن كيف عرفتيه؟ ومن أنتي يا أماه هل أعرفك؟
العجوز: أسمي ناجية، أنت لا تعرفني وأنا لست بحاجه إلى أن أعرفك كي أعرف إسمك أنت وزوجتك الجميله امال.
عبد العظيم: وتعرفين اسم زوجتي أيضا!
ناجية: أنت كثير السؤال، وأنا لا أحب الأسئلة، وأنا لا أريدك أنت إنما أريد زوجتك، إقتربي مني يابنيتي
نظرت امال في تردد لزوجها الذي أشار أليها بالذهاب, فتقدمت في خوف وتوتر لتقترب من ناجية.
ناجية: إقتربي يابنيتي ولا تخافي
ووضعت كفها اليمنى على رأس امال وأخذت تتمتم بكلمات غير مفهومه وهي تهز رأسها يمينا ويسارا وقد تعلقت أبصارها بالسقف المرتفع وهي ترتعد رعدة قوية كل حين وآخر لتزيل أثر القشعريرة التي تصيب هؤلاء الأشخاص.
وأخيرا رفعت كفها من فوق رأس امال وانحنت تهامسها و قد اقترب عبد العظيم ليسمع حديثهما وهي تقول ل امال.
ناجية: إرجعي إلى بيتك فاحرقي تلك الأحجبة التي ترتديها وانزعي صورة المرأة التي في غرفة نومك و اغتسلي وصلي ركعتين لله اقرئي فيهم سورة الكافرون و الإخلاص.
أومأت امال برأسها في طواعية ومد عبد العظيم يده في جيبه ليخرج ورقة نقدية ليضعها في يد ناجية التي أبعدت كفها وألقت له بنظرة عتاب حازمه.
ناجية: أبقي مالك في جيبك وغدا إذبح ذبيحه ووزع لحومها لله واجتهد في قراءة سورة مريم، وعد إلي بعد البشرى يا أبا فريدة.

تذكر عبد العظيم كيف استقبل خبر حمل زوجته بعد شهر من هذا الموقف, وكيف انطلق بعد صلاة العشاء إلى ناجية فلم يجدها في موضعها فسأل عنها وأرسله القائمين على المسجد إلى موضع جلوسها عند سور المسجد مستظله بقطعه من القماش الأخضر, انطلق يبحث عنها كالمجنون حتى رآها أمامه وانحنى جالسا على ركبتيه امامها يقبل يدها وهي تأبى وتسحب يدها وتقول له..
ناجية: يا أبا فريدة، يا ولدي، لقد صدق الله وعده لك بالذرية ولكن إحذر لأهل بيتك وحصنهم.

ولدت فريدة, و مرت الأعوام وتكبر فريدة في منزل والدها الذي لا تغادره إلا برفقة أبيها ولا تقع عليها عين أحد من الرجال, ولكن ما أن بلغت فريدة مبلغ النساء حتى توالت الأحداث الغريبة بالمنزل, أصوات في منتصف الليل تصدر من غرفة فريدة وعندما يفتحون الباب لا يجدوا شيئا, نيران تشتعل في المنزل بدون سبب وتنطفيء وحدها دون أن تخلف أية خسائر او حتى آثار, بدأت فريدة في الإختلاء بنفسها كثيرا, بدأت تقول أو تفعل أشياء غريبة و تعود لا تتذكر شيئا عن ذلك وتنكره حتى أصاب القلق و الخوف والديها.

مرة أخرى يذهب عبد العظيم إلى ناجية مصطحبا ابنته, ولكن هذه المرة ما ان رأتها ناجية حتى انتفضت وظهرت علامات الجزع والقلق في عيناها وما ان وضعت كفها اليمنى على رأس فريدة حتى جذبتها مرة أخرى في فزع كأنما لدغها عقرب بينما أطلقت فريدة صرخة عالية وسقطت فاقدة الوعي.

التفتت ناجية إلى عبد العظيم قائلة: يا ولدي، خذ ابنتك وعد بها للمنزل وأكثر من قراءة القرآن في المنزل وخاصة في حجرتها.

عاد عبد العظيم محملا بالحزن والهم وبدأ في تنفيذ وصايا ناجية, حتى جاءت ليلة جلس يقرأ القرآن في حجرة ابنته فريدة وهي نائمة في فراشها, وما أن بدأ يقرأ سورة الصافات حتى أحس بهزة في الغرفة بدأت تتزايد مع استمراره في القراءة حتى بلغ قوله تعالى (دحورا ولهم عذاب واصب) ارتجفت الغرفة وأخذت الصور والأشياء تتساقط, وبدون تفكير بدأ عبد العظيم يعيد قراءة الآية وفي كل مره يتزايد العنف, حتى انتفضت فريدة واعتدلت على فراشها في نصف جلسة, وبدأ فراشها يرتفع عن الأرض وكذلك الأريكة التي كان عبد العظيمزجالسا عليها بدأ كلاهما يرتفع, وفريدة تصرخ بصوت أجش غريب وتأمره بأن يصمت وهي تتلوى من الألم, ويبدو ان الصوت المغاير الذي يخرج من حنجرتها قد منع أبيها من التعاطف معها فاستمر في تكرار التلاوة بصوت أقوى حتى سقطت فريدة على الفراش وهتفت تستعطف أبيها بصوتها الحقيقي (إرحمني يا أبي أرجوك).

صمت عبد العظيم وتوقف عن القراءة ناظرا إلى ابنته والدموع تسيل من عينيه وانتهى كل شيء, عاد الآثاث إلى مكانه في هدوء وأغمضت فريدة عينيها ودموع الألم لازالت على وجنتيها الرقيقتين, قام عبد العظيم وجلس إلى جوار ابنته وانحنى عليها في شفقه بالغه وبدأ يمسح دموعها بكف يده بينما لازالت دموعه تسيل بغزارة, ولكن فجأه فتحت فريدة عيناها والتي كانت بيضاء تماما وأطلقت زمجرة شرسة وفتحت فمها لتغرز أسنانها في كف أبيها بقوة بالغة حتى أدمتها وتعلقت بأظفارها في وجه أبيها تخدشه وتسيل منه الدماء قبل أن ينتبه إلى ما تففعله وهي تزمجر بشراسة كأنها ذئب جريح.
كان عبد العظيم يصرخ ألما ويحاول الإفلات من براثن ابنته التي تعلقت به بقوة غريبة وكان لا زال يحمل المصحف في يده الأخرى وبدون أن يشعر ترك المصحف ليسقط على صدر ابنته لتصرخ في فزع محررة يده من أسنانها التي تركت آثار غائرة تتفجر منها الدماء ومن خدوش وجهه وفجأه دفعته فريدة بيديها في صدره دفعه قوية ليطير بعيدا ويصطدم بخزانة الملابس محطما إياها و من خلفه المصحف وأخذت تصرخ وتزمجر في ألم.

قفز عبد العظيم ليغادر الغرفة ويغلقها من خلفه بالمفتاح و يستدير ليجد امال التي استيقظت من نومها على صوت تحطم الخزانة وخرجت لترى وجهه والدماء التي تغطيه لتسقط على الأرض فاقدة الوعي.

منذ ذلك اليوم وفريدة حبيسة غرفتها لا يدخلها أحدا إلا والدها ليترك لها الطعام وترافقه والدتها لتنظفها إذا سمحت حالتها كما أنه أضاف إلى فراشها سلاسل ليقيدها في حالة بدأت في العنف أثناء وجودهما في الغرفة, كما انه أغلق نوافذ الغرفة بقضبان حديدية ليمنع دخول أو خروج أيا كان منها و صرف كل الخدم من المنزل لم يبقي إلا خادمة واحدة كانت تساعد زوجته في الاهتمام بشئون فريدة منذ مولدها ومنع الحارس من دخول حتى حديقة المنزل وبنى له غرفة صغيرة عند مدخل الحديقة وأشاع أنه أرسل فريدة لتعيش في مزرعه ريفية اشتراها بسبب حساسية أصابتها وانقطع عن عائلته ومعارفه وأصدقائه وأهمل تجارته وأعماله.

وفي إحدى الليالي خلد عبد العظيم إلى النوم بعد صلاة العشاء وقراءة القرآن ليرى رؤية مفزعه, رأى نفسه يدخل بهو منزله الفخم ولكنه قد أمتليء بأناس غريبي الشكل قد انتشروا في أنحاء المنزل كأنهم في حفل ما, نظر إليهم بتعجب شديد وأخذ يبحث عن زوجته صعد الدرج في توتر وسط تلك الكائنات الغريبة التي تنظر إليه بلامباله حتى بلغ غرفته فلم يجد زوجته هناك, خرج ليبحث عنها في غرفة ابنته فريدة, وجد زوجته قد وقفت في جزع أمام باب غرفة ابنته المفتوح على مصرعيه, دلف عبد العظيم إلى الغرفة ليجدها قد امتلئت بمشاعل من نار و تكاثفت أدخنة البخور لتمليء الغرفة وهناك على فراش ابنته وجدها تجلس على طرف الفراش وقد ارتدت ملابس العرس وقد تغطى وجهها بقطعة من القماش الشفاف, بدأ قلبه يدق في عنف وهو يقترب منها ويزيح ذلك الغطاء من على وجهها لترفع بصرها إليه ويفاجأ بعينيها بيضاء تماما, تسمر مكانه في فزع وقد ابعد وجهه في رعب عن وجه ابنته الذي بدأ يتحور ويتغير ويتشوه إلى مسخ مرعب, ثم شعر بيدين ثقيلتين توضعان على كتفيه وتجذبانه بعيدا عن ابنته, نظر إلى جواره فوجد مخلوقين بشعين يجرانه وهم يصيحون به (ابتعد عن زوجة ملك الشياطين, هي التي ستحمل أبناؤه ملوك الأرض القادمين), نظر عبد العظيم إلى ابنته وقد عادت لها هيئتها وظهر على وجهها الألم والخوف ومدت يديها له في استعطاف وهي تهتف في ضعف وتوسل (إنقذني يا أبي, إبعده عني, خذني من بين يديه) ومن خلفها نظر إليه ذلك المسخ المرعب وهو يجذبها إلى بوابة من نار, حاول عبد العظيم التقدم لإنقاذ ابنته ولكن ساقيه كانتا ثقيلتان كالجبال, حاول الصراخ والاستنجاد لكن صوته لم يغادر حنجرته, اختفى كل شيء حوله لم يبقى إلا السواد والشيطان يجر ابنته جرا إلى بوابة الجحيم وهو يطلق ضحكات شيطانية مروعه, استجمع عبد العظيم كل إرادته وقوته وصرخ صرخة عظيمة باسم ابنته (فريدة) وانتفض مستيقظا من نومه وهو يتصبب عرقا ويلهث في صعوبه ليلتقط أنفاسه.
استيقظت امال على صرخة زوجها الذي لم يمنحها فرصة السؤال عما به بل قفز من فراشه مغادرا الغرفه ليتوجه إلى غرفة ابنته ويحاول فتح الباب ولكن دون فائدة, تراجع عدة خطوات إلى الخلف ثم ارتد مندفعا نحو الباب وقد وضع كل قوته في كتفه وهو يدفع به باب الغرفة ليفتح على مصرعيه ويخر عبد العظيم داخل الغرفة ساقطا على الأرض, في نفس اللحظة التي خرجت فيها امال من غرفتها لتلحق به, كانت الغرفة مليئة بالشموع المضاءه حول الفراش وعلى النواضد والآثاث, كانت الغرفه تدور حول الفراش الذي استقرت عليه فريدة وذلك المسخ يقترب منها, مد عبد العظيم يده إلى ابنته في يأس و الغرفه تدور به بشده ثم أظلمت الدنيا من حوله.

استيقظ عبد العظيم من نومه والعرق يتصبب منه حتى أغرق وسادته وفراشه رغم برودة الجو, كان آذان الظهر قد بلغ مسامعه وأيقظه, غادر عبد العظيم فراشه وهو يستعيذ بالله من هذا الكابوس المرعب, توجه لغرفة ابنته فريدة وفتح الباب ليدخل ويجد كل شيء في الغرفة مقلوبا رأسا على عقب حتى فراش ابنته, هتف باسمها في فزع وبدأ يبحث عنها ليجدها منزوية في ركن ضيق ما بين خزانة الملابس والحائط وهي تئن في بكاء متهدج وقد ضمت ركبتيها لصدرها في خوف وأخفت وجهها بين ركبتيها وقد تدلى نصف السلاسل التي يقيدها بها في حالات هياجها بينما تدلى النصف الآخر من أعمدة فراشها.

انحنى عبد العظيم على ابنته ذات السابعة عشر عاما في فزع ورفعت رأسها إليه ومدت يداها إليه متوسلة وقد تمزقت ملابسها وبدا على جسدها ووجهها الجروح و الكدمات, انهار عبد العظيم إلى جوار ابنته وضمها إلى صدره في شدة وهما يبكيان في عنف وألم.

مرت الأسابيع والشهور وعبد العظيم لا يستطيع إبعاد ذكرى تلك الليلة عن مخيلته, وبينما هو في غرفة مكتبه فتح الباب لتدلف زوجته امال التي أصابها الهزال والإعياء وفقدت بريق عينيها الذي طالما كان يمنحه الأمل في الحياه, كانت تسير نحوه بخطوات متثاقلة وعلى غير عادتها ألقت بجسدها لتجلس إلى جواره وهي تهمس دون ان تنظر إليه في صوت متهدج
امال: لقد حدث ما كنا نخشاه
عبد العظيم: ما الذي حدث يا امال؟ أخبريني
التفتت إليه وألقت برأسها على صدره وقد أجهشت بالبكاء وهي تستكمل حديثها
امال: إنها فريدة ياعبد العظيم، إنها، إنها حبلى من ذلك الشيطان

انتفخت بطن فريدة بطريقة غريبة لا تتناسب إطلاقا مع جسدها الهزيل، فشلت جميع محاولات أمها والخادمة في التخلص من الجنين الذي كان ينمو بشراهة ويستهلك جسد تلك الصغيرة التي لا حول لها ولا قوة, كانت تتناب فريدة نوبات من الذهول ونوبات أخرى من الفزع ونوبات من الألم, كانت تسمع أصوات عديدة في رأسها حاولت الانتحار عدة مرات ولكنها كانت تتعرض للضرب في كل مرة تحاول التخلص من حياتها او من جنينها وأصبح لديها شراهة غريبة تجاه الدماء واللحوم النيئه حتى أنها جرحت يدها في إحدى المرات وظلت تشرب من دماؤها حتى أفاقت في فزع واكتشفت ما كانت تفعله.

وجاء اليوم وحان موعد الولادة في هذا اليوم الممطر من ليالي ديسمبر, تذكر عبد العظيم كل ذلك وهو في مكتبه يشعل لفافة التبغ تلو الأخرى وهو في انتظار ما سيحدث, كان تائها ما بين مشاعر متضاربة ولكن الخوف كان هو القاسم المشترك بينها, الخوف على ابنته المسكينة التي لا ذنب لها, الخوف من الفضيحة والعار فمن سيصدق تلك القصة العجيبه, الخوف من ذلك المولود الشيطاني, الخوف من ذلك الشيطان وما سيفعله بعد ذلك.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي